في استطلاع للرأي أجري العام الماضي لصالح البي بي سي، أزاحت ألمانيا الولايات المتحدة الأمريكية عن لقب أكثر بلد ذي شعبية في العالم، لتصبح البلد المحبوب الجديد بين مختلف سكان العالم، حيث رأي معظم من شارك في الاستطلاع أن ألمانيا تؤثر في العالم بشكل إيجابي، بيد أن هذه الصورة الإيجابية موجودة خارج أوروبا فقط على ما يبدو، حيث تبدو شعبية ألمانيا، أو على الأقل الحكومة الألمانية، في تراجع شديد في بلدان شتى بأوروبا نتيجة هيمنتها السياسية والاقتصادية المتزايدة.
“الرايخ الرابع: كيف قهرت ألمانيا أوروبا” هو عنوان كتاب نُشِر مؤخرًا للصحافيَّين الإيطاليَّين فيتوريو فلتري وجينّار سانجيوليانو، يتحدثان فيه عن هيمنة ألمانيا على الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية، وهي إشارة قوية بالطبع، أن تُستَخدم كلمة رايخ، وكل ما تحمله من ذكريات سيئة عن التوسع العسكري الألماني، خاصة النازي، لوصف صعود ألمانيا في السنوات الأخيرة، بيد أنه منتشر في الحقيقة بين كثيرين، خاصة في اليونان وإيطاليا وإسبانيا حيث سياسات التقشف الألمانية المكروهة.
مدام نو!
“أنا وحيدة نوعًا ما في الاتحاد الأوروبي، ولكنني لا أبالي، فأنا على صواب”، هكذا قالت ميركل ذات مرة لمجموعة من مستشاريها أثناء المناقشات حول السياسات المالية ودور صندوق النقد الدولي في أوروبا، “موقعنا في أوروبا مثل موقع الأمريكيين في العالم: القوة القيادية المكروهة”/ هكذا قالت “مدام نو” Madame Non، كما تُعرَف، والتي ينظر لها الجميع دومًا حين ينتهي قادة الاتحاد الأوروبي من أي حديث أو خطاب لمعرفة رد فعلها قبل أن يبدأ في تكوين موقف أو رأي.
في يونيو الماضي، وبعد جولة مفاوضات ضمت المستشارة الألمانية أنغلا ميركِل ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، فشلت لندن في إقناع برلين بألا تمضي قدمًا في ترشيح رئيس وزراء لوكسومبرغ السابق جيان كلود جانكر رئيسًا جديدًا للمفوضية الأوروبية، وهو المعروف بدوره في صياغة سياسات التقشف المكروهة، والمفروضة على إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا، والداعم لتعزيز وحدة الاتحاد وسلطاته في وقت بدا فيه للكثيرين أن التراجع خطوة للخلف والاستماع لنقّاد الاتحاد سيكون أفضل في هذه المرحلة، خاصة وأن أعداء اليورو قد تقدموا كثيرًا في انتخابات البرلمان الأوروبي بشكل غير مسبوق فيما عُرِف بالزلزال الأوروبي الصيف الماضي.
بيد أن هذه الزلزال لم يجد صدى في ألمانيا على ما يبدو، ولم تكترث به المستشارة الألمانية، والتي صممت أن ترشح جانكر ليتولى المنصب بالفعل، ثم تبعته بدونالد توسك، البولندي المعروف بمواقفه الشديدة ضد روسيا، في وقت تحدث فيه كثيرون عن أخطاء في السياسة الأوروبية تجاه موسكو، لاسيما في أوكرانيا، وهو ترشيح كانت تقف خلفه أيضًا ميركِل، فيما يوضّح مدى تنامي قوة برلين داخل الاتحاد، مقابل تراجع فرنسا وبريطانيا.
الزلزال الأوروبي
خلال الأسبوع الماضي، تنفّس الجميع الصعداء في فرنسا بعد أن حل حزب الجبهة القومية اليميني المتطرف ثانيًا، بعد أن كان متوقعًا له أن يكون الأول في الانتخابات الإقليمية، وهو ما يثبت في الحقيقة كيف هيمن الحزب في فترة قصيرة على الساحة السياسية الفرنسية ليصبح حلوله بالمركز الثاني خسارة له، وهو لم يكن من الأحزاب الثلاثة الرئيسية حتى وقت قريب، إلا أنه قد صعد مع موجة الأحزاب المعادية للاتحاد الأوروبي ومؤسساته في السنوات الأخيرة، ومن المرجّح أن تكون زعيمته مارين لو بِن منافسة بقوة في الانتخابات الرئاسية لعام 2017.
“أريد أن أدمّر الاتحاد الأوروبي، ولكن ليس أوروبا، أنا أؤمن بأوروبا المكوّنة من الدول القومية والتي تعتمد على التعاون فيما بينها، أما هذا الاتحاد الأوروبي السوفيتي فلا أريده، حين أسمع من يعبرون عن كراهيتهم للألمان، أقول لهم ألا يلوموا ميركل، فاليورو القوي يصب في مصلحة ألمانيا، ولكن ليلوموا قياداتنا الضعيفة التي لا تدافع عنا، اليورو خُلِق من ألمانيا ولألمانيا، وإذا تخلصنا منه سيحصل الألمان على عملة أقوى تناسبهم، في حين سنحصل نحن على عملة أقل قيمة مناسبة لكي يتنفّس اقتصادنا، ألمانيا هي قلب أوروبا الاقتصادي ولكن عليها ألا تنسى أن فرنسا هي قلبها السياسي”، هكذا تحدثت مارين لو بِن دون مواربة عن طموحاتها بإخراج فرنسا من اليورو في حوار صحافي مع مجلة شبيغل الألمانية، وهي توجهات تشاركها فيها أحزاب أخرى، أبرزها حزب استقلال بريطانيا.
