ترجمة وتحرير نون بوست
يخاطر 2147 رجل وامرأة بحياتهم كل يوم في سوريا لإجلاء الضحايا ومساعدة الجرحى، ويساهمون أيضًا في إنشاء ملاجئ مؤقتة وفي إصلاح الطرق ومنشآت توليد الطاقة الكهربائية، وهم يسمون فرق الدفاع المدني السوري أو القبعات البيضاء؛ نسبة إلى لون الخوذات التي يرتدونها عند القيام بعمليات الإغاثة.
قابلنا خلال الأسبوع الماضي في باريس ثلاثة من هؤلاء الأبطال المفعمين بالشباب والحيوية، وأول ما شدنا فيهم هو عمق أحاسيسهم وإصرارهم على المواصلة رغم ما عايشوه من مأساة ورعب أثناء عملهم اليومي.
أحد هؤلاء الأبطال هو رائد، الذي جاء من سرمين وهي بلدة في شمال سوريا أغار عليها طيران النظام السوري بالبراميل المتفجرة التي تحوي غاز الكلور في السادس عشر من شهر مارس الجاري، ويُذكر أن هذه هي المرة الألف التي يخرق فيها بشار الأسد القانون الدولي رغم القرار 2209 الذي أصدره مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل عشرة أيام والذي يدين استعمال غاز الكلور والأسلحة الكيمياوية في سوريا.
كان “رائد” في سرمين أثناء الغارة وأكد أنها أوقعت 6 قتلى من عائلة واحدة، منهم عجوز وثلاثة أطفال بالإضافة لتسعين جريحًا منهم عشرون شخصًا إصاباتهم بليغة، كما قدم تفاصيل دقيقة ومعلومات طبية بهدوء ورصانة لافتين، رغم الغضب والحزن اللذين يملئان قلبه.
ومنذ أن بدأ النظام بالاعتماد على البراميل المتفجرة لمعاقبة الأحياء السكنية، أًصبحت يد رائد منشغلة طوال الوقت برفع الأنقاض وتحريك الكتل الأسمنتية والأعمدة وشق الجدران للبحث عن الأجساد المحاصرة، على أمل إيجاد ناجين تحت أنقاض المباني التي طالها القصف.
كم من مرة قامت أيادي رعد وجهاد وفاروق بإغلاق كيس بلاستيكي فيه جثة طفل قُتل تحت منزله المنهار؟ وكم من نقالة على متنها جريح يحتضر حملتها تلك الأيادي؟ وكم من مرة قامت هذه الأيادي الخشنة والمتصلبة التي تبعث على الشعور بالأمان بإنقاذ طفل رضيع تملكه الرعب في ركن صغير بجانب جثتي والديه؟
ينتمي جهاد ورعد وفاروق إلى هؤلاء الألفين ومائة وسبعة وأربعين قبعة سورية بيضاء الذين أنقذوا مئات الأرواح منذ تأسيس هذه الفرق.
ويقول هؤلاء المتطوعون إن كل واحد من هؤلاء الرجال، والنساء أيضًا البالغ عددهن تسعين امرأة، له دور بارز ومساهمة فعّالة في إنجاز العمل الخطير الذي ذهب ضحيته حتى الآن سبعة وثمانون من زملائهم أثناء عمليات الإنقاذ، كما أن طيران النظام استهدف مقراتهم في مدينة حلب في سبتمبر من العام الماضي، وقام أيضًا بتمرير أسماء الكثيرين منهم ضمن قائمة أصحاب الجوازات المزورة التي يرسلها للبلدان المجاورة، وهو ما عرقل مجيء متطوعين آخرين كان يفترض أن يشاركوا في هذه الجولة الأوروبية الهادفة للتعريف بدور القبعات البيضاء.
هذا الصباح بينما كنا نجلس حول مائدة خشبية ونتناقش نظرت إلى أياديهم، وبدا لي أن هؤلاء الأبطال مرتبكون ولا يدرون ماذا يفعلون بتلك الأيادي التي شعرت أنها أصبحت بلاقيمة في كنف هذه الراحة والرفاهية الباريسية، بعد أن تعودت على العمل والحركة في ساحات الموت في سوريا.
لقد خرجت فرق الدفاع المدني المعروفة بالقبعات البيضاء من رحم التنسيقيات المدنية التي تأسست منذ بداية الثورة قبل أربع سنوات، وهي تنشط اليوم في المناطق المحررة التي يعتمد نظام الأسد ضدها على سياسة العقاب الجماعي، من خلال حرمانها من الخدمات العمومية والكهرباء والماء وتكثيف الغارات الجوية بشكل متواصل منذ سنة 2013.
وأخذ هؤلاء السوريين المبادرة بشكل تطوعي وبروح إيجابية لإجلاء الضحايا ومساعدة الجرحى وإنقاذ حياتهم، وهم يقومون أيضًا بتشييد المنازل المؤقتة وتصليح الطرقات وإعادة تشغيل المنشآت الكهربائية، كما أن النساء تعلمن كيفية تقديم الإسعافات الأولية والمساهمة في تهيئة الملاجئ.
ويقوم عمل القبعات البيضاء على مبدأ مساعدة كل المصابين حتى لو كانوا تابعين لميليشيات النظام أو للمجموعات المتطرفة ويقولون في هذا السياق “قمنا مؤخرًا في تل شعير شمالي حلب، بإنقاذ عنصر من تنظيم داعش تعرض لجروح بليغة وأوصلناه للمستشفى، ولكننا لا نقوم بالتنسيق مع هذه المجموعات وهي بدورها لا تمنعنا من ممارسة مهامنا لأن الجميع يعلم أن عملنا هو إنساني بحت”.
