تحيي الجزائر كل سنة في التاسع عشر من شهر مارس ذكرى عيد النصر (ذكرى إعلان وقف إطلاق النار تمهيدًا للاستقلال)، وقد درج الرئيس بوتفليقة كل سنة على نشر رسالة يوجهها للشعب الجزائري يتناول فيها مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى الدبلوماسية.
لم تكن كلمته هذه السنة لتمر مرور الكرام مع ما تضمنته مما اعتبره جانب من الطيف السياسي تهديدًا صريحًا لهم، وبين الاستغراب والاستنكار، سال كثير من الحبر حول خلفيات الخطاب.
الجزء المثير للجدل في رسالة بوتفليقة
(…)
هناك انشغالات، بل توجسات، تؤرقني، فمن الفائدة لي ولكم أن أغتنم هذه المناسبة وأفضي لكم بها، ونحن نحيي ذكرى هذا اليوم الأغر الذي بدأت، بفضله، الدولة الجزائرية الحديثة، الدولة التي حلم بها الشهداء، تخرج إلى الوجود؛ هذه الدولة التي جاءت لتخدم الشعب الجزائري الذي يصبح مدينًا لها، مقابل ذلك، بصونها والدفاع عنها لأن ديمومتها لا تتأتى بإخلاد مواطناتها ومواطنيها إلى الحياد أو إلى الوقوف وقفة المتفرج، في هذا الظرف الذي نرى فيه الكثيرين منا ينساقون، ويا للأسف، لأسباب مفتعلة باطلة، إلى سقوط أخلاقي، سقوط حضاري يتنافى وكل مقومات المواطنة الصادقة المسؤولة.
لما كنت من هذا الشعب ونذرت حياتي لخدمته ومقاسمته سراءه وضراءه، يملي عليّ الضمير والمنصب حيث بَوَّأَني، بمحض اختياره، أن أصارحكم وأقول لكم إنني متوجس خيفة مما قد يُقْدِمُ عليه، من منكرات، أناس من بني جلدتنا اعترتهم نزعة خطيرة إلى اعتماد سياسة “الأرض المحروقة” في مسعاهم إلى الوصول إلى حكم البلاد حتى ولو كان ذلك على أنقاض دولتنا وأشلاء شعبنا.
إنني أرى جموعًا من أدعياء السياسة، تَعْمدُ، صباح مساء، إلى بث الخوف والإحباط في نفوس أبناء هذا الشعب وبناته، وإلى هد ثقتهم في الحاضر والمستقبل، إلا أن أراجيفهم لم تنطل، ولن تنطلي، على هذا الشعب الأبي الأريب الذي يَمْقُتُ الشر ومن يتعاطاه، ولا يروم سوى الخروج مما بقي من تخلفه بتحويل طاقة شبابه، كل شبابه، إلى حراك وطني، شامل عارم، يبني ولا يهدم.
نحن، الآن، أمام حالة اضطرار إلى إعمال الحزم والصرامة، كل الحزم والصرامة، في الدفاع عن هذه الدولة، فهو واجب دستوري، واجب قانوني، واجب شرعي وأخلاقي لا يجوز لا تأجيله، ولا التقاعس عنه. (…)
المعارضة تستهجن
استهجن رئيس “جيل جديد”، جيلالي سفيان، خطاب الرئيس بوتفليقة بمناسبة عيد النصر، لما تضمنه من تهديد وكلام حاد تجاه المعارضة والصحافة، وقال جيلالي إن “بوتفليقة تحدث في رسالته باسم عصابة، فأطلق تهديدات لم يسلم منها أحد، في وقت كان مفروضًا عليه تهدئة الأوضاع”، وأفاد سفيان، في ندوة صحفية خصصها لـ “المدرسة الجزائرية”، عقدها بمقر حزبه في العاصمة: “ملاحظتنا الأولى في غرابة المصطلحات والمفاهيم التي لم يسبق له استعمالها طيلة 16 سنة، كلام خطير وبالغ الشدة والحدة، في حين كان مفروضًا عليه تقديم تنازلات وتهدئة الأوضاع، لكن ظهر يتحدث باسم عصابة يهدد الجميع، معارضة وصحافة”.
في سياق متصل، اعتبر رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، الرسالة التي وجهها الرئيس بوتفليقة للجزائريين، بمناسبة عيد النصر، والتي تضمنت تهديدات للمعارضة، مظهرًا من مظاهر صراع الأجنحة في قمة هرم السلطة، وجدد الدعوة لانتقال ديمقراطي يجنب البلد المخاطر التي تتهدده.
