دقق النظر جيدًا إن كنت تعتقد أن تلك الصورة الموجودة أعلاه صورة لباريس، لأنها في الحقيقة مدينة تياندوتشَنغ الصينية الجديدة، والتي بنت فيها الصين نموذجًا طبق الأصل من برج إيفيل الفرنسي المعروف في ولاية هانغجو، ولكن على عكس ما قد توحي لك الصورة، تَعَد تياندوتشَنغ واحدة من عشرات المدن الصينية التي باتت تُعرَف بـ”مدينة الأشباح”، نظرًا لبنائها السريع، مقابل عزوف الصينيين عن السكن فيها، لتؤول معظم العقارات فيها إلى الأغنياء الذين يملكون القدرة على شراء بيوت فيها، وهم بالطبع يعيشون في بكين أو شانغهاي أو غيرها ولا يعيشون في مدينة الأشباح، في انتظار أن ترتفع قيمتها يومًا ما ليبيعوها أو يقومون بتأجيرها.
ليست هذه حالة استثنائية، ولا هي ظاهرة مقصورة على الصين دون غيرها، ولكنها منتشرة في العديد من البلدان النامية التي ترغب في تأسيس عواصم جديدة سريعة في سنوات قليلة، ولكن الرياح تجري أحيانًا عكس ما تشتهي السفن.
كانغباشي الجديدة — الصين
هي “دبي شمال الصين”، كما قيل عنها، والتي تم بناؤها في أطراف مدينة أوردوس بولاية منغوليا عام 2003، وقد كانت جزءًا من النمو السريع للمنطقة نتيجة وجود الثروة المعدنية فيها، ولكن قبل أن ينتقل إليها الصينيون، وقبل حتى أن تنتهي الحكومة من تعبيد الطرقات، شهدت المدينة سيلًا من المستثمرين والمهتمين بالسوق العقارية، والذين اشتروا معظم التجمّعات السكنية ليستطيعوا تحقيق الأرباح منها فيما بعد، وهو ما رفع أسعار الإيجار والتمليك بطبيعة الحال، وأدى إلى قلة الإقبال على الشراء والسكن فيها.
تباعًا، وبعد أن كان من المخطط أن تستوعب المدينة مليون نسمة، خفضت الحكومة من سقف توقعهاتها إلى 300،000 فقط يستطيعون الانتقال إليها بالفعل، لكنها تضم اليوم بالكاد 30،000 ساكن، بينما تنتشر على الطريق إليها إعلانات شركات كبرى هربت في الواقع من المدينة بعد عدم قدرتها على دفع ديونها، وتسري شائعات بأن مالكي العقارات الآن يفكّرون في جني الأرباح عبر بيع أملاكهم لمستثمرين ينوون تدميرها في الحقيقة لصالح مشاريعهم الخاصة.
بوتراجايا — ماليزيا
هي الأرض الزراعية التي أصبحت مدينة جديدة بعد أن بنتها ماليزيا وربطتها بالعاصمة كوالالومبر، التي تبعد عنها حوالي 25 كيلومتر إلى الشمال، لتجردها من زراعة المطاط والنخيل التي كانت موجودة بها، وتجعل منها — أو حاولت أن تجعل منها — وادي السيليكون لمنطقة جنوب شرق آسيا: معقل البحوث والتكنولوجيا والإدارة والعلوم، ولكن رجال الأعمال والتجار وغيرهم في ماليزيا لم ينجذبوا إليها، وفضّلوا البقاء في العاصمة التاريخية، لتصبح بوتراجايا الآن بتعداد سكاني يبلغ بالكاد 70،000 مدينة هادئة ومليئة بالتكنوقراط فيما شبه واشنطن العاصمة.
