زيارة لم تأخذ الزخم الإعلامي المقدم كعادة زيارات الجنرال السيسي إلى مختلف البلدان، وإن كان هدفها المعلن هو التصديق على وثيقة الاتفاق الموقعة بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة المزمع إقامته من قبل إثيوبيا، كان هذا هو حال زيارة السيسي بالأمس إلى العاصمة السودانية الخرطوم.
أكدت مصادر سودانية أن الزيارة لم تبدأ في يوم التصديق الذي أُعلن عنه أمس الإثنين، بل إن وصول السيسي إلى الخرطوم أتى قبل ذلك بقليل وبه أجندة هامشية تتعلق بالنظام السوداني وعلاقته بالقاهرة، بعد تردد أنباء مخابراتية عن ضلوع السيسي في دعم معارضين للنظام السوداني باستضافتهم في القاهرة من أجل إحداث تغيير داخل السودان، وهو ما أثارغضب السلطات السودانية التي تتأهب لخوض انتخابات مصيرية في الأيام المقبلة وسط اضطرابات سياسية مع المعارضة في الداخل.
لا شك وأن نظام السيسي في القاهرة يحتاج إلى السودان في هذه اللحظات الحرجة، خاصة فيما يتعلق بالملفين الليبي وملف سد النهضة الإثيوبي، إذ إن القاهرة تعلم جيدًا دور السودان المحوري في الصراع القائم حاليًا بالداخل الليبي، غير أن القاهرة ضغطت على الخرطوم في غير مرة كي تغير من سياستها الداعمة لقوات فجر ليبيا المسيطرة على طرابلس؛ وهو ما جعل الخرطوم تستقبل رئيس وزراء ليبيا المدعوم من البرلمان المنحل عبدالله الثني، ولكن على الأرض لم تغير هذه الزيارة البروتوكولية من موقف السودان الحقيقي تجاه الملف الليبي، ما يزيد من اهتمام السيسي بالسودان في هذه الفترة بعد اتجاه القاهرة للعب دور أكثر حسمًا في ليبيا من خلال تورط عسكري وشيك.
من جهة أخرى، يأتي ملف سد النهضة والذي حارت القاهرة في سبل إنهاء أزمته، حتى اضطرت القاهرة للتوقيع على وثيقة اتفاق مع إثيوبيا والسودان عن طريق وزير الخارجية دون علم أحد، ثم فوجئ الجميع، بما فيهم إعلام السيسي نفسه، بأن أمر سد النهضة الإثيوبي تم حله والأمور تسير على ما يرام أو هكذا يتوهمون.
الحقيقة أن ثمة جهات مصرية سيادية قد استفاقت على خبر توقيع مصر لهذه الوثيقة والتصديق عليها من قبل الرئاسة، رغم تحذير عدة جهات أكاديمية وبحثية من الإقدام على هذه الخطوة قبيل استكمال الدراسات الفنية لأمر السد وتبعاته على مصر.
اكتشف السيسي وأجهزته السيادية فجأة بعد توقيع وزير الخارجية على الوثيقة التي تعتبر هي الأولى من نوعها التي تتعلق بسد بمائي، فعند إنشاء مصر للسد العالي تم توقيع اتفاقية بالفعل لتقسيم المياه ولكنها غير متعلقة بالسد، وهذا لأن الجانب الإثيوبي يحرص كل الحرص على انتزاع موافقة الجانب المصري على بناء أول سد وهو سد النهضة وهو ما معناه موافقة مصر على بناء سلسلة سدود إثيوبية، ستبدأ إثيوبيا في تنفيذ سدها الثاني على النيل الأزرق في 2018، ومصر لا تستطيع الاعتراض على هذا الإجراء.
هذه الوثيقة يروج المصريون، على لسان وزير الموارد المائية، بأنها ملزمة للجانب الإثيوبي في الأخد بملاحظات المكتب الفني الاستشاري المشرف على بناء السد في حالة إذا ما كان السد سيضر بالجانب المصري، وهو ما يوجب على الجانب الإثيوبي تعديل مواصفات السد حال ثبوت ذلك، الأمر الذي نفاه وزير الموارد الإثيوبي إلمايهو تيجنو، في تصريحات إعلامية لوسائل إعلام إثيوبية وهو ما أدركته مصر أيضًا ولكن عقب التوقيع، حيث إن المناقشات التي سبقت توقيع الاتفاق الثلاثي في الخرطوم لم تتطرق على الإطلاق إلى التحكم في السعة التخزينية لسد النهضة، كما أن إثيوبيا لا يمكنها أن توافق على شىء من هذا القبيل.
هذه الوثيقة – الموقعة في الخرطوم – مجرد وثيقة سياسية لم تشمل الجوانب الفنية، والعناصر الأساسية في الاتفاق السياسي الموقع في الخرطوم، وتقتصر على إقرار مبدأ الاستخدام العادل لمياه النيل مع منع إلحاق الأذى بأية دولة من الدول المشتركة في حوض النيل، وهذا ما هو إلا كلام فضفاض لا يوجد آليات لمراقبته وتنفيذه.
