“كابتن هذه الطائرة ومساعده يعلنان لكم أنهما خدما سابقًا في الجيش ولديهما زوجة وأولاد ويعيشان حياة سعيدة،” هكذا قال أحد الطيارين منذ أيام على متن طائرته الأمريكية قبل الإقلاع، في محاولة لطمأنة الركاب على صحتهما النفسية بعد حادث طائرة جِرمانوينغز Germanwings الذي راح ضحيته 150 شخصًا بسبب الطيار أندرياس لوبيتز، الذي قرر أن ينهي حياتهم جميعًا لأسباب تشير حتى الآن إلى اصابته باضطراب نفسي.
ظلت الطائرة الألمانية، التي ارتطمت بجبال الألب في فرنسا الثلاثاء الماضي في طريقها من برشلونة إلى دوسلدورف، لغزًا لساعات طويلة، قبل أن تنجح الفرق الخاصة في الحصول على الصندوق الأسود سليمًا، لتثبت بما يدع مجالًا للشك أن لوبيتز اتخذ قرارًا واعيًا بإيقاع الطائرة ومن عليها، إذ استغل غياب مساعده عن غرفة التحكم ليغلق الباب وينفرد بقيادة الطائرة، ويرفض بعد ذلك الاستجابة لطرق زميله على باب الغرفة.
لعشر دقائق كاملة، وبينما بدأت الطائرة الهبوط لأسفل خارج مسارها، كانت أنفاس لوبيتز المسموعة في تسجيل الصندوق الأسود عادية وهادئة، فلم تتوقف لتشير ربما إلى حالة إغماء، ولم تتخللها تمتمات غير مفهومة، لتشير كالعادة إلى شبهة الانتماء لجماعة إرهابية أو تنظيم يميني متطرف، إنها مجرد أنفاس لوبيتز مع الطرق الشديد لزميله على الباب، والذي لجأ إلى استخدام فأس في النهاية دون جدوى.
ما الذي يدفعنا للتأكد من أنها جريمة عن عمد؟ إنها أصابع لوبيتز والتي حوّلت ارتفاع الطائرة من حوالي 11،600 متر إلى 30 متر فقط، وإصراره على إبقاء الباب مغلقًا بوجه مساعده، والذي تتيح له شفرة طوارئ الدخول إلى غرفة التحكم إذا تعرّض الطيار داخل الغرفة للإغماء ولم يرد لنصف دقيقة ولم يواصل التحكّم، ولكن لوبيتز، الموجودة بأفضل حال داخل الغرفة، ألغى الشفرة وواصل التحكم، ليلقى حتفه مع 149 شخصًا كانوا على متن الطائرة.
الأخصائيون النفسيون يتحدثون
أندرياس لوبيتز
بعد أن فتّشت الشرطة منزل لوبيتز، اكتشفت مذكرة طبية من طبيبه الخاص تمنعه عن العمل لفترة تشمل يوم الحادث، وهي المذكرة التي أخفاها عن شركة طيران جِرمانوينغز، كما أشارت صحيفة نيويورك تايمز من مصادر خاصة إلى أن لوبيتز كان يبحث عن علاج لمشاكل في نَظَرِه ربما سببتها عوامل نفسية، وكانت لتهدد مستقبله في العمل كطيّار، مما دفعه على الأرجح لإخفائها.
بالإضافة إلى ذلك، كان لوبيتز يعاني في 2009 من دورة اكتئاب حادة، طبقًا للصحيفة الألمانية بيلد، وأمضى عامًا ونصف يتلقى العلاج، بيد أن أهله وجيرانه وأصدقاءه يقولون أن كل تلك الأعراض يعاني منها الآلاف، ولا يمكن أن تفسّر ما قام به، لا سيما وأنه كان طبيعيًا جدًا في الفترة الأخيرة.
من جانبه، حذّر سيمون ويسلي، رئيس الكلية الملكية للأخصائيين النفسيين في بريطانيا، من أن تؤدي تلك الأخبار إلى ردة فعل سلبية من جانب شركات الطيران وغيرها تجاه مرضى الاكتئاب، وأن مريض الاكتئاب أصلًا لا يجب أن يُمنَع من العمل بالطيران نظرًا لعدم وجود ارتباط بالضرورة بين مرضه وإقدامه على حادث من هذا النوع.
يخشى كثيرون الآن ألا يكون هناك رابط بالفعل بين حادثة لوبيتز وصحته النفسية، بل وحتى إن وُجِد، فإنهم قلقون حيال عزوف البعض ممن يحتاجون العلاج والمتابعة على المستوى النفسي والعقلي عن التوجه إلى الجهات الطبية المعنية، لكيلا يتركوا أي وثيقة أو مذكرة طبية توثّق مرضهم، وبالتالي تهدد عملهم أو سمتهم مستقبلًا.
