ترجمة وتحرير نون بوست
بين عامي 1903 و1908، كتب جبران خليل جبران الشاعر اللبناني الكبير كتاب دمعة وابتسامة، ويحتوي الكتاب على مجموعة من المقالات والقصائد، جبران كان يعي المحنة السياسية والاقتصادية التي تواجه سوريا الكبرى في نهاية العصر العثماني، حيث لجأ العثمانيون في تلك الفترة إلى استعمال الوسائل الوحشية لقمع تطلعات العرب الرامية إلى الاستقلال، ولكن جبران قارب المشكلة السياسية بأسلوب مخفف واستخدام المجاز الطوباوي المتمثل بالمحبة لمعالجتها ضمن كتاباته.
جبران يروي في دمعة وابتسامة قصة راعية بائسة وحزينة تدعى سوريا، مات الكثير من أغنامها بسبب الجفاف، وأصبحت الأراضي التي ترعى بها جدباء جرداء قاحلة، ويصور جبران قدوم شيخ إلى سوريا يتدلى شعره الأبيض على صدره وكتفيه حاملًا بيمينه منجلًا مسنونًا اسمه الدهر ويقول “سلام على سوريا” لتبدأ محادثة ما بين الراعية سوريا والشيخ الدهر، عاتبت فيه سوريا الدهر وطالبته بإنهاء الجفاف عاجلًا وليس آجلًا، الدهر قال لها إن عليها بالصبر وأردف “ما تدعينه انحطاطًا يا سوريا أدعوه نومًا واجبًا يعقبه النشاط والعمل، فالزهرة لا تعود إلى الحياة إلا بالموت، والمحبة لا تصير عظيمة إلا بعد الفراق”.
هذا القول الأخير يلخص المشاكل التي تواجهها سوريا – بكيانها الجغرافي والسياسي – منذ تم رسم حدودها بعد الحرب العالمية الثانية، المشكلة التي تتمثل في اعتناق نظرات سياسية تتهرب من الواقع لتستغرق بالخيال واعتماد وجهات نظر طوباوية هادفة إلى تأسيس الدولة الفاضلة في خضم الأزمة التي تقشعر لها الأبدان، وكفكرة جبران حول المحبة، الحرب التي لاتزال رحاها دائرة في سوريا هي طريق الحالمين والمؤمنين بوجهات النظر الطوباوية حول القضايا المعقدة مثل الأمة والدولة القومية والإسلام، وإن اختلاف النظرات الطوباوية يخفي خلفه مشاهد مفجعة من الحرب والمعاناة والحرمان.
النظام السوري
في ظل المستنقعات السياسية والكوارث الإنسانية التي تعيشها البلاد، لاتزال أفكار الدفاع عن فلسطين والدفاع عن القومية العربية بمواجهة الإرهاب الإسلامي والإمبريالية الغربية هي الأفكار المتداولة في الصحافة الرسمية السورية، كما أن هذه الأفكار مؤدلجة ضمن أفكار مؤيدي النظام السوري، وبنظرة بسيطة إلى المشهد الإعلامي الرسمي في سوريا، لابد لك أن تتساءل عمّا إذا كان القوامون على هذا الإعلام والذين يطرحون هذه المواد هم في الواقع يعيشون على هذا الكوكب، ومن الواضح أن الهتافات والشعارات والخطابات القادمة من عصر القومية العربية غير قادرة على تورية واقع استخدام هذه الشعارات كدروع خطابية تختفي خلفها وحشية الحرب الأهلية، وهنا تتمثل طوباوية “يوتوبيا” النظام بشكلها المخادع والمدمر بذات الوقت.
خطاب النظام حول القومية العربية هو طوباوي تمامًا، وهذه الطوباوية التي تهدف بظاهرها إلى تطبيق نظام حكم مثالي لا نجده إلا في يوتوبيا توماس مور أو في مدينة الفارابي الفاضلة، تخفي خلفها عقلية عنيفة وإقصائية، وذلك من خلال وصف كل سوري يعارض النظام باعتباره خائنًا وإرهابيًا ومرشحًا للفوز بجائزة البراميل المتفجرة؛ لذا يمكننا القول إن الطوباوية هنا تتمثل بشكلها السياسي والإقصائي والتدميري، والنظام السوري يصر على ممارسة هذه الطوباوية باعتبارها السبيل الوحيد لبقائه في السلطة.