وقال مقري: “ما تضمنته رسالة الرئيس يعتبر مظهرًا من مظاهر صراع العصب في قمة هرم السلطة”، وقدر بأن الرسالة “موجهة لأطراف وأجنحة داخل النظام ومؤسسات الدولة عبر المعارضة”.
واعتبر رجل حمس الأول حزبه غير معني بما وصفه “صراع العصب” وقال إنه “لا يعنيه”، لافتًا إلى أن رسالة الرئيس الأخيرة “مقلقة للطبقة السياسية وتهدد استقرار البلاد، بدل العمل على تقوية الوحدة الوطنية والاستقرار، وهي غير معهودة من القاضي الأول للبلاد”، كما قال.
وفيما بدا تشكيكًا في اطلاع الرئيس على ما يكتب ويذاع باسمه، دعا رئيس حركة مجتمع السلم، القاضي الأول إلى “مخاطبة الشعب بشكل مباشر للتأكد من مصداقية الرسائل المكتوبة التي يقرأها البعض نيابة عنه”.
وقال علي بن فليس، رئيس الوزراء سابقًا والمتحدث باسم حزب طلائع الحريات المعارض، في بيان أمس، إن “حالة شغور السلطة تجعل من الصعب معرفة من هو المسؤول الأول في البلاد”، في إشارة إلى أن الرئيس مريض، ومنسحب من الحياة العامة، وأنه لم يخاطب الجزائريين بنفسه في ذكرى عيد النصر.
أما حزب النهضة فجاء رد فعله عن طريق المكلف بالإعلام في الحزب محمد حديبي، الذي قال إن خطاب بوتفليقة يؤشرعلى أن الدولة تسير ضد الديمقراطية، وإن السلطة هي التي اعتدت على الدستور وذلك بوقوفها في وجه التعددية وعدم تحديدها للعهدات، وهذا يؤكد أن السلطة تتواجد في حالة حرجة أمام مطالب المعارضة.
الموالاة ترحب
اعتبر رئيس تجمع أمل الجزائر عمار غول، رسالة بوتفليقة بمناسبة عيد النصر، بأنها كانت قوية في مضمونها، وأكدت مرة أخرى أن مسألة الأمن والاستقرار خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ودعا غول الطبقة السياسية لتثمينها والالتفاف حول مضمونها، وأوضح غول، خلال افتتاحه الندوة الوطنية الاقتصادية والاجتماعية التي نظمها حزبه بزرالدة بالعاصمة، أن رسالة رئيس الجمهورية هامة جدًا لاسيما في هذا الوقت بالذات، حيث كانت بمثابة السد المانع لأي انزلاق من أي جهة، داعيًا الطبقة السياسية لتثمينها والالتفاف حول مضمونها.
وأكد غول أن أمن واستقرار الجزائر خط أحمر لا يُسمح لأي كان بتجاوزه أو المساس به، وأوضح أن سقف الحراك والتراشق ينزل في بعض الأحيان إلى مستوى تهديد أمن واستقرار البلاد، مضيفًا أن الجزائر حققت العديد من المكتسبات بفضل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جسدها رئيس الجمهورية، داعيًا في هذا الإطار إلى تثمين هذه المكتسبات والحفاظ عليها وفي مقدمتها مكسب السلم والأمن والاستقرار.
تهديد من أجل تمرير الدستور بدون استفتاء
تشير المعلومات المسربة إلى أن الرئيس بوتفليقة حسم أخيرًا مسألة ورشة تعديل الدستور، التي بقيت معلقة منذ إطلاقها من قبله في خطابه الشهير في أبريل 2011، بينما كانت البلاد مهددة بموجة ما عرف بـ “الربيع العربي” حينها.
وتشير المصادر إلى أن الرئيس بوتفليقة قرر أخيرًا تحاشي عرض مشروع تعديل الدستور على الاستفتاء الشعبي، بعد أن توجس خيفة من عدم تجاوب الجزائريين مع هذا المشروع، وفضل الاكتفاء بإحالته على البرلمان بغرفتيه، وذلك في النصف الثاني من الشهر المقبل، بعد أن تكون هذه الورشة قد استهلكت أكثر من أربع سنوات.
في انتظار التأكيد الرسمي لما تداولته بعض الصحف الجزائرية عن الموت النهائي لفكرة الدستور التوافقي، يبدو أن بوتفليقة أراد في خطابه أن يمهد الأرضية لإعلان قرار الاستغناء على مسار الاستفتاء، بالإضافة إلى أنه أثبت وجود تخوفات حقيقية لدى السلطة الجزائرية من أن تنتشر احتجاجات الجنوب التي لها علاقة بقرار استخراج الغاز الصخري (مدينة عين صالح) .