ضرب الإرهاب مرة أخرى في تونس، لكن هذه المرة في متحف باردو الذي يقع في العاصمة التونسية، تحديدًا في محيط مبنى مجلس نواب الشعب، وهي أكثر منطقة يُفترض أن تكون مؤمنّة أمنيًا وعسكريًا لأن التنظيمات الإرهابية – بإجماع تونسي- تستهدف التجربة الديمقراطية الرائدة في العالم العربي وتعمل على إطفاء آخر شمعة مضيئة في الربيع العربي، وكان من المفترض أن تكون كل مؤسسات الدولة خاصة الحيوية محاطة بحزام أمني مشدد لكن هذه المرة أظهرت الجماعة الإرهابية المنفذة للعملية أنها تستطيع فعل ما لا يمكن توقعه وكشفت عن إستراتيجية جديدة في تنفيذ الهجمات داخل المدن بعد أن كانت ترتكز في الجبال وتقوم بهجمات مباغتة للدوريات الأمنية.
ومع كل ضربة إرهابية تتلقاها تونس، يطفو من جديد ملف ذهاب الشباب التونسي إلى سوريا للانضمام للجماعات الإرهابية، وتتباين الآراء والتحليلات عن أسباب هذه الهجرة “الدموية” وعن الدوافع التي تجعل من الشاب التونسي أن يضحي بحياته في معركة ليست معركته باسم “الجهاد في سبيل الله” ودفاعًا عن راية الإسلام كما يقولون.
كثرت المواقف والآراء واختلفت وتباينت لكن الحقيقة واحدة؛ الشباب التونسي مثّل المصدر الرئيسي للتمويل البشري للجماعات المسلحة في سوريا والعراق، حيث أحصت صحيفة ” واشنطن بوست” الأمريكية حوالي ثلاثة آلاف تونسي هاجروا إلى سوريا والعراق بعد الثورات وأغلبهم انظم إلى ما يعرف بـ “تنظيم الدولة” ليحتلوا المرتبة الأولى ضمن مَجْمَع الأقليات المقاتلة في المنطقة.
وعموما، فلإن كانت الظاهرة واحدة فإن الأسباب تعددت وتبقى في مجملها عوامل طرد وهي التي تدفع الشاب التونسي إلى ترك موطنه والدخول في متاهة لا يُعرَف من يحركها، ومحفزات الاستقطاب التي يتم من خلالها ترغيبه للانضمام لهذه الجماعات، عموما، تعددت الأسباب الجوهرية وتنوعت، منها الدينية ومنها الاجتماعية ومنها السياسة، ولئن تنوعت فإن البيئة واحدة؛ فالحياة الدينية في تونس وعلى امتداد عقود من الزمن منذ استقلال البلاد عن فرنسا سنة 1956 عرفت تصحرًا علميًا وروحيًا وفكريا واضحًا خاصة بعد غلق جامع الزيتونة من قِبل رئيس الدولة الحبيب بورقيبة سنة، ومنذ تلك الفترة بدأت تونس تدخل تدريجيًا مرحلة الركود في العلوم الدينية والفقهية وأصبحت المساجد بوقًا للدعاية للنظام وتابعة له وحتى الدروس التي تُقدم سطحية تهم جوانب مُجمع عليها منذ قرون تجعل الشاب التونسي ينفر منها وأصبح يفضل قراءة الكتب التي تطرح المسائل الخلافية منها الجهاد وشروطه وأصبح يميل إلى الخطابات الدينية الحماسية التي تحرك وجدانه وتحفزه لأن ينصر دينه بأي طريقة وبأي ثمن كان، أضف إلى ذلك الانتشار السريع للقنوات الدينية مع تسعينيات القرن الماضي والعشرية الأولى للقرن الخالي، حيث أصبح الشاب التونسي يميل للاستماع إلى الشيوخ الذين تميزوا بتشددهم في التعامل مع النص القرآني والسنة النبوية الشريفة والموروث الإسلامي ومع اجترارهم لنفس المسائل يكون قد تشكّلت عنده قناعة أن ما يقولونه هو الدين الحق وغير ذلك هو مبتدع ودخيل عن الاسلام.
أما الجانب الاجتماعي في المسألة، فيتمثل أساسًا في البيئة الاجتماعية الرديئة التي عاش فيها أغلب شباب تونس الذين اختاروا هجرة الموت إلى سوريا والعراق، بيئة أنتجتها سياسة الدولة المركزية من خلال تهميشها للمناطق الداخلية على حساب العاصمة ومنطقة الساحل التونسي، فعندما تنفتح أعين هذا الشاب التونسي يجد نفسه في منطقة فقيرة تغيب فيها المرافق الأساسية والمؤسسات الخدماتية والصحية وبنية تحتية هشة وأحيانًا كارثية ونسب بطالة مرتفعة مع غياب فرص التشغيل التي صارت بدورها خاضعة لمبدأ المحسوبية والرشوة، كل ذلك يقتل فيه تدريجيًا حب الحياة والأمل بمستقبل أفضل، ثم صُقِل رغما عنه كشخصية انتقامية قابلة للانفجار في أي لحظة وما حصل في سيدي بوزيد عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه عندما ضاق صدره من واقعه الاجتماعي إلا دليل على ذلك.
