كوستاريكا: جمهورية من الموز إلى الديمقراطية

جذبت كوستاريكا أنظار العالم العام الماضي بأداء فريقها القوي في بطولة العالم لكرة القدم، والذي وصل إلى الدور الرُبع النهائي لأول مرة في تاريخه ليخرج بركلات الترجيح وبصعوبة أمام هولندا، بيد أن كوستاريكا على ما يبدو لم تتوقف عند هذا الحد، حيث ذهبت لأبعد من ذلك هذا العام بتحقيق اعتماد على الطاقة البلدية بنسبة 100% حتى الآن.
نعم، حتى هذه اللحظة من العام 2015، لم تستخدم دولة كوستاريكا أي فحم أو نفط أو غاز لتوليد الطاقة لسكانها البالغ تعدادهم خمسة ملايين، إذ تعتمد البلاد بشكل أساسي الآن على طاقة الرياح والطاقة المائية والشمسية، فنظرًا لغزارة الأمطار هذا العام، يبدو أن محطات توليد الطاقة امتلكت ما يكفي ويزيد لإنارة كوستاريكا، والتي لا تحتاج إلى كميات كبيرة من الطاقة نظرًا لعدم امتلاكها قاعدة صناعية كبيرة، واعتمادها على الزراعة وقطاع الخدمات.
قد يظن المرء أن كوستاريكا بلد صغير غني على شاكلة دول الخليج أو سنغافورة أو تايوان، إلا أنها في الحقيقة بلد لايزال يعاني خُمس سكانه من الفقر، ويحاول تعزيز نموه الاقتصادي، ولكنه يتمتع بميزة ربما غير موجودة في بعض الدول النامية: نظام ديمقراطي راسخ منذ أكثر من نصف قرن، ومؤسسات عامة قوية وشفافة، حصل عليها الكوستاريكيون بدمائهم في حرب استمرت 44 يومًا.
جمهورية الموز
منذ استقلالها عن إسبانيا في القرن التاسع عشر، ومحاولة فاشلة من حاكم نيكاراغوا لغزوها، ظهرت نخبة جارديا في كوستاريكا، لتهيمن على البلاد حتى نهاية القرن التاسع عشر، والتي دشن حُكمها توماس جارديا، وهو سياسي عسكري حاول خلق طبقة سياسية جديدة من المقربين منه ومن أسرته، وشرع في مشروع لتحديث البلاد تضمن بناء سكة حديد تصل شواطئ المحيط الهادي بمنطقة مِستا سنترال، وهي الواقعة في قلب كوستاريكا وتضم معظم المدن الكبيرة، ليجلب المهندس ورائد الأعمال الأمريكي ماينور كوبر كيث لمساعدته.
في الحقيقة، كان المشروع عبئًا ماليًا على كوستاريكا آنذاك، ولم تكن هناك عمالة كافية لتنفيذه، إذ رفضت الطبقات الوسطى في قلب البلاد الضلوع فيه، في حين كانت الطبقات العاملة تعاني من الأمراض آنذاك، وهو ما دفع جارديا للبحث عن عمالة من الخارج، قبل أن يقرر تمرير كافة السلطات إلى كيث، والذي وضع يده على الأراضي، لا ليبني السكة الحديد بنفسه، ولكن ليبدأ مشروع لزراعة الموز، أملًا أن تكون الأرباح المجنية منه كافية لتمويل السكة الحديد.
اشتهرت تجارة الموز في تلك الفترة، وكانت واحدة من أسباب رواج مصطلح جمهوريات الموز فيما بعد، والذي يُستخدم الآن للإشارة إلى البلدان التي تعتمد على سلع محدودة في دخلها القومي، وتتسم بنظام سياسي غير ديمقراطي أو مضطرب، وبالطبع، لم تُبن السكة الحديد.
بعد وفاة جارديا، ظهر جيل جديد من الليبراليين على يد خوسيه ردوريجيز ونجح في إزاحة أنصار جارديا، بيد أنه تحوّل سريعًا إلى الديمقراطية الشكلية، ليصبح جونزا فلورِس رئيسًا رُغم عدم ترشحه أصلًا بعد اختيار الكونجرس له إثر فشل المرشحين في الحصول على الأغلبية الكافية في انتخابات 1914، وقد قام فلورِس بمحاولة إرضاء المواطنين عبر توزيع الدعم في صورة مستحقات مادية، وهو ما تطلب بالطبع زيادة الضرائب على تجارة القهوة، الأكبر والأهم في اقتصاد كوستاريكا منذ استعمار الإسبان لها، بيد أن تلك لم تكن كافية نظرًا لاشتعال الحرب العالمية، وتدهور اقتصاد أوروبا، وبالتالي هبوط أرباح القهوة.
