ارتفعت معدلات مشاركة فلسطيني أراضي الـ ٤٨ في انتخابات الكنيست، مقارنة بدورة الانتخابات لعام 2013 وما قبلها، وتراجعت نسب اللامبالين والمقاطعين لها، كما تزايد التصويت للقائمة المشتركة على حساب الأحزاب الصهيونية، وفي كل ذلك الكثير من التفاصيل التي يمكن تركيزها في سؤالي: “المشاركة” و”المقاطعة”.
هل من وحدة حقيقية؟
لعل التزايد في الإقبال على التصويت ككل، والتصويت للقائمة المشتركة خاصة، يكمن وراءه رومانسية فكرة الوحدة والتي تخللها المظاهر الاحتفالية للقائمة المشتركة، محققة مقولة “إحنا مع بعض أقوى”، لكن تلك المظاهر لم تكن كافية لتغطية الخلافات ما بين الأحزاب وقياداتها، والتي أخذت هذه المرة شكل الردود الناعمة، بعيدًا عن مساحة التراشق الحاد، لما تتطلبه الوحدة من مناخ، أجبر كل الأحزاب على الخضوع له، وتجاوز كافة التفاصيل التي كانت سابقًا كفيلة بإشعال الحروب.
وفي مساحة أخرى بعيدة عن الإعلام وتصريحات القيادات، يمكن رصد مستوى الوحدة المتواضع والمتدني في أماكن متعددة بين كوادر أحزاب اعتادت التراشق وتبادل الاتهامات على مدار سنين عملها، فلم يمر كثير من الوقت على معارك انتخابات البلديات عامة، وبلدية الناصرة خاصة، ومن بعدها معركة نقابة جامعة حيفا الأخيرة، هذا غير معركة انتخابات الكنيست 2013 التي لم يمضِ عليها أكثر من سنتين، ولا حتى ما يضمن الانخراط والمشاركة العادية لكوادر الأحزاب، والتي كانت في أقل مستوياتها، ولا ما يكفي لمساعدتها على العمل في مقر واحد، وأطر واحدة في أغلب أماكنها.
فمن عيلبون التي شهدت اجتماعًا للقيادي في التجمع الوطني الديمقراطي باسل غطاس في ذات وقت انعقاد اجتماع آخر للقيادي في الجبهة اليدمقراطية للسلام والمساواة أيمن عودة، ويافة الناصرة التي نُظم فيها لقاءً للقيادية في التجمع حنين زعبي وآخر لأيمن عودة أيضًا لعدم استطاعة كوادرهم الحصول على مقر لتنظيمها، إلى شفا عمرو والناصرة وحيفا وغيرها من المناطق التي عملت فيها كوادر الأحزاب بذات الآليات القديمة، وذات الحدة المعتادة فيما سبق، وفي ذات المقرات التي شكلت كل رواسب خلافاتها، بالرغم من شعارها ومقولتها الواحدة هذه المرة.
فكرة الوحدة ليست بجديدة
فكرة الوحدة ليست وليدة اللحظة؛ فقد دُعي لها مرارًا منذ عام 1996، وعند الحديث عنها، لابد من التطرق إلى إطار لجنة المتابعة العليا، والتي بات لا يُسمع عنها إلا في سياق “لازم نحيي لجنة المتابعة العليا”، حيث فشلت في النهوض بذات الأحزاب والأهداف للخلافات التي تُمايز بين رؤى وسقف كل منها، وارتباطها بالفلسطيني ككل، ومحيطه العربي.
وحدة “المشتركة” وكل رومانسية مظاهرها ستنهار فور حدوث اشتباك غير محدود في منطقة ما، مثل الانتفاضة الثانية، أو حدوث حرب في غزة تفرض معاييرها وسقفها على الكل الفلسطيني كما فعلت العام الماضي، لتعود حالة الفرز من جديد حسب الأيدولوجيات والرؤى المختلفة، ونعود إلى تصنيفات الاحتلال التي يمارسها على العرب: “المتطرف” و”المعتدل”، وينساق إليها الكثير.
ماذا عن المقاطعة؟
مع ارتفاع زخم فكرة “المشتركة” والوحدة ومظاهرها، تراجع طرح المقاطعة وانحصر في ثلاث مساحات مختلفة: أولها الحراك الاعتيادي المصاحب لكل انتخابات، وثانيها: السؤال المطروح داخل أروقة الأحزاب المشاركة، أما المساحة الثالثة: فهي تلك الحالة المحصورة فوق حصرها في وسائل التواصل الاجتماعي.
ظهر حراك المقاطعة الاعتيادي هذه المرة بذات الأدوات والخطاب غير المتجدد، وبحضور أقل من المعتاد، والذي لم يرتقِ على الإطلاق لمتغيرات هذه الدورة الانتخابية، ليس لعجزه أمام المظاهر العالية للتأييد الشعبي للقائمة المشتركة فقط؛ بل لوضع بائس يعانيه منذ فترة، حتى تلاشى حضوره وسط الضجيج، وضعٌ بائس نراه واضحًا في عدم تنظيمه لمهرجان أو حدث شعبي واحد، يُروج فيه لفكرة المقاطعة وايجاد البديل، والتي مهما علا الضجيج لابد من حضورها بقوة.
أما في الدوائر الحزبية، فقد حضر سؤال المقاطعة في أروقة الأحزاب الداخلية، ولو نظرنا للتجمع الوطني الديمقراطي كنموذج، سنرى تنبه بعض الكوادر إلى تركيز العمل الحزبي على تحصيل المقاعد في الكنيست، وخلال فترة العمل عليه قبيل كل دورة انتخابية، حتى صارت هيكليته الداخلية تتركز على رموز الكنيست، والأسماء المرشحة لتصدر قوائم انتخاباته، بالإضافة لتحول تلك القوائم إلى مساحة لإبراز قيادات الحزب وتصديرها، حتى صار الكادر يرى في ذلك الترشح قوة للتغير والتأثير، ومكانًا للتقدير على عمله في دوائر الحزب، في هذا السياق نستطيع التأمل في الحضور الباهت للأمين العام للتجمع عوض عبد الفتاح على حساب سطوع نجم أي رمز من رموز الكنيست.
