مدخل
كثيراً ما يثير بعض الكتّاب والإعلاميين بل وحتى الدّعاة الصوماليين قضية عدم شرعية الدستور المؤقت، ويبررون رفضهم له لاختياره الفيدرالية، التي تكرّس للانقسام في المجتمع الصومالي، ولاعتماده النّظام البرلماني، ما يضعف سلطة الرئيس ويزيد من احتمالات التّصادم بينه وبين رئيس الوزراء، وقد شهدت أيام عبد الله يوسف رئيسين للوزراء، في حين مرّ بنا ثلاثة رؤساء وزراء في فترة رئاسة شريف، بسبب تنازع الصلاحيات. فالرئيس هو من يعين رئيس الوزراء ولكنه لا يملك إقالته ولا فرض وزراء بعينهم عليه، والشعب الصومالي لم يتقبل بعد فكرة أن لصلاحيات الرئيس حدوداً لا يجوز أن يتعدّاها دستورياً. وبالرّغم من هاتين المعضلتين، قام مجلس الشعب بالتصديق على المسودة، وبناء عليه اختير الرئيس الحالي، وعيّن رئيس الوزراء، إذاً، فهو من النّاحية الإجرائية شرعي، وينقصه الاستفتاء الشعبي وتلك مهمّة الحكومة وعليها إعداد الأمة وتهيئتها للاستفتاء على الدستور بنعم أو لا، وعلى اللجنة الدستورية للبرلمان أن تقوم يتحديد الفقرات والمواد المختلف عليها، وإعادة صياغتها والتوافق عليها؛ والتوافق لا يعني الاتفاق المطلق عليها، بل الوصول لحلول وسطى لا تلغي أي من الطرّوحات.
خلفية عن الدّستور:
جدير بالذّكر أن الفكرة التي تأسس عليها الدستور -الفيدرالية- نتجت عن مؤتمر المصالحة الماراثوني (الدوريت/أمبغاتي) في كينيا عام 2003م، إذ صدر مثياق وطني، عملت بموجبه حكومتا عبد الله يوسف وشريف شيخ أحمد، وأدّت إلى وضع هذا الدستور، وكذلك رسم خارطة للطريق أنهت الفترة الانتقالية الطويلة الممتدة لثلاثة عشر عاماً، وجرى التّصديق عليه قبيل اختيار حسن شيخ محمود رئيساً لأول حكومة شرعية للبلاد منذ سقوط النّظام العسكري في مستهّل التسعينات.
إنّ الدستور الصومالي المؤقت، لم يُعدّ بصيغته الحالية عبثاً، فالبلاد مرّت بتجربة مريرة تحت حكم عسكري قاس للغاية، عمل على زرع الفتنة بين أبناء الوطن على أساس عشائري، وأساء توزيع الدّخل القومي، وهمّش أقاليم كثيرة، واختصر الصومال كله في مقديشو- أقصد الخدمات- من أجل إحكام قبضته على رقاب النّاس.
أعقب هذا النّظام، حرب أهلية بشعة، قامت فيها الفصائل الصومالية بتصفية بعضها البعض، ووصفت بعضها على أنّها “تطهير قبلي”، فخسر الجميع، وانقسم النّاس، فمنهم من أعلن الانفصال الأحادي الجانب، ومنهم من قرر إقامة حكم ذاتي دون انفصال كامل عن البلاد، في حين أصرّ آخرون على الاستمرار في الفوضى بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية، بينما هم في الواقع يتهربون من القبول بأي نظام نتيجة لما زرعه الحكم المركزي الظالم في ذاكرتهم.
التجربة الأخرى التي لا يمكن تجاهلها، أنّ اللا وعي الجمعي الصومالي قد رسّخ مبدأ أن الحاكم هو ابن قبيلته ولا يمثل الشعب، هذا لأنهم لم يمارسوا قطّ حق الانتخاب منذ الاستقلال، ولأن هذه الفرضية تمّ تجسيدها على أرض الواقع في كلّ مرة يأتي فيها حاكم جديد للصومال.
مبادئ الدستور
يقدّم الدستور بمجمله حلولاً للخروج من تلك الأزمات من خلال مبادئه الأساسية، ومنها:
أولاً: الفيدرالية
وهي حلّ لمشكلة المركزية التي عاشتها الصومال، وعلاج للتهميش، ولئلا يُلقى باللّوم على الحكومة بإعاقة التنمية كما كان يحصل سابقاً، تتحمّل الإدرات الإقليمية هذه المسئولية، وأوضح الدّستور كيفية تشكيل هذه الولايات “أن بإمكان أي إقليمين أو أكثر تشكيل ولاية اتحاديّة” ولم يقل أي إدراتين، لعدم وجود إدارات في أغلب الأقاليم الصومالية، وانحسار دور الحكومة الصومالية في مقديشو، وهذا يعني أنّ سكّان الأقاليم لديهم الحق في تشكيل إداراتهم على مبدأ التوافق والرّضا، وبالتّالي تقليل فرص الصدّام فيما بينها، واضطرار سكّانها للتفاهم فيما بينهم، ومن دلالات هذا المبدأ: القضاء على الحساسية بين الحاكم- وهو بحسب المفهوم التقليدي ممثل قبيلته- وبين أبناء القبائل التي تسكن تلك الأقاليم.
ولعلّ واضعي الدّستور حسبوا لطول مدّة غياب حكومة صومالية قادرة على بسط سيطرتها على كامل التّراب الوطني حسابها، ولهذا اختاروا هذه التوصيف:” إي أقليمين أو أكثر”، بدلاً من “إي إدارتين أو أكثر”، فالحكومة في تصوّر المواطنين الصوماليين ضيف عليهم، بل قل ضيف ثقيل لما تتطلبه من التزامات وانضباط لم يألفوه لعقدين أو يزيد. وإن أرادت تعيين حاكم لإقليم ما، فإن احتمال رفضه مرجح أكثر من فرص القبول، وهذا ما أرادته الحكومة الحالية، وفشلت فيه، بل أحييت شبح الحرب الأهلية مرة أخرى، وارتفعت النبرة العنصرية القبلية من جديد بعد أن كدنا ننساها.