مارين لو بِن بين أنصارها في فرنسا
ظهر حزب استقلال بريطانيا UKIP على الساحة السياسية في السنوات الأخيرة موجهًا هجومه للاتحاد الأوروبي ومؤسساته، ولسياساته التي تسمح بحرية الحركة بين حدوده، لاسيما منذ عام 2007 بعد انضمام رومانيا وبلغاريا للاتحاد، واتجاه مئات الآلاف من المهاجرين منهم بسهولة من الشرق إلى الغرب بحثًا عن العمل أو الهجرة، وهو ما أدى لتزايد أعدادهم خاصة في بريطانيا، وصعود نجم نايجل فاراج، رئيس الحزب الجديد، والذي لا يخفي نزعاته العنصرية، حيث سُئِل ذات مرة عن الفرق بين زوجته الألمانية والمهاجر القادم من شرق أوروبا، بالنظر لكونهما غير بريطانيَّين، وكان الرد بوضوح، “أعتقد أنكم تعرفون الفرق جيدًا، نحن نريد سياسة هجرة مهتمة بالجودة لا بالعدد (!)”.
بالإضافة إلى فرنسا وبريطانيا، والبلدان الأهم في أوروبا مع ألمانيا، هناك موجة يسارية قوية تجتاج دول الجنوب الأوروبي التي تخضع لأوامر الألمان الاقتصادية في اتباع سياسات التقشف، وهي ممثلة في حزب سيريزا الحاكم الآن في اليونان، وبوديموس في إسبانيا، والنجوم الخمسة في إيطاليا، ورُغم إحباط الكثيرين من تراجع سيريزا عن مواقفه الراديكالية بعد دخوله الحكم وخضوعه للضغط الألماني، إلا أن البعض يرى أن وجود سيريزا وحده حتى الآن يجعله معزولًا، ولكن مع انتخابات إسبانيا في نهاية العام، والتي قد تجلب بوديموس، ومع تزايد رغبة إيطاليا وفرنسا في خلق سياسات بديلة للتقشف الألماني نظرًا لوجود أحزاب يسارية معتدلة في السلطة، قد يتشكّل بسهولة تحالف جديد بين هذه الأحزاب يؤدي لاصطدام بين الشمال والجنوب في أوروبا.
نايجل فاراج زعيم حزب استقلال بريطانيا
المعضلة الألمانية
في خضم هذه التحولات، يبدو أن توحيد ألمانيا في التسعينيات وتحوّل القوة من الغرب إلى الشرق، ومن محور لندن – باريس إلى برلين، قد خلق تحوّلًا في الرؤى الاقتصادية لا تناسب على ما يبدو شعوب الجنوب الأوروبي، بالإضافة إلى اتجاه أولويات برلين نحو التوسع إلى الشرق، وضم بولندا ورومانيا وبلغاريا، وهو ما وسّع كثيرًا من نطاق الاتحاد الأوروبي، وخلق نوعًا من انعدام التوازن السياسي، فألمانيا التي لا تطل على المتوسط مهمومة بالطبع بما يجري في الشمال والشرق أكثر من سواهما، على عكس السياسة الفرنسية المتوسطة والأطلنطية في آن.
بالإضافة إلى ذلك، تبدو الثقافة الألمانية بعيدة عن ثقافات المتوسط الأوروبي، على عكس فرنسا التي تُعَد مزيجًا بين الثقافات الجنوبية والثقافة الجرمانية التي حملها إليها الفرنجة Franks، وهو ما يعني أن تراجع فرنسا لصالح برلين لا يخدم أوروبا في الحقيقة، فإن كانت ألمانيا هي القوة الأساسية اقتصاديًا، فإن فرنسا هي ميزان أوروبا السياسي والثقافي الأقدر على الوصل بين الشمال والجنوب، وبين الرؤى في لندن والرؤى في برلين.
ما تقوله مارين لو بِن عن فرنسا وقوتها السياسية في محله إذن، بغض النظر عن خطاب حزبها العنصري، وهي ربما المعضلة الألمانية التي لم تُحَل منذ نشأة القوة الألمانية على القارة بعد توحيد ألمانيا في القرن التاسع عشر، كيف يمكن أن تتعايش أوروبا مع حقيقة أن قوتها الاقتصادية، أو المادية بشكل عام، تأتي بالأساس من برلين، في حين تستمر باريس في لعب دورها السياسي والثقافي، مع العلم بأن بث النفوذ السياسي والثقافي شبه مستحيل بدون القوة المادية، كما يقول لنا التاريخ؟
مشروع الاتحاد الأوروبي على ما يبدو لم يجب عن هذا السؤال الألماني، بل حاول أن يحتوي قوة الألمان ليس إلا، لتتضخم إلى الداخل في صورة هيمنة اقتصادية، بدلًا من تضخمها للخارج في صورة توسع عسكري مباشر، وهو ما يدفع الكثيرون لنعت ألمانيا اليوم بالرايخ الرابع، وهي مبالغة بالطبع، ولكنها في نفس الوقت تذكير لساسة أوروبا بأنهم لم يحلّوا أهم معضلة في تاريخهم الحديث حتى الآن.