أفاق الأتراك صباح يوم السبت الماضي، 21 آذار/مارس، على تصريحات جديدة، مثيرة للتفاؤل، من الزعيم الكردي السجين عبد الله أوجلان.
جاء توقيت التصريحات مناسباً بلا شك، فهذا اليوم، 21 آذار/ مارس، لا يؤشر إلى بداية فصل الربيع وحسب، ولكنه اليوم الذي يحتفل فيه الأكراد أيضاً بعيد النوروز (الذي هو بداية السنة الفارسية الجديدة).
دعا أوجلان، نزيل جزيرة آمرلي الشهير، والقائد المؤسس لحزب العمال الكردستاني، إلى عقد مؤتمر عام للحزب لاتخاذ قرار حاسم بالتخلي عن العمل المسلح والانخراط كلية في العمل السياسي. بدأ الحزب نضاله المسلح ضد الدولة التركية قبل ثلاثين عاماً، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وبالرغم من أن وقفاً لإطلاق النار بين الجيش التركي والمسلحين الأكراد ساري المفعول منذ عامين، وأن أوجلان سبق أن أعرب عن اعتقاده بأن عملية السلام ماضية قدماً، فهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها بهذا الوضوح القاطع عن التخلي عن العمل المسلح والانتقال إلى ساحة العمل السياسي. فإلى أي حد يمكن القول بأن تركيا قد نجحت أخيراً في وضع نهاية لهذا الصراع الدامي والطويل، الذي أوقع أكثر من خمسين ألف ضحية في أطرافه المختلفة؟
ولد حزب العمال الكردستاني في أوساط يسار السبعينيات والثمانينيات الجامعية التركية، التي اتجهت بعض خلاياها وجماعاتها الراديكالية الصغيرة لاستخدام العنف، وكانت إحدى الأسباب التي دفعت تركيا نحو انقلاب 1980 العسكري. وظف الانقلابيون قدراً هائلاً من وسائل القمع الدموية لاقتلاع قوى اليسار والإسلام السياسي من الساحة السياسية التركية، وهو ما عزز قناعات الكثير ممن نجوا من قبضة النظام الانقلابي بأن العنف هو النهج الوحيد للمواجهة مع الدولة وأجهزتها القمعية وجيشها.
ولكن النشطين الشبان الأكراد، الذين شكلوا حزب العمال، لم يكونوا يساريين وحسب، بل وقوميين أكراداً كذلك. وإن كانت سياسات القبضة الحديدية التي اتبعها الانقلابيون قد ساهمت مساهمة رئيسية في توجه الحزب نحو النضال المسلح، فإن هذا التوجه لابد أن يرى أيضاً في ضوء النضال الذي خاضه الأكراد ضد الدولة العراقية في مراحل عديدة من القرن العشرين. ولأن بداية الثمانينيات صادفت أيضاً سنوات تفاقم الحرب العراقية ـ الإيرانية، وانخراط الأكراد العراقيين في الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حسب النشطون الأكراد الأتراك أن ثمة قاعدة آمنة لهم متاحة في شمال العراق. ولكن، وبالرغم من الجذور القومية التي جمعت بينه والقوى الكردية العراقية المسلحة، فإن السياق التركي للنضال القومي المسلح اختلف إلى حد كبير عن نظيره العراقي.
تركت تسويات الحرب العالمية الأولى، سواء تلك التي رسمت حدود الكيانات العربية الجديدة في سان ريمو، أو التي وضعت نهاية لحرب الاستقلال التركية في لوزان، الأكراد بلا دولة قومية. وهذا هو السؤال المركزي الذي لم تن الحركة القومية الكردية عن طرحه منذ عشرينات القرن الماضي. والحقيقة، أن معاهدة سيفر، التي فرضها الحلفاء على السلطنة في صيف 1920 ورفضتها حركة المقاومة من أجل الاستقلال في الأناضول، تصورت وجود كيان كردي، وإن لم يكن كياناً شاملاً لكافة مناطق الأغلبية الكردية في المشرق. معاهدة سيفر، بالطبع، أسقطت بنيران حرب الاستقلال، واستبدلت بمعاهدة لوزان في صيف 1923، التي أقرت استقلال ما تبقى من الممتلكات العثمانية ضمن الجمهورية التركية.
ومهما كان الجدل حول المعاهدتين، فإن المسألة الجوهرية التي تغيب عن قطاع واسع من المثقفين العرب والأتراك والأكراد، أن الإمبرياليات الأوروبية توافقت في نهاية الحرب على تقسيم الممتلكات العثمانية إلى دول قومية بالمعنى الحديث للدولة، وليس دول قوميات كاملة التعبير. تحت ضغوط المقاومة التركية، وضعت اتفاقية لوزان، وبصورة ضمنية وحسب، أسس دول تركية قومية، ولكن هذه الدولة لم تشمل بالضرورة كافة مناطق الأغلبية التركية في المشرق. وكما أن الطموحات القومية العربية لم يسمح لها بالتجلي في دولة واحدة، لم يمنح الأكراد دولتهم الخاصة.