ثانياً: البرلمانية
ما يميّز هذا الدّستور هو اعتماده النّظام الجمهوري البرلماني، ما يقلل من صلاحيات الرئيس ويجنبّ البلاد عودة الديكتاتورية والاستبداد، فالبرلمان يمثّل السّلطة الأكثر نفوذاً، ورئيس الوزراء هو رئيس الحكومة الفعلي، ويبقى الرئيس رمزاً لوحدة البلاد، ولديه صلاحيات محدودة مع أهميتها.
ثالثاً: الحريات والحقوق:
تثير الفقرات والمواد المتعلّقة بالحريات والحقوق قلق وخوف الدّعاة، ويعتبر بعضهم أنّها ضدّ الشريعة الإسلامية، وتهديداً للهوية القومية. وتتمتع بقدر كبير من الانفتاح، فالدستور يضمن حرية الاعتقاد والعبادة رغم أنّه ينصّ على عدم جواز نشر أي دين غير الإسلام، وحرية التعبير. ويكفل الحقوق المدنية للمواطنين ذكوراً وإناثاً على حدّ سواء، وخصص للمرأة حصة تصل إلى 30% من المناصب الحكومية، كما أنّه يؤكد مساواة الرّجل والمرأة في المواطنة، بحيث يحق للمرأة منح الجنسية لزوجها الأجنبي وأبنائها أيضاً، وتتيح للمدنين المقيمين لأكثر من خمس سنوات حق نيل الجنسية إن رغبوا في ذلك، وأن يحصل المولود على الجنسية الصومالية حال ولادته في التّراب الوطني. وهذا غير متوفر في أغنى الدّول العربية، لكنه أمر يتيح للصومال فرصة أن تكون دولة ذات تنوع عرقي وثقافي، وأكثر انفتاحاً على الآخرين، وتقلل من الانعزالية المفروضة عليه.
عيوب الدّستور
هذا كلّه لا يعني أنّ كل ّما في الدستور جيد، فهو يحتوي على فقرة معيبة، وهي التي تنصب رئيس البرلمان-السّلطة التشريعية- نائباً للرئيس- السلطة التنفيذية-، حال غياب الرئيس عن الدّولة سواء بسفر أو مرض، ولا يخفي أنّ في ذلك تجاهلاً أو إلغاءً لمبدأ فصل السّلطات، وتقييداً للسلطة التشريعية. كما يبعد الدستور الوطن عن محيطه العربي، بجعل اللغة العربية لغة ثانية، بعد أن كانت رسمية، وأثرت هذه الفقرة على مكانة اللغة العربية بين الناشئة، وكان الأجدى بمن وضع الدستور أن يعزز من الصلة الثّقافية بالوطن العربي لكون الصومال عضواً في جامعة الدول العربية. وغيرها من المواد التي لا تقلق الرّافضين للدستور غالباً.
مخاوف افتراضية:
تبعث بعد الفقرات المخاوف لدى فئات من المثقفين، تدور معظمها حول الوحدة الوطنية، إلى درجة إنكار شرعية الدّستور، وتتركز المحاذير في النّقاط الآتية:
الفيدرالية تهدد السيادة الوطنية، إذ تسمح لكل إدارة إقليمية بالتّعامل مع أطراف أجنبية دون العودة للحكومة الاتحادية.
إن تقاسم الموارد والثروات وكل مصادر الدخل بين الحكومة الفيدرالية والإدارات المحلية، تجعل الحكومة تحت رحمة الولايات، فمن الأفضل أن تدير جهة واحدة (الحكومة الاتحادية) الموارد المالية والثروات الوطنية.
إن توزيع الصلاحيات بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية يشكّل ارتباكاً للمشهد السياسي، كيف للرئيس أن يعين رئيس الوزراء ولا يحق له إقالته أو إقالة أي وزير؟ كيف يمكن أن تكون صلاحيات الرئيس أقل من صلاحية رئيس الوزراء؟
من الصعب تطبيق مبدأ الفيدرالية على أساس التوافق بين الأقاليم، بعض الأقاليم تقطنها قبائل غير متجانسة. ولن ترضى أية قبيلة بأن تحكمها قبيلة أخرى.
يقول أكثرهم تشدداً أن الفيدرالية من أساسها غير صالحة للصومال بوصف سكانها ذوي أصل ودين ولون ولغة واحدة. والفيدرالية للدول الكبرى ذات الأصول المتعددة.
إن تلك المخاوف افتراضية، وبحاجة إلى البرهنة، وهذا لن يكون ما لم تطبّق الفيدرالية على أرض الواقع.
خاتمة:
إنّ انشغال المثقفين بإقناع الشعب بأن الدستور باطل، أو غير شرعي، يؤدّي -دون قصد وبحسن نية- إلى تعميق جذور الخلاف، لأنّهم يوحون له بوجود مؤامرة ضدّ البلاد، من دون عرض جميع المواد والفقرات عليهم، والحقيقة أنّ هناك فرقاً بين عدم شرعية الدستور وبين رفض بعض مواده وفقراته، وبرأيي الشخصي، يمكن للمثقفين رفع الوعي الشعبي، والعمل على توجيه الرأي العام بطريقة أكثر إيجابية، عن طريق عرض المواد التي يرونها غير مناسبة بدل الإلغاء التّام والتّعسفي لكامل الدستور.