ترجمة وتحرير نون بوست
منذ الصغر، يتم تلقين تلاميذ المدارس اللبنانية أن السلعة الوحيدة الرائجة في البلاد هي علم شعبها، إلى جانب إرث ريادة الأعمال الذي ورثه اللبنانيون عن أجدادهم الفينيقيين في مجال الملاحة البحرية، وبناء على هذه القاعدة، تم توجيه الاقتصاد اللبناني بشكل رئيسي نحو قطاع الخدمات، بما في ذلك خدمات التمويل والسياحة.
ولكن الاكتشاف الأخير للنفط قبالة السواحل اللبنانية أبرز عددًا من التحديات الجديدة أمام الاقتصاد اللبناني وأمام النخبة السياسية الحاكمة على حد سواء، وكانت المشكلة تتمثل أساسًا، بالكيفية التي يمكن من خلالها التأكد من أن هذه الموارد الطبيعية لن تقع فريسة للمطامع الإقليمية والمحلية التي اشتهرت بها لبنان على طول الزمان.
في عام 2010، تم تقدير أن حوض بلاد الشام – الذي تتشاركه لبنان مع إسرائيل وقبرص – يحتوي على 122 ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج، و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج، وطالب لبنان حينها بحصة من هذه الاحتياطيات تبلغ 30 ترليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و660 مليون برميل من النفط.
بطبيعة الحال، استقبل الشعب اللبناني هذا الخبر بسرور غامر، كون عائدات النفط من شأنها تخليص البلاد – نظريًا – من الدين العام الذي يثقل كاهل اللبنانيين والبالغ 100.345 مليار ليرة لبنانية “66،56 مليار دولار”.
ومع ذلك، فإن اكتشاف النفط اللبناني والرغبة في الاستفادة من هذا المورد المكتشف حديثًا، يتطلب السعي في مسار طويل وشاق، والتغلب على عقبتين رئيسيتين تجثمان على طول الطريق، تتمثل الأولى في خلفيات الأمن الإقليمي المتعلقة أساسًا بالصراع الإسرائيلي مع حزب الله، أما العقبة الثانية، – والأشد تعقيدًا ربما – تتمثل في وصول النخبة السياسية الحاكمة إلى اتفاق على رؤية وآلية مشتركة لتشغيل ونجاح هذا المشروع.
الصراع الحدودي
العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية منظمة من خلال اتفاق الهدنة لعام 1948، وقرارات مجلس الأمن التي أعقبت الاتفاق والتي تُوّجت بالقرار 1701 الذي أنهى الحرب الإسرائيلية لعام 2006 على لبنان، ولكن العامل الأهم في هذه المعادلة هو حالة الحرب المستمرة بين دولة إسرائيل وحزب الله، اللذان يعطيان لنفسيهما الحق في خرق الهدنة في الوقت الذي يجدانه مناسبًا.
من حيث المبدأ، فإن احتمالية التنقيب والاستفادة من النفط والغاز، يمكن أن تكثّف الانقسامات بين الجانبين، إثر محاولاتهما الحثيثة للاستيلاء على هذه الثروات التي ترقد تحت قاع البحر، وليس أدل على ذلك من التصريحات الإسرائيلية اللبنانية في عام 2010، التي أعقبت النزاع على الحدود الفاصلة لأحد حقول النفط، حيث صرح عوزي لانداو وزير البنية التحتية الإسرائيلي محذرًا لبنان بقوله “لن نتردد في استخدام عزمنا وقوتنا ليس لحماية سيادة القانون فحسب وإنما لحماية القانون البحري الدولي أيضًا”، وبالمقابل، أجاب حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله على هذه التهديدات بتهديدات مماثلة، حيث أشار بوضوح إلى إن “أولئك الذين يؤذون منشآتنا ستتم أذية منشآتهم”.