ويستحضر الشاب رائد صلاح الانفجار الذي هز سوق دركوش في محافظة إدلب في الرابع عشر من شهر أكتوبر 2013 الذي يمثل أكثر الأحداث رعبًا وألمًا بالنسبة إليه: “عندما وصلنا كنا عاجزين تمامًا بسبب ارتفاع ألسنة اللهب، وافتقادنا للمعدات اللازمة لمجابهة الحرائق مثل خرطوم المياه وسيارات الإطفاء والسلالم المتنقلة، في ذلك اليوم عملنا لأكثر من ست ساعات متواصلة لنخرج من هذا الجحيم مائة وعشرين جريحًا وستون قتيلاً منهم عشرون جثة متفحمة تمامًا”.
ويقول رائد الذي كان قد أخذ زوجته وابنيه في سنة 2011 ليستقروا في تركيا، قبل العودة لبلده والتطوع ضمن الدفاع المدني: “علمتنا مأساة سوق دركوش الكثير من الدروس فقد فهمنا بأنه يتوجب علينا تطوير قدرة المواطنين العاديين على القيام بأعمال الإنقاذ، وتلك كانت الانطلاقة الحقيقية للقبعات البيضاء”.
أما فاروق أبو سالم فقد كان في السابق مقبلاً على مسيرة مهنية ناجحة في مجال البنوك، قبل أن يصبح عضوًا باللجان الثورية لمدينة حمص ويتعرض للسجن والتعذيب في سجون النظام ثم لجأ إلى تركيا المجاورة، وهو يعمل اليوم كمستشار لدى المنظمة الغير حكومية Mayday rescue التي تعمل كوسيط بين الدول المانحة كالمملكة المتحدة وهولندا واليابان والدنمارك من جهة، ومنظمة القبعات البيضاء من جهة أخرى، لأن هذه المنظمة لا تستطيع الحصول على مساعدات دولية مباشرة بسبب العقوبات المفروضة على سوريا.
كما شرعت المنظمة الفرنسية أطباء بلا حدود منذ نوفمبر 2014 في تقديم المساعدة لشبكة متكونة من ثمانين متطوعًا من القبعات البيضاء في محافظة إدلب، تتمثل أساسًا في إرسال وسائل الإسعاف الأولي والتضميد والتلقيح ضد الالتهاب الكبدي والكزاز.
وقد قام فاروق بمغامرات محفوفة بالمخاطر، لمساعدة الصحفيين الأجانب على إنجاز تحقيقات وصور حول الوضع في سوريا، ورغم ذلك فهو لم يخف خيبة أمله تجاه ما أسماه خيانة الغرب للشعب السوري، ويقول إن المجتمع الدولي يغمض عينيه ويحاول تجاهل حقيقة مأساة سوريا “لقد ناضلنا باسم القيم التي تتبنونها أنتم وهي الحرية والكرامة والمساواة وظننا أن نضالنا سيلقى صدى في العالم الغربي ولكنكم تخليتم عنا”.
أما جهاد محمد وهو من درعا فقد كان يرتدي قميصًا ورديًا ومعطفًا أزرقًا يبدو أنه اشتراهم من باريس ليحضر في مظهر لائق، بعد أن أمضى بعض الوقت تحت التعذيب في أقبية سجون النظام في انتظار تنفيذ حكم بالإعدام، قبل أن ينجو بفضل صفقة تبادل أسرى تمت خلالها مقايضته بضابطين سوريين محتجزان لدى الجيش السوري الحر.
ويروي جهاد تفاصيل اليوم الذي سيبقى عالقًا في ذاكرته عندما عثر على فتاة صغيرة عمرها سنتين قابعة تحت أنقاض منزلها وكيف أن هذه البنت بقيت متمسكة بيديه لساعات ورفضت تركها، ورغم أن فاروق يبدو مستاءً من الموقف الغربي فإن جهاد يحافظ على أمله وتفاؤله ويظهر طيبة لا متناهية.
وفجأة التفت جهاد إلى الرجل الجالس بجانبنا وقال “ألم تعرفني؟ أنا من ساعدك على مغادرة سوريا، أنا من ساعدك على الاختباء لمدة 24 ساعة وعبور الحدود نحو الأردن”، لقد كان يوجه كلامه إلى نجاتي طيارة الكاتب السوري الناشط في مجال حقوق الإنسان، الذي تعرض للسجن ثم أطلق سراحه في بدايات سنة 2012 قبل أن يطلب اللجوء في فرنسا.
نظر نجاتي جيدًا في وجه جهاد وقال إنه وجد صعوبة في التعرف عليه لأن ويلات الحرب تغير قسمات الوجوه، كان وجه جهاد في تلك اللحظة يشع فرحًا بعد أن قابل على سبيل الصدفة وعلى بعد آلاف الكيلومترات من حمص “نجاتي طيارة” الذي يعتبر من أيقونات الثورة السورية ولأنه شعر بأن المخاطر التي خاضها لمساعدة هذا الشاعر لم تذهب سدى.
في ذلك اليوم قابلت ثلاثة أبطال سوريين، أبطال حقيقيون أثلجت مقابلتهم صدري.
المصدر: صحيفة سلايت الفرنسية