دولة الخلافة
الأطراف المتحاربة في سوريا والتي تحارب تحت لواء الدولة الإسلامية (داعش)، تقدم نفسها على أنها القوى السياسية الوحيدة في المنطقة التي تحمل مفاتيح الجنة الإسلامية، مئات الأشخاص من الدول ذات الأغلبية المسلمة وأيضًا من دول الغرب انضموا إلى الدولة الإسلامية استجابة لدعوتها لبناء المدينة الفاضلة؛ فبالنسبة لمؤيدي داعش، الدولة الإسلامية الجديدة ستكون دولة العدالة، والدولة التي سيتحد فيها المسلمون – بغض النظر عن جنسيتهم ولونهم – تحت لواء الأمة الإسلامية، أما بالنسبة للمقاتلين الأجانب، فإنهم ينشدون في هذه الدولة إعادة المجد الغابر للإسلام، ولكن مثل طوباوية النظام السوري، يتضمن السرد الطوباوي الديني لداعش مشاهد الدم والدمار والاستعباد والذبح، وأن إقحام هذه الممارسات ضمن إطار إيماني مثل الجهاد، يهدف إلى ممارسة السياسية بسبل إقصائية وعنيفة، حيث إن طوباوية داعش لا تتقبل الأفكار والمعتقدات وأساليب الحياة المختلفة، وتقدم نفسها على أنها الحل الوحيد لجميع المشاكل، ملقية باللوم في إخفاقاتها على الآخرين بشكل دائم.
القوى الكبرى
نشرت صحيفة الإيكونوميست مؤخرًا مقالًا أشارت فيه أن الضربات الجوية الأمريكية تضعف مقاتلي داعش، وأشارت أيضًا أن داعش هي خرافة وهي في طور التراجع الآن، ويمكن القول إن آراء الإيكونوميست حول داعش تعكس الرؤية الطوباوية للإدارة الأمريكية التي تسعي لإقناعنا أن قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة مصممة على هزيمة داعش، ولكن كما يقول باتريك كوكبرن في مقالة له في صحيفة الإنديبندنت، التنظيم ليس في طور التراجع بل يتجه نحو ترسيخ مقومات الدولة التامة، عن طريق تضخيم ممارسات القتل الوحشي والاسترقاق.
الواقع يشير – وبخلاف ما يتم الترويج له – أن الولايات المتحدة لا تسعى لهزيمة داعش، كون مصالح الغرب في المنطقة تتطلب وجود توازن للقوى، فمن جهة أولى، أمن إسرائيل أصبح مضمونًا – ربما أكثر من أي وقت مضى – مع استمرار حرب جيرانها مع بعضهم البعض، ومن جهة ثانية، القوات المحلية التي تقاتل داعش في المنطقة – ومن ضمنها النظام السوري وإيران أعداء أمريكا – تستبعد فكرة مخاطرة الولايات المتحدة بإرسال قواتها إلى الأرض، حيث تخوض هذه القوات حربًا مجانية بالوكالة عن أمريكا، ومن جهة ثالثة، لا تسعى الولايات المتحدة لإسقاط النظام السوري في الوقت الذي يدخل فيه الاتفاق النووي مع إيران مرحلة حرجة.
بناء عليه يستمر الأمريكيون باستخدام الخطاب الطوباوي كإستراتيجية عملية لوضع حد للحرب في سوريا، حيث يحاولون إقناعنا أنهم يريدون تدريب القوات المعارضة السورية المعتدلة، وأنهم يسعون لإنهاء داعش عن طريق الضربات الجوية، ولكن الحقائق على الأرض تبين أن الدولة الإسلامية لاتزال قوية في المناطق التي تبسط نفوذها عليها، وهي مستمرة في ممارسة سياساتها المتوحشة المتمثلة بذبح الناس واستعباد النساء وتدمير المعالم التاريخية، وعلى الجهة المقابلة لايزال النظام السوري يمطر السوريين بالبراميل المتفجرة ويقتل السجناء ويدفع المدنيين لمغادرة ديارهم إلى مخيمات اللاجئين، وهنا تتمثل الطوباوية الأمريكية بشكلها المخادع والذي يخفي خلفه مشاهدًا من الوحشية والحرب الأزلية.
المصدر: ميدل إيست آي