وربما من الصعب الآن القطع بوجود حركة قومية كردية في العقود الأولى من القرن العشرين. ما يمكن قوله بقدر أكبر من الثقة أن الحركة القومية الكردية تطورت بصورة تدريجية خلال القرن العشرين، سواء كرد فعل على التوجهات القومية التركية والعربية والإيرانية الحادة في تركيا والعراق وإيران، أو بتشجيع من القوى الإقليمية المتصارعة. شهدت مناطق الأغلبية الكردية في تركيا انتفاضات محدودة في العشرينات من القرن الماضي، خلال السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية التركية، ولكن الجدل لم يزل محتدماً حول ما إن كانت دوافع تلك الانتفاضات إسلامية أو قومية. كما إن من الصعب الجزم بما إن كانت الانتفاضة التي انطلقت في منطقة درسيم (تونجلي الحالية)، الكردية ـ العلوية في 1938، والتي واجهتها الدولة الجمهورية بقدر كبير من العنف، كانت قومية الطابع، سيما أن الحادثة التي أطلقت شرارة الانتفاضة تعلقت بعملية تحصيل ضرائب. بيد أن سياسات الاندماج القصري التي اتبعتها الدولة الجمهورية كان لابد في النهاية أن تولد ردود فعل قومية في صفوف الأكراد، الذين لم تغب عنهم تطورات الحركة القومية الكردية في الجوار العراقي.
ويمكن القول أن مجموعة أبناء الإنتلجنسيا الكردية ـ التركية اليسارية التي أسست حزب العمال الكردستاني في مطلع ثمانينات القرن الماضي لم تطلق نضالاً من أجل المطالبة بالحقوق القومية الكردية وحسب، بل وكانت قوة رئيسية في تطور الهوية القومية الكردية في تركيا كذلك. صحيح أن الدولة فرضت سياسة الإدماج على الجماعات الإثنية المختلفة من مواطنين الجمهورية بالقوة وأساليب القمع، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه السياسة نجحت بصورة نسبية، سيما أن مظاهر التمييز في نسيج الجمهورية كانت في أغلبها مناطقية وليست إثنية. ملايين الأكراد، ومئات الألوف من العرب، الذين انتقلوا إلى المدن التركية الرئيسية وتلقوا تعليماً تركياً رسمياً، أصبحوا مواطنين أتراكاً بالمعنى الثقافي والاجتماعي، ووصل بعضهم أعلى مناصب الدولة والحكم. ولكن مناطق الجنوب والجنوب الشرقي، البعيدة عن المركز، لم تتلق نصيبها من الاستثمارات وبرامج التنمية. وهذه هي المناطق التي أصبحت الحاضنة الرئيسية لحزب العمال ووعود المساواة اليسارية التي أطلقها.
ولكن، وما إن بدأ الحزب نضاله المسلح ضد الدولة، حتى أطلقت الدولة لأجهزتها الأمنية والعسكرية العنان لمواجهة الحزب الانشقاقي المسلح. بصورة من الصور، مثل حزب العمال أول تحد لإحدى العقائد المؤسسة للجمهورية: وحدة تركيا واستقلالها، وكان أن ردت الدولة الجمهورية على التحدي بكل ما تملك من قوة وعنف، بغض النظر عن قانونية هذه القوة والعنف. وفي حمى الصراع، لم تولد الهوية الكردية ـ التركية وحسب، بل وأصبحت هزيمة حزب العمال مسألة وجود بالنسبة للدوائر القومية التركية الراديكالية، داخل جسم الدولة وخارجها. وهذا، ربما، ما أفشل أول محاولة جادة للتوصل إلى تسوية سياسية للصراع، تعهدها الرئيس، ورئيس الوزراء الأسبق، تورغوت أوزال (ت 1993). في النهاية، ما كان للنهج الذي اختطه حزب العمال أن ينجح، ليس فقط لأن الظروف الإقليمية والدولية لم توفر للحزب الدعم الذي توفر للقوى المسلحة الكردية في العراق، ولا للقوة الهائلة التي تتمتع بها الدولة التركية، ولكن أيضاً لأن الحزب لم يستطع مطلقاً أن يحشد الأغلبية الكردية في تركيا خلفه.
ما ظل بإمكان الحزب أن يحققه هو القلق المستمر للدولة، والنتائج الكارثية التي نجمت عن الصراع المسلح في منطقة الأغلبية الكردية بصورة أولية، وفي مناطق أخرى من الجمهورية في بعض الأحيان.
مثلت حكومة العدالة والتنمية الفرصة الأكثر جدية للتوصل إلى حل للصراع. أولاً، لأن الخلفية المحافظة للحكومة وثقافة قادتها الإسلامية جعلتها الأكثر انفتاحاً على الطبيعة التعددية للجمهورية؛ وثانياً، لأنها استطاعت بمرور السنوات أن تعزز وضعها في مواجهة الدوائر القومية الراديكالية في جسم الدولة وأجهزتها، وأن تتبنى بالتالي سياسات منيعة على مراكز القوى الجمهورية التقليدية.
وهذا ما أدركه أوجلان تدريجياً، منذ بدأ الحوار بينه والمسؤولين الأتراك قبل خمس سنوات. تصريح أوجلان الأخير، الذي جاء عقب سلسلة من الخطوات التي أقرتها حكومة العدالة والتنمية لتمهيد الطريق أمام تسوية نهائية للصراع، هو مؤشر على التقارب المتسارع في خطى الطرفين، حتى في ظل ما يبدو أنه خلاف حول مسار حل النزاع بين الرئيس التركي وحكومته.
ولكن ما ينبغي تذكره دائماً أن هذه تسوية لصراع الهويات داخل تركيا نفسها، وليست نهاية للمسألة الكردية في المشرق. فكما كل آثار الحرب الأولى الأخرى، ليس هناك ما يوحي بعد بوجود حل شامل للمسألة الكردية. ما تتطلبه هذه المسألة، كما المسائل القومية الأخرى في المشرق، ربما تصوراً جديداً، يحرر المشرق من شبح الانشطارات الدموية، ويؤسس لفضاء أوسع، تتحقق فيه تجليات الهويات المشرقية المتعددة، بدون أن تسيل على جوانبها الدماء.