كما انتشرت نبرة تمييز عند الكوادر في اختيار القيادات وانتخابها حسب قدرتها على إقناع المجتمع الإسرائيلي، ومخاطبته بلغته ونبرته التي يحبها ويفهمها، كان هذا جليًا في مهاجمة وتقييم أداء حنين الزعبي بعد تصدير الإعلام الاسرائيلي لها على أنها “المتطرفة”؛ الأمر الذي أوشك أن يُسقطها في الانتخابات الداخلية للتجمع مقابل هبة يزبك، دون الأخذ بعين الاعتبار تهديدها بالشطب آنذاك لتصريحاتها خلال حرب غزة وما قبلها، وضرورة الوقوف معها للتأكيد على رؤية الحزب ومواقفه!
أما المساحة الثالثة، فكانت في الإعلام الجديد، حيث تنوع رفض المشاركة حسب أرضية الرافض، فمن مجرد الرفض إلى تخوين الأحزاب المشاركة، وصولًا إلى مهاجمة وصهينة المشاركين والمصوتين في الانتخابات، دون النظر إلى خصوصية يوميات الفلسطيني في الـ 48، ولكن من المهم تفهمهم دون تفهم قذارة خطاب بعضهم لتنوع المنطلقات والأرضيات، كما يتم تفهم غزيٍ لا يستوعب مرور ابن الضفة الغربية على حاجز عليه جنود احتلال دون دهس أحدهم، وابن مخيمات اللجوء في الخارج الذي لا يرى نفسه في أي معادلة من معادلات غزة والضفة الغربية والداخل.
تفهم هؤلاء وأرضية خطابهم، لا يغير من حقيقة مستوى تأثيرهم المتواضع والمحدود جدًا في معادلة الانتخابات.
ماذا عن البديل؟
هذه الانتخابات ونتائجها أكدت من جديد على أن المجتمع الإسرائيلي لا يمكن التأثير فيه، ولا حتى عليه، فبعد توحد الأحزاب المشاركة ودعم السلطة الفلسطينية وكثير من الجهات لها، وفشلها في تحقيق مقولاتها وشعاراتها في تحييد اليمين الإسرائيلي، وإنهاء نتنياهو، أو حتى وضع حد لعنصرية المجتمع وساسته، صار لابد من التركيز أكثر وأكثر على إحياء وبناء مؤسسات وأطر تعمل خارج سياق كل مؤسسات الاحتلال، وتُعطي مساحة أكثر لتلك الأحزاب المقيدة للعمل على المجتمع وتهيئته، وزرع روح المبادرة لديه في سياق فلسطيني شامل.
وفي نفس الوقت، لا يمكن قراءة ارتفاع المشاركة والتصويت للقائمة المشتركة، وتراجع المصوتين للأحزاب الصهوينية بعين رومانسية فقط، فمن الواضح أن جماهير الداخل تبحث عن مشروع يوحدها ويضعها في سياق فلسطيني، نستطيع رؤية ذلك بذات العين عندما نعود لنتائج انتخابات الكنيست عام 2003، والتي تخللت الانتفاضة الثانية التي فرضت حالة وأجواء من الاشتباكات على كل فلسطين، حيث ارتفعت وقتها نسبة المشاركة والتصويت لحزب التجمع، وارتفعت مقاعده من مقعد واحد عام 1999 إلى ثلاث مقاعد لمواقفه وخطابه آنذاك.
هذه الجماهير تُريد أن ترى نفسها في مشروع فلسطيني عربي شامل ينتشلها وينقلها ويضعها في سياقه، ومن الواضح أنها تُفضل وجودها خارج سياق الاحتلال ومؤسساته، وفي سياق مواجهة أدوات أسرلته.
فلسطينيو الـ 48 في سياق فلسطيني
بؤس نقاش تفاصيل فلسطينيو الـ 48 هو ذات البؤس في نقاش حال غزة وحصارها، وتحرك الضفة الغربية لكسر الهيمنة الأمنية عليها، وفك حصار مخيم اليرموك ودعمه، وتوفير الحق في الحياة الكريمة لأهالينا في مخيمات لبنان، وغير ذلك من النقاشات التي يجري خوضها بسياق محلي بعيدًا كل البعد عن أي مشروع فلسطيني، يحدد معالم وملامح الطريق نحو تحرير الفلسطيني من قيوده المحلية ليتمكن من تحرير أرضه وعودته، ويفرض على الفلسطيني وأحزابه في كل مكان معاييرًا وطرقًا عليه السير والالتزام بها، وأخذها بعين الاعتبار خلال قراراته المحلية؛ ليتم بعدها وضع دوائر حول الخارجين عن المشروع وملامحه، ومحاسبتهم ومحاكمتهم.
حتى ذلك الحين، سنبقى في ذات النقاشات، وسنعود لنقاش انتخابات الكنيست في دورتها القادمة كما نقوم بذلك مع كل دورة انتخابية، ومن على ذات أرضية النقاش، تمامًا مثلما يجري اليوم في نقاش حصار غزة ومخيم اليرموك، دون أي تقدم أو تغيير، وكأن الزمن وتقلباته لا قيمة لها في نقاش يحترم التراكم ويوظفه.
نُشر هذا المقال لأول مرة في مدونة أحمد البيقاوي