هذا الأمر لم يتم تدواله في الإعلام المصري مطلقًا، ولكنه انتشر في عدة وسائل إعلام سودانية وإثيوبية، حتى شكك محللون في السودان وإثيوبيا في إمكانية إتمام الاتفاق بالتصديق النهائي من قبل رؤوساء الدول الثلاثة ولكنه تم بالفعل أمس، ولكن مع تململ مصري في الإقدام على هذه الخطوة.
الجانب المصري لجأ إلى السودان في حل هذه المشكلة، لما للسودان من نفوذ لدى الجانب الإثيوبي، ولكن السيسي لا يعلم أن السودانيين يأخذونه إلى حيث لا يدري في مجاهل أفريقيا، فالسودان دولة ذات موارد مائية متعددة وإذا تأثرت حصتها من مياه النيل الأزرق فلديها من الموراد الأخرى ما يكفي لسد حاجتها الضئيلة، مقارنة بحاجة الجانب المصري الذي لا يمتلك تلك الموارد المائية السودانية.
حيث يتجه السيسي إلى إثيوبيا لإجراء مباحثات مع الرئيس الإثيوبي ورئيس الوزراء والبرلمان بشأن الوثيقة برعاية سودانية غير معلنة بعد التوقيع على الوثيقة، في محاولة لضمان حقوق مصر المائية عن طريق هذه الوساطات والمقابلات لكن الواقع لا يعترف بهذا كله، فسد النهضة بعد هذه الوثيقة أصبح سدًا رسميًا من شأن الممولين أن يعودوا إليه بتمويلهم دون مخافة الوقوع تحت طائلة القانون الدولي، التمويل الذي بلغ 5.5 مليار دولار من بنك الصين الوطني، وملياري دولار من إيطاليا وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى موافقة البنك الدولي على طرح السندات الإثيوبية للتمويل بضمان السد، بعد رفضه لوجود نزاع حول فكرة إنشاء السد من الأساس، هذا النزاع الذي انتفى بعد توقيع هذه الوثيقة بين دول المنبع ودول المصب؛ فأصبح من حق السد رسميًا وفقًا للقانون الدولي الحصول على تمويلات دولية من كافة الجهات المانحة، لتصبح جميع الوساطات السودانية في هذا الشأن ما هي إلا خداع للمصريين ليس إلا، وتعلق من المصريين بأمل زائف في إمكانية ضمان حصة مائية عادلة بعد إتمام السد، غير أن الجانب الإثيوبي لن يتراجع أنملة عن إنشاء السد وغير وارد في حساباته حاليًا تعديل تصميمات إنشائه.
إثيوبيا تعتزم أن تنهي إنشاء السد قبيل صدور التقرير النهائي للمكتب الفني الاستشاري بخصوص السد، على الرغم من كون هذا التقرير غير ملزم ولكن لتتفادى الوقوع في حرج، حيث إن التقرير سيصدر خلال 15 شهرًا على الأقل، وهي فترة كافية لإتمام إنشاءات السد المتبقية التي توقفت لفترة بسبب النزاع حول السد، وعند الفراغ من إنشاء السد لا يمكن للتقرير الصادر عن المكتب الفنى أيًا كانت نتائجه أن يشكل إلزامًا للجانب الإثيوبي، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لموارد مصر المائية وحصتها من مياه النيل إذا ما تم مرور هذا السد، فإن ثمة خبراء في الأمن المائي يؤكدون أن هذا السد ما هو إلا بداية لسلسلة سدود أثيوبية مكونة من خمسة سدود ستعصف بالحصة المائية لدول المصب.
أرادت مصر أن تحسم الصراع في ملف المياه بإنجاز اتفاقية سريعة برعاية السودان مع إثيوبيا إلا أنه يبدو وأن الجنرال قد تورط فيه؛ لذا أخذ القرار بالذهاب إلى أديس أبابا بنفس الرعاية السودانية لمحاولة الحديث مع الجانب الإثيوبي في مسألة تعديل التصميم الخاص بالسد، وهي لا شك محاولات يائسة ولن تجدي لأن الجانب الإثيوبي رفض وساطات دولية كثيرة لحل الأزمة، عن طريق تخفيض السعة التخزينية للسد وهي نقطة الخلاف مع مصر، ليتضح أن الجانب المصري بقيادة السيسي قد تورط في هذا الأمر بلا رجعة، ولن يبقى طويلاً أثر النشوة الإعلامية الزائفة بتوقيع هذه الوثيقة الكارثية على الأمن المائي المصري، وليجلس الجنرال وأذنابه ليفكروا في كيفية تبرير الأزمة المائية التي ستصبح عليها الدولة المصرية في يوم بات وشيكًا.