إن هذا الوضع المعقد والمتوتر يجب أن يثبّط – نظريًا – رغبة أي شركة نفط أجنبية للتنقيب عن النفط في لبنان، ولكن على أرض الواقع، دفع احتمال الحصول على الثروات العديد من الشركات لتجاهل هذه المخاطر، حيث تلقت هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان في مسابقة التأهيل المسبق للشركات، 52 طلبًا من قِبل شركات رائدة في صناعة النفط، ومن بين هذه الشركات، تأهلت إثنتي عشرة شركة كمشغّل صاحب حقوق وأربع وثلاثون شركة كغير مشغّل صاحب حقوق، وأن شركات مثل شيفرون وإكسون موبيل وميرسك وشيل وتوتال ليست سوى بعض الكيانات التي تنوي الخوض في غمار عدم يقينية النفط اللبناني.
إذن، من الواضح أن التحديات الإقليمية لا تخيف الكيانات المهتمة بالاستفادة من النفط اللبناني، ربما لكون الخلافات حول ترسيم الحدود النفطية أو أي مشاكل قد تنشأ عن التنقيب عن النفط، ينظمها القانون الدولي والوكالات الدولية الواسعة والسوابق القضائية والقانونية.
من جهة أخرى، رغم أن أطراف الصراع لا يحتاجون إلى سبب حقيقي لإشعال فتيل الحرب، بيد أن اكتشاف النفط سيستفيد منه الجانب اللبناني – بما في ذلك حزب الله – والجانب الإسرائيلي، وبالتالي من المتوقع أن يعمد كلا الجانبين إلى الاستمرار باستخدام لهجة التهديد والوعيد الخطابي، ولكن بذات الوقت سيتجنبان تحويل هذه الخطابات إلى أفعال، وفضلًا عمّا تقدم، فإن معظم شركات النفط الكبرى معتادة على العمل في مناطق النزاع، وهي تدرك جيدًا أن الغرم بالغنم، بمعنى أن المخاطر الكبيرة ستأتي بالمكافآت الكبيرة، ولبنان ليس استثناءً من هذه القاعدة.
هذا يقودنا للقول بأن هذه الشركات التي لم تتوجس وتنثني من التحديات الإقليمية للنفط اللبناني، قد تطوي عزمها نتيجة للعقبة الأكثر تعقيدًا وصعوبة التي تواجه رحلة النفط اللبناني والمتمثلة بالاقتتال الداخلي في لبنان.
النزاعات الداخلية
إن العقبات الأكثر صعوبة التي تجثم في طريق تدفق النفط هي التحديات الداخلية، وبشكل أكثر تحديدًا إرادة الطبقة الحاكمة على الوصول إلى اتفاق لرؤية مشتركة حول القطاع النفطي.
يمكن للجميع أن يتصور حجم هذه الصعوبة من خلال فشل الفرقاء في البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس للجمهورية بعد المرة الـ20 على انعقاده، حيث مازال منصب رئيس الجمهورية شاغرًا في لبنان منذ 25 مايو 2014، وقد انعكس هذا الجمود السياسي على جميع الجوانب الأخرى للحكم بالدولة، ابتداءً من الإحجام عن تعيين مديرين حكوميين في الرتب الحكومية المتدنية، وليس انتهاءً بالإحجام عن إصدار المراسيم الأكثر أهمية مثل المراسيم اللازمة لبدء عملية التنقيب والاستخراج.
الحكومة اللبنانية السابقة أصدرت في أبريل 2012 المرسوم رقم 7968 لعام 2012، القاضي بإحداث هيئة إدارة قطاع البترول في لبنان، أما الحكومة الحالية فمازالت تعلّق التصديق على مرسومين هامين بخصوص الثروة النفطية؛ الأول هو مرسوم إطلاق التراخيص للشركات التي ستلتزم “البلوكات” النفطية، والثاني هو مرسوم اتفاقية تقاسم الإنتاج مع الشركات التي ستكون مسؤولة بعد انتهاء المناقصات عن أعمال الحفر والتنقيب والاستخراج، وفي الوقت الحالي، يبدو أن هذين المرسومين تم وضعها في الأدراج العميقة لمجلس الوزراء، دون التصريح عن أي موعد نهائي للاتفاق يلوح في الأفق.