هذا المشهد الاجتماعي الذي ترعرع فيه الشاب التونسي، يحيلنا مباشرة إلى الواقع السياسي الذي كان سببًا في كل ما سبق، فسياسة الدولة التونسية قبل الثورة شأنها شأن بقية السياسات في العالم العربي التي تقوم على الاستبداد والتسلط، فالنظام القمعي البورقيبي والبوليسي مع بن علي هضم حقوق الناس وقمع حرياتهم، لاحق كل التيارات الإسلامية من الإخوان والسلفيين وجماعات الدعوى ووضعهم في السجون كي تخلو له الساحة، وانتشر الفساد في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، وأصبح المواطن مراقبًا في كل تحركاته وأفعاله، هو مواطن خيِّر إن كان من رواد المقاهي ومائل للملاهي، وهو مواطن خطير إن كان ملتزمًا ومن رواد المساجد، وقمعت الحريات الدينية وكل مظاهر التدين من حجاب ولحي وملبس، فصارت قناعة عند الشاب التونسي أن هذا النظام كافر شأنه شأن بقية الأنظمة العربية ولولا بطش الآلة الأمنية للنظام لخرجوا عليه باسم الجهاد، وكانت قد حصلت محاولة عندما تكونت خلية أرادت الانقلاب على النظام بالسلاح في أحداث “سليمان” سنة 2006 والتي تسببت في ملاحقات عديدة لكل من تلتصق به شبهة ولو كانت باطلة.
هذه السياسة البوليسية للدولة التي همشت المناطق الداخلية وحرمتها من التنمية الشاملة والتي كرست مبدأ التفاوت الاجتماعي بين الفئات وخاصة بين المناطق، ومع هضمها للحقوق الفردية والجماعية وقمعها للحريات العامة؛ كانت قد أنتجت شبابًا بعقلية انتقامية قابلة لرد الفعل بأكثر شراسة من شراسة الدولة القمعية.
مع الثورة التونسية ومع هروب بن علي، افتك التونسي حرياته وأصبح حرًا، ولم تعد المساجد بوقًا دعائيًا للنظام ولم تعد فارغة مثل قبل، بل أصبحت مستقلة عن الدولة إمامًا وخطبة، فصارت أغلب المساجد تحت سيطرة الخطاب الديني المتشدد الذي استحسنه الشاب التونسي وانجرف معه في نسق تحشيدي متصاعد بما أنه لم يتعلم تعاليم دينه وعاش في بيئة جافة، فرآه خطاب الحق للدين الحق، وصار يتبنى المنهج الجهادي في كل تفاصيل حياته، ومع الحشد لهذا التيار الفكري الجديد الغريب عن البلاد أصبحت لأغلب الشباب رغبة في الجهاد والموت في سبيل الله في أرض ليست أرض جهاد، ومع بداية الثورة السورية ودخولها في مرحلة التقاتل بعد أن كانت شعبية، ومع تكون الجماعات المقاتلة صار هذا الشاب التونسي قد تهيّأ ليكون مقاتلاً وليموت في سبيل الله مثلما يريد، فبدأت موجهة الهجرة نحو المجهول خاصة مع انتشار فيديوات على الإنترنت تصور بطولات لتلك الجماعات وقع إخراجها في غاية من الحرفية التي تقوم على ثنائية الترغيب والترهيب؛ ترغيب الشاب العربي للانضمام إليهم وترهيب المجتمع الغربي، وعند مشاهدة الشاب التونسي لتلك المقاطع يأخذه حماسه هناك عقلاً وقلبًا إلى أن يلتحق جسده بهم.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن المجتمع التونسي نفر من هؤلاء وأصبح يتجنبهم بعد أن تورطوا في أعمال عنف ممنهج، فتشابكت كل هذه الأسباب وصارت هناك فئة مستعدة للموت في سبيل ما يؤمنون وما يحملون من منهج، وهو ما جعل أعين الذين امتهنوا تجارة البشر تترصدهم عن طريق شبكات إقليمية ودولية لتهريب المقاتلين إلى سوريا بعد أن يتم تدريبهم في معسكرات أُعدت للغرض ولأهداف إستراتيجية ظهر بالكاشف أن المخطط يصب في إدخال المنطقة العربية في صراعات لا نهاية لها تمهيدًا لعودة الأنظمة إلى سالف نشاطها الاستبدادي بعد فسحة من الحريات، كي تبقى الدول العربية مُلحقة وتابعة بالكامل للقوى العالمية.