رسيدنسيال فرانسيسكو إرناندو — إسبانيا
إرناندو ليست مدينة بما تعنيه الكلمة، ولكنها أشبه بحي مبني على تخوم مدينة طليطلة الإسبانية، وهي واحدة من “أحياء الأشباح” التي بُنيت في ذروة نمو السوق العقاري في البلاد قبل أن تحدث الأزمة المالية الشهيرة عام 2008، لتضرب الاقتصاد الإسباني بقوة، والذي لا يزال يحاول التعافي إلى الآن.
كان من المفترض أن تكون إرناندو أكبر تجمّع سكني خاص في أوروبا، كما روّج لها القائمون عليها، بـ13،500 وحدة سكنية، والحقيقة أن الكثير منها تم بناؤه بالفعل، ولكن في عام 2009، وبعد الأزمة، لم تستطيع الحكومة أن تبني فيها البنية التحتية المطلوبة من طرقات وشبكات مواصلات عامة، بل ولم يكن هناك توزيع للمياه بعد، إذ كانت تُسرَق عن طريق شركات خاصة لتشغيل مشاريع البناء، لتصبح إرناندو اليوم مجرد ركام دون بشر.
تشَنغ كونغ الجديدة — الصين
بنيت تلك المدينة قرب كونمينغ، المدينة الأكبر في محافظة يونّان جنوبي غربي الصين، وهي تمتلك كل ما تحتاجه من بنية تحتية ومدارس ومستشفيات وطرقات ومكاتب حكومية، كما يجري تشييد خط ترام ليصل بينها وبين المدينة الأم، بيد أن العنصر الأهم في أي مدينة ليس موجودًا فيها: السكان!
رُغم الزحام الشديد في كونمينغ، البالغ تعدادها حوالي سبعة ملايين، ورُغم وجود حوالي 100،000 وحدة سكنية خالية في تشنغ كونغ، إلا أن أحدًا لم يسكن المدينة الجديدة، ورُغم أن الأسعار هذه المرة لم ترتفع، إلا أن السبب الرئيسي على ما يبدو هو أن سكان كونمينغ ببساطة لا يريدون الانتقال من مدينتهم التاريخية إلى تلك المدينة الجديدة، لتصبح تشنغ كونغ مدينة أشباح صينية أخرى.
كيلامبا — أنغولا
في أنغولا الغنية بالنفط، والتي تستثمر فيها الصين بقوة الآن، نشأت مدينة كيلامبا لتستوعب حوالي نصف مليون مواطن من العاصمة لواندا، وهي القريبة منها، على غرار العاصمة الجديدة التي تريد الحكومة المصرية بنائها بالقرب من القاهرة التاريخية، وقد نجح الاستثمار الصيني بالفعل في بناء مصفوفات من المباني السكنية الملوّنة بشكل جذّاب، وملأتها بالمدارس ومراكز التسوق، بيد أن الأسعار المرتفعة بالطبع لم تنجح في جذب مشترين من سكان أنغولا الفقراء، لتصبح المدينة، طبقًا لأحد مراسلي بي بي سي، مدينة أشباح خالية تمامًا من السكان، وإن كانت مليئة بالألوان الزاهية.
جَنغدونغ الجديدة — الصين
بُنيت تلك المدينة على أنقاض مزارع القمح المتاخمة لمدينة جينغجو، عاصمة ولاية هِنان الشمالية، لتصبح مدينة بضعف حجم مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في أقل من عشر سنوات، بيد أنها تعرّضت لنفس المشكلة المالية-العقارية التي جرت في كانغباشي، ورُغم أن النمو السكاني مستمر في العاصمة جينغجو، ووصل إلى 9 ملايين ويزيد، إلا أن تلك المنطقة السكنية الجديدة لا يبدو أنها قد جذبت أي من هذا التعداد المتنامي والمتزاحم، فقد أدى ارتفاع الأسعار نتيجة تكالب المستثمرين والأغنياء الراغبين في تملك القطع السكنية والاحتفاظ بها إلى وصول سعر المتر إلى 1،660 دولار، في حين يُعَد متوسط دخل الصيني في جينغجو 483 دولارًا فقط.