ولكن على الرغم مما تقدم يبقى الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن قضية النفط اللبناني برمتها تفتقر إلى رؤية أو إستراتيجية رئيسية معتمدة لإدارة المصادر البترولية، كون انعدام الرؤية والإستراتيجية يهددان بانهيار الاقتصاد اللبناني، وفي قضية إدارة الموارد البترولية تبرز تجربتان دوليتان على طرفي نقيض، يجب أن تكون الدولة اللبنانية على بينة ومعرفة بهما؛ النموذج الأول يسمى بالمرض الهولندي وهو في النهاية السلبية لأساليب إدارة الموارد البترولية، أما النموذج الذي يقع في النهاية الإيجابية فهو النموذج النرويجي، والمعروف أيضًا باسم صندوق معاشات التقاعد الحكومي العالمي.
من خلال استقصاء الواقع، يبدو أن الحكومة اللبنانية، وفقًا لتصميمها أو ربما لتراخيها، تتجه نحو النموذج الأول “المرض الهولندي” وهو اسم لحالة من الكسل والتراخي الوظيفي التي أصابت الشعب الهولندي في النصف الأول من القرن الماضي بعد اكتشاف النفط في بحر الشمال، حيث هجع الشعب إلى الترف والراحة واستلطف الانفاق الاستهلاكي البذخي، فكان أن دفع ضريبة هذه الحالة ولكن بعد أن أفاق على حقيقة نضوب الآبار التي استنزفها باستهلاكه غير المنتج، وبالطبع فإن هذه الطريقة في الإدارة لا تبشر بالخير للبنان على الأقل في المدى الطويل.
بدلًا من ذلك، يجب على الحكومة أن تسعى إلى اختيار النموذج النرويجي الذي يأخذ بعين الاعتبار التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تنتج عن النفط، حيث يعمد هذا الأسلوب إلى الحد من ارتفاع حرارة الاقتصاد بسبب الاعتماد على عائدات النفط والحد من عدم اليقين بسبب تقلب أسعار النفط، وتوفير وسادة لحماية الفئة المتقدمة في العمر من السكان عن طريق وضع الأموال الناجمة عن القطاع النفطي في المجالات الاستثمارية المتمثلة بالصندوق السيادي “صندوق معاشات التقاعد الحكومي العالمي”.
ولكن على أرض الواقع، يمكن القول إن النخبة الحاكمة أو الجهات الحكومية المعنية بهذا الموضوع، ليس لديهم حتى الآن رؤية تتعلق بالنمو الاقتصادي المستقر أو دور النفط في الاستخدام المحلي أو في مجال التصدير.
عهدنا في لبنان سابقًا انعدامًا في الرؤية المستقبلية عندما تم استقدام قطاع الاتصالات إلى لبنان في منتصف عام 1990، حيث تم إدخال القطاع إلى البلاد من قِبل الراحل رفيق الحريري، وتم التخطيط لاستخدام واردات هذه الصناعة بنفس الطريقة التي يجري الآن التفكير بها لاستخدام الموارد النفطية، أي لتخليص لبنان من العجز الاقتصادي، ولكن نتيجة لعدم وجود أهداف واضحة ولسوء التنفيذ، فشل هذا القطاع بشكل ذريع، وما من مثال أوضح على فشله من الترتيب الذي حصل عليه لبنان في سرعة الإنترنت عالميًا في المركز 176 بسرعة لا تتجاوز الـ3.2 ميغابت في الثانية.
أخيرًا، وفي ظل اكتشاف النفط والغاز في لبنان، يجب على اللبنانيين اتخاذ القرار إما بتحريك العجلة النفطية إلى الأمام من خلال تبني رؤية جادة نحو مستقبلهم النفطي، أو التخلي عن الحلم تمامًا والاستغراق في الاستثمار في المؤسسات الأقل خطورة؛ فمثلًا صناعة الصنوبر في لبنان تمثل أملًا اقتصاديًا واعدًا، حيث يبلغ سعر الكيلو الواحد 70 دولارًا وهو مبلغ جيد بالمقارنة مع مبلغ الـ 50 دولار لبرميل النفط الواحد، وربما كان تردد لبنان في اتخاذ القرار بالدخول إلى المعترك النفطي، نعمة على البلاد من خلال تجنيبها الخسارة التي نجمت عن انخفاض أسعار النفط في الفترة الأخيرة بعد كل شيء.
المصدر: ميدل إيست آي