قرر فلورِس إذن التوجه مباشرة نحو أموال الطبقات الغنية بزيادة الضرائب عليها، لتبدأ موجة تحويل أموالهم للخارج للهروب من إجراءاته الجديدة، وهو ما زاد الطين بلة، وأدى لانقلاب عسكري عام 1917، ولكنه لم يحظ بتأييد الولايات المتحدة؛ مما أدى لعودة الانتخابات مجددًا، وإن ظلت غير شفافة ومحدودة.
حرب التحرير الوطنية
في الأربعينيات، ظهر رافاييل كالديرون جارديا، أحد المنحدرين من أسرة جارديا، ونجح في الهيمنة على النظام السياسي خلال رئاسته بين عامي 1940 و1944، ثم رشّح حليفه الضعيف تيودورو بيكادو عام 1944 نظرًا لعدم قدرته على الترشح مرتين متتاليتين كما يقول الدستور، وقد كان بيكادو مجرد لعبة في يد كالديرون بطبيعة الحال، وقد استخدم القوة العسكرية للحفاظ على الأمن الداخلي نظرًا لتزايد الاحتجاجات الشيوعية في البلاد، والتي أدت إلى تعطيل عجلة التجارة في مرات عدة.
في عام 1948، ترشّح كالديرون مجددًا كما كان متوقعًا، بيد أنه هذه المرة لم يكن مرشح اليمين بل اليسار، إذ أدى دعمه للحلفاء في الحرب العالمية الثانية إلى عداء مع الألمان الموجودين في كوستاريكا، وقد كانوا مجموعة كبيرة من ذوي النفوذ، لاسيما في تجارة القهوة؛ مما خلق توترًا بينه وبين النخبة الغنية والمحافظة، ليتحول كالديرون ببساطة نحو القيادات العمالية والميليشيات الشيوعية بحثًا عن قاعدة سياسية جديدة.
ثوريو كوستاريكا
في هذه الانتخابات خسر كالديرون مقابل منافسه، الصحافي أوتيليو أولاتي، وهي نتائج رفضها كالديرون واتهم لجنة الانتخابات بالتزوير، لينجح في إلغاء النتيجة، وتنصيب نفسه رئيسًا، وتبدأ الحرب الأهلية بين قواته من ناحية، وقوات الثوريين التي تشكّلت بقيادة فيجويرِيس، والتي كانت خليطًا من اليمين المعادي للشيوعية، والعناصر المحافظة التي خشيت على تدمير تجارة كوستاريكا، ومجموعة من الديمقراطيين الاجتماعيين الذي رأوا أهمية الحفاظ على دولة الرفاهة بدون الجنوح ناحية الشيوعيين كما فعل كالديرون.
حظي الثوريون بدعم الولايات المتحدة والنظام الاشتراكي في جواتيمالا، في حين لم تجد الحكومة التي ادعت أنها شيوعية سوى دعم الديكتاتورية اليمينية في نيكاراغوا، لتستمر الحرب الأهلية 44 يومًا، وتنتهي بعد مقتل أكثر من ألفين كوستاريكي بانتصار قوات فيجويرِيس، وتُعرَف فيما بعد بحرب التحرير الوطني، والتي أسست قواعد النظام الديمقراطي المعمول به إلى اليوم في كوستاريكا، والذي قام بكتابة دستور حل فيه الجيش، واعتمد على التحالف مع الولايات المتحدة لتأمين حدوده.
***
دشّن النظام الجديد مجموعة إصلاحات حافظ بها على دولة الرفاهة التي بدأها كالديرون باسم الشيوعية وطوّرها، وسمح للنساء وذوي الأصول الأفريقية بالتصويت في الانتخابات، والذين حُرموا من هذا الحق حتى قيام الحرب، لتتمتع كوستاريكا اليوم بطبقة وسطى قوية ومتعلّمة، ومؤسسات عامة ذات مصداقية وشفافية معروفة في أمريكا الوسطى واللاتينية، وخدمات تعليمية وصحية على مستوى أعلى كثيرًا من جيرانها، واقتصاد من أفضل خمسة في أمريكا اللاتينية، والآن، منظومة طاقة بديلة تجعل البلد الصغير في غنى عن الفحم والنفط والغاز، وعن كافة أنواع التلوث الصادرة منها.
لورا تشينشيا رئيسة كوستاريكا بين عامي 2010 و2014 بين أنصارها