“لا يُعقَل أبدًا أن يُقول شخص أنني محرومة من عملي لأنني مكتئبة، أو لأنني عانيت في فترة من حياتي بالاكتئاب، وكم منا أصلًا لا يمر بذلك؟ هذا الأمر أشبه بأن يُمنَع شخص كُسِرَت يده من ممارسة الرياضة مدى الحياة،” هكذا قالت نورين أختر، زميلة بجامعة أبردين، “واحد من أربعة يمر بحالة اكتئاب أو اضطراب عقلي، هل يعني هذا أن نضع 25٪ من مجتمعاتنا تحت مزيد من الضغط والخوف من الرفد أو الحصول على وظائف بصعوبة؟ إنه أمر غير مقبول”.
قوانين جديدة
تمتلك شركة جرمانوينغز، التابعة لخطوط الطيران الألمانية لوفتهانزا، واحدة من أفضل برامج اختبارات الطيارين للتأكد من كفاءتهم، حيث تجري معهم مقابلات مطولة قبل أن يبدأوا الخضوع للتدريبات، لتختار 10٪ فقط من المتقدمين لها كل عامين، ورُغم أنها لا تملك اختبارات نفسية منفصلة للطيارين بعد أن ينتهوا من التدريب، إلا أن نظامها في مراقبة الطيارين لأنفسهم ورصد تصرفاتهم يُعَد كفئًا بشكل عام على مستوى العالم، بل ويشجع الطيارين أنفسهم على الحديث بشكل مفتوح مع مديريهم بدون حرج أو خوف من الرفد.
بعد الحادث، ارتفعت الأصوات المطالبة بوجود اختبارات نفسية، بينما أعلن وكالة أمن الطيران البريطانية تنسيقها مع نظيرتها الأوروبية حيال تشديد الإجراءات في هذا الصدد، بيد أن الاختبارات النفسية لا يمكن أن تخبرنا بشكل قطعي عن مدى خطورة حالة معيّنة، كما يقول روبرت بور، مستشار سابق لوكالة أمن الطيران الأمريكية، ومؤلف كتاب الصحة العقلية للطيران.
“حتى مع وجود اختبارات نفسية شديدة، لا يمكن أبدًا التعرّف على حالات كتلك، خاصة وأن الطيار الذي ينتوي القيام بفعل كهذا قد يكون ماهرًا بشكل كبير لاجتياز الاختبارات التي سيخضع لها، وهو ما يعني أنها لن تضمن السلامة التي يعتقد كثيرون أنهم سيحصلون عليها منها، الأفضل هو التركيز على احتياطات العمل والتواجد داخل غرفة التحكّم”، هكذا تحدث روبرت بور.
على العكس من القوانين في الولايات المتحدة، والتي تمنع بشكل واضح أن يظل أحد الطياريَّن منفردًا في غرفة التحكم دون الآخر منذ حادثة 11 سبتمبر، لم تكن خطوط الطيران في أوروبا قد طبّقت تلك القاعدة، بيد أن اتحاد الطيران الألماني قد أعلن عن اتخاذ ذلك الإجراء مباشرة بعد الحادث، ليبدأ تطبيقه في كافة خطوط الطيران الألمانية، وهو قرار اتخذته أيضًا وكالة أمن الطيران الأوروبية وشركات الطيران الأسترالية والبريطانية والكندية.
بالنظر للغضب الذي انتاب كثيرين من تركيز وسائل الإعلام على صحة لوبيتز النفسية من جهة، وصعوبة خلق اختبارات نفسية من جهة أخرى، يبدو أنه ليس ثمة حيلة أمام شركات الطيران سوى تطبيق قواعد السلامة المعمول بها في الولايات المتحدة والاعتراف بأن عدم تبنيها كان تقصيرًا من جانبها، وهي التي ربما تستفيد من إخفاء لوبيتز لمذكرته الطبية لتبرئة نفسها وعدم مواجهة دفع تعويضات لأهالي الضحايا.
“شيطنة مرضى الاكتئاب أمر مرفوض، وأنا لا أشعر بأي مشاعر سلبية تجاه لوبيتز، بل أشارك والديه حالة الحزن التي يمران بها، وأشعر بالشفقة حيال الهجوم الذي يتعرضان له الآن، لقد فقدت أيضًا ابني في هذا الحادث، وأنا أعرف جيدًا كم الضغوط الموجودة عليهما،” هكذا قال والد واحد ممن راحوا ضحية الحادث، في بادرة لرفع اللوم عن الطيّار وتوجيهه لشركة الطيران، والتي لا تزال مصرّة على أنها غير مسؤولة، وأنها كانت لتمنع لوبيتز عن قيادة الرحلة لو علمت مذكرته الطبية.