لم تدم معركة إدلب إلا أيامًا معدودة، وكأنها حُسمت قبل أن تبدأ، ولعل ما يحدث حولنا في المحيط الإقليمي قد ساهم في رسم ذلك الانتصار ولو معنويًا، فقد حُررت إدلب بعد أيام من معركة مهمة كانت قد حسمت في بصرى الشام في جنوب سوريا، ولا يخفى أن انتصار الشمال والجنوب هو انتصار سياسي ورسائل موجهة أكثر منه نصر عسكري، بالرغم من أهميته العسكرية.
ولكن على صعيد الثورة، ما حجم تلك الانتصارات على خارطة الصراع في سوريا؟ وهل يكفي الثورة أن تخبر العالم أنها موجودة بين حين وآخر وأنها مازالت تقاتل؟! ثم ماذا بعد؟! تحرير إدلب وبصرى الشام هو بالتأكيد نصر للثوار وتقدم للثورة، ولكنها توحي في نفس الوقت أنها مرهونة لإرادة بعض القوى من حولنا، وستخبرنا الأيام القادمة عن حجم تلك الانتصارات وهل هي عارضة أم أنها من صميم المعركة الرئيسية للشعب السوري وهي إسقاط الأسد؟ وأذكر هنا بمعارك كثيرة كانت تبدولنا خطوة في الاتجاه الصحيح ولكن الأيام التالية أثبتت العكس، منها معركة كسب في الساحل السوري على سبيل المثال.
لا توجد حركة بدون اتجاه وإلا فهي العبث والفوضى، وإلا فيجب أن تكون كل همسة ونظرة وخطوة مضبوطة ومنسجمة مع الاتجاة الصحيح، محكومة بقبلتها وموصلة إلى غايتها، وهذا قانون عام لا تخلو منه أفعال العقلاء وأقوال الحكماء، حتى وإن توافق ذلك مع حركة أخرى قدرًا ومصادفة، فلا يجب أن نفتر عن التذكير والتأكيد على الغاية الأولى التي تحركنا من أجلها، فالمبررات الواضحة هي التي تحفظ السير من أن يعتريه