ترجمة وتحرير نون بوست
قبل ثلاث سنوات ونصف استضافت عمان المحادثات السرية بين الولايات المتحدة وإيران، حيث اشترط وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي حينها شرطًا وحيدًا لتوسط بلاده في المحادثات قائلًا: “عمان يمكنها ترتيب أي اجتماع، وتوفير المكان، طالما بقي هذا الأمر سريًا”، وذلك وفقًا لبرقية دبلوماسية سربها موقع ويكيليكس في نوفمبر من عام 2009، فيما يخص المناقشة حول إيران جرت بين علوي وريتشارد شميرير السفير الأمريكي في عمان.
عقدت الاجتماعات ما بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين في مارس من عام 2013، وذلك في فيلات خاصة على ساحل مسقط مملوكة لحاكم عمان السلطان قابوس بن سعيد، وهذه الاجتماعات مهدت الطريق أمام المفاوضات الرسمية حول برنامج طهران النووي التي بدأت في فبراير من عام 2014، ولم يتوقف الدور العماني هنا، كونه عندما تبين أن أحدث جولة من المحادثات الأمريكية – الإيرانية في فيينا، لن تسفر عن الوصول إلى اتفاق قبل حلول الموعد النهائي في 24 نوفمبر 2014، عادت واشنطن للتوسط لدى عمان مرة أخرى، وعمد علاوي حينها إلى القيام برحلات مكوكية بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين حتى تم التوصل إلى تمديد الموعد النهائي حتى مارس 2015.
بين قادة الشرق الأوسط اليوم، ربما لن تجد زعيمًا غامضًا أو محبوبًا أكثر من السلطان قابوس، فخلال أربعة وأربعين عامًا من حكمه لعمان، استخدم سلطته المطلقة وثروة البلاد المقدرة بـ 5.5 مليار برميل من احتياطي النفط، لتحويل عمان من أرض مقفرة طرقاتها المعبدة لا يتجاوز طولها العشرة كيلومترات ترزح تحت رحى الحرب الأهلية، إلى بلاد متوسطة الدخل عاش شعبها فترة طويلة من السلام لم يعشها إلا في زمن قابوس.
ولكن مع ذلك، وعلى مدى العقد الماضي، تراجع قابوس إلى العزلة، راسمًا لنفسه صورة الشخص الخيّر ولكن المتحفظ؛ فنادرًا ما يستطيع أحد الوصول إلى مقابلاته السلطانية، ونادرًا ما يتحدث قابوس علنًا، كما لا يحضر قابوس اجتماعات القمة الإقليمية، ويفضل إرسال مجموعة من المبعوثين بدلًا عنه، ورغم أن هناك بعض الطرق في البلاد التي تحمل اسمه، بيد أنه – وعلى عكس باقي الزعماء الإقليميين – لم ينشر صوره وتماثيله في كل مكان في العاصمة.
لذا حبست البلاد أنفاسها عندما ظهر قابوس أمام الكاميرا في 18 نوفمبر الماضي بمناسبة عيد ميلاده الرابع والسبعين، ليؤكد الشائعات التي انتشرت حينها، حيث كشف قابوس عن إصابته بمرض لم يسمه – تبين فيما بعد أنه السرطان – سيتطلب منه الخضوع لبرنامج طبي علاجي في الفترة المقبلة، وحينها كان قابوس في ألمانيا، ولأول مرة منذ توليه السلطة، تغيّب عن احتفالات اليوم الوطني، الذي كان من المقرر عقده في الأسبوع التالي.
في ذاك الوقت كان غياب قابوس يشكل اختبارًا كبيرًا أمام الشعب العماني، حيث يقول خالد حريبي رجل الأعمال والرئيس السابق لمؤسسة تواصل وهي أول مؤسسة بحثية مستقلة في سلطنة عمان “هذا وقت اختبار كبير لنا، لأننا بحاجة أن نتحلى بالإيمان”، وتابع “هناك حكمة تقول المرء لا يكبر حتى يتوقف عن الاعتماد على أبويه”.
قابوس هو السليل الرابع عشر لعشيرة البو سعيدي، أطاح بوالده بمساعدة بريطانيا في انقلاب غير دموي في عام 1970، وفي ذاك الوقت، كانت مسقط تخسر حربها مع الانفصاليين من منطقة ظفار الجنوبية، الذي نشطوا تبعًا لإمدادهم بالسلاح ونتيجة لخطابات الحركات اليسارية في العالم العربي؛ لذا عمد السلطان المتوج حديثًا والبالغ من العمر 29 عامًا إلى تجنب نهج والده الذي امتنع عن بناء الطرق والمدارس والبنية التحتية، وتعهد ببناء الدولة الحديثة، وأعلن عفوًا عامًا عن المتمردين، وتوعد برد عسكري قوي لأولئك الذين لا يتراجعون، وبغية تنفيذ هذا الوعيد، كان السلطان بحاجة إلى المزيد من القوات، لذا يمم شطره نحو إيران، “إيران كانت أكبر مساهم، ولم تقتصر مساعداتها على المعدات والأسلحة بل بعثت بقوات أرضية أيضًا”، قال محمد العارضي الرئيس السابق لسلاح الجو العماني.
قبيل بدء الاحتجاجات للإطاحة بالشاه في إيران، انتقل فوج إيراني إلى مسقط ليبقى تحت إمراة السلطان، وبقي يتمركز هناك حتى اندلاع الاحتجاجات بشكل جدي، وقال محلل سياسي عماني مطّلع كان نشطًا في مجال السياسة الخارجية “إن الثورة الإسلامية في إيران عنت لنا الكثير”، وأردف “لو انقلبت إيران علينا حينها، كانت ستهدد أمننا حقًا”.
وفي ذاك الحين، أدرك قابوس الحاجة إلى المبادرة بلفتة مهمة لجذب انتباه حكومة الثورة الإسلامية التي أطاحت بالشاه، وباشر حينها السفير العماني في طهران إجراءاته الدبلوماسية وفتح قنوات الاتصال مع السلطات الدينية الجديدة، واستطاع أخيرًا تأمين لقاء مع آية الله روح الله الخميني، وجرى اللقاء في مدينة قم الإيرانية المقدسة، وبجلسة على الأرض اجتمع الخميني والسفير العماني مع يوسف بن علوي – الذي كان مقربًا من السلطان ولكن لم يكن بعد قد تسلم منصب وزير الخارجية -، وأبلغاه رغبة عمان بمتابعة الصداقة الثنائية، وقيل حينها إن الخميني أُعجب بطلاقة السفير باللغة الفارسية، وأكد لمسقط أن الجمهورية الإسلامية لن تنقلب ضدها، على الرغم من تحالفات عمان مع الغرب.
بعد سنوات تسارعت الأحداث لتسفر عن تصادم ما بين إيران والولايات المتحدة، وحينها قامت عمان باتخاذ خطوات هادئة لبناء الثقة ما بين البلدين، بالإضافة إلى ضلوعها في تسهيل المفاوضات النووية، كما ساعدت عمان في الإفراج عن السياح الأمريكيين الثلاثة الذين كانوا محتجزين في إيران في سبتمبر 2011، وذلك عن طريق دفع مبلغ مليون دولار ككفالة لهم، ويصف العمانيون هذا المبلغ الآن مبتسمين بأنه “استثمار في السلام”.
يقول العارضي “المفاوضات كانت الحل الذي ينشده الجميع، وصاحب الجلالة كان يسعى لإقناع الطرفين بالجلوس حول الطاولة معًا والتحدث، ووفق معرفتي بجلالته، فإنه شخص ذو رؤية إستراتيجية عميقة، لذا أتوقع أنه عمد حينها إلى اختيار شخصين أو ثلاثة من اللاعبين الفاعلين ليتناقش معهم، ومن ثمّ سمح للأشخاص المسؤولين عن القضية بالمضي قدمًا بالمحادثات”.
على مدى العقد الماضي، دفعت الثروة النفطية سلطنة عمان نحو النمو الاقتصادي، ولكن مجالات الأعمال وعقود الدولة بقيت في أيدي عدد قليل من العائلات التجارية، وكانت النظرة المتداولة ما بين الشعب تتمثل بأن الثروات الجديدة في البلاد لا يجري توزيعها بشكل متساو، كما أن مشاريع القطاعين العام والخدمات العامة الجديدة خلقت بعض الوظائف الحكومية الجديدة، بيد أنها لم تكن كافية لتوظيف نسبة الشباب الكبيرة التي فاض بها سوق العمل، وفي يناير من عام 2011، وصل الربيع العربي إلى عمان، واحتشد عدة آلاف من الشباب والمعلمين والنشطاء للتظاهر ضد الفساد والبطالة، وكانت هذه التجمعات تتم بأغلبها في مسقط وميناء صحار الصناعي.
وقالت حبيبة الهنائي، الناشطة البارزة في حقوق الإنسان “خلال العقد الماضي، كان السلطان بعيدًا عن الأحداث، لقد اختفى تمامًا، وهذا أدى إلى تراكم الفساد”، وأضافت “المتظاهرون لم يخرجوا لإسقاط السلطان، إنما أرادوا فرض المزيد من القيود على النخبة الحاكمة، وخلال الاحتجاجات حمل العديد من الأشخاص صورًا للسلطان وجددوا الولاء له وطالبوه بالتدخل لتحقيق مصالحهم، وفي فبراير ومارس، قدّم المتظاهرون في صحار ومسقط عريضة إلى السلطان ضمّنوا فيها طلباتهم”.
اتخذت بعض المظاهرات منحى أكثر خطورة، حيث احتل المتظاهرون في صحار تقاطع مركزي يسمى دوار الكرة الأرضية، وبعد حرق سيارات خلال مظاهرة حدثت هناك، تدخل الجيش في المنطقة في يوم 1 مارس، ومرة أخرى في 28 مارس، وتم وضع مدينة صحار تحت السيطرة العسكرية في الأسبوع الأول من شهر أبريل، وفي 14 مايو فرق الجيش مظاهرة صغيرة في مدينة صلالة، وبعد بضع ساعات تم قطع الإنترنت.
تلقى السلطان تطورات الأوضاع والاحتجاجات بشكل يومي خلال الربيع العماني، وفقًا لأحمد المخيني المستشار السابق في مجلس الشورى العماني، وبحلول نهاية فبراير، وعد قابوس الشعب بوظائف جديدة وبالتأمين ضد البطالة، وفي مارس أعلن عن توسيع مهمات مجلس الشورى التشريعية، كما وعد بالتعجيل في بناء المساكن العامة وبرفع الحد الأدنى للأجور، أضف إلى ذلك قيامه بإلغاء وزارة الاقتصاد التي تم استهدافها بمزاعم الفساد، كما أقال قائد الشرطة الذي أشرف على حملة القمع ضد المحتجين، وانتهت المظاهرات في مايو 2011، عندما أطلق سراح آخر دفعة من مئات المحتجين الذين تم اعتقالهم بدون تهم.
الهنائي شهدت شخصيًا حملة الاعتقالات، حيث تم القبض عليها واعتقالها بتهمة التحريض على التجمهر أثناء زيارتها لعمال حقول النفط المضربين في عام 2012، ومع ذلك، أشارت أنها فخورة باستجابة السلطان للاحتجاجات، بالمقارنة مع زعماء المنطقة الآخرين، حيث قالت “عمان كانت الأفضل من بين الدول التي كان عليها التعامل مع الربيع العربي، أنا لست سعيدة تمامًا، ولكنها الاستجابة الأكثر حكمة”.
ويقول المخيني “خلال الربيع العربي، لم يكن هناك تهديد لشرعية السلطان، لا بل تم تجديد شرعيته، ولكن الخطر موجود، لأن السلطان يخاطر بكونه المحور الوحيد للنظام بأكمله، فإذا أخطأ، وهو الشيء الذي لم يحدث لحسن الحظ حتى الآن، فستنهار شرعية الدولة بأكملها”.
قابوس غير متزوج وليس لديه أولاد، ولم يعين وريثًا للعرش بشكل صريح، وفي هذه الحالة ينص دستور سلطنة عمان “النظام الأساسي” الذي كُتب من قِبل السلطان في عام 1996 وتم تعديله في عام 2011، على أنه بعد وفاة الحاكم يجتمع مجلس العائلة خلال ثلاثة أيام لاتخاذ قرار بشأن تعيين السلطان، فإذا لم يتفق مجلس العائلة الحاكمة على اختيار سلطان، يُعهد إلى أربع هيئات استشارية أخرى بتثبيت الشخصية التي اختارها السلطان قبل وفاته بموجب رسالة كتبها وخبأها في عدة مواقع في جميع أنحاء البلاد، تتضمن قائمة بخياراته مرتبة بشكل تنازلي حول شخصية السلطان القادم.
المرشحون الثلاثة لخلافة قابوس هم أبناء عمه الراحل طارق بن تيمور، الذي شغل منصب أول رئيس وزراء للسلطان – قابوس نفسه يشغل هذا المنصب حاليًا -، ولكن لا يوجد مظاهر على أنهم قد تم إعدادهم لتولي السلطة، وهم أسعد بن طارق رجل الأعمال وخريج أكاديمية ساندهيرست العسكرية، وهيثم بن طارق وزير الثقافة العماني، وشهاب بن طارق الذي قاد البحرية العمانية لمدة أربعة عشر عامًا لكنه تقاعد من منصبه قبل عقد من الزمن.
إن التهديد الحقيقي الذي يحوق بالسلطنة لا يتعلق بخليفة قابوس، ولكن بقدرة مؤسسات الدولة على البقاء قوية وصامدة في عمان ما بعد قابوس، حيث يقول العارضي “بعض الناس يظنون أنه من السهل البقاء بعيدًا عن المشاكل ومن الصعب الانخراط بها، لكن الحقيقة هي على العكس من ذلك، فمن الصعب جدًا البقاء على المسار الصحيح والابتعاد عن الصراعات، وهذا هو الدور الذي يضطلع به جلالة السلطان”.
المصدر: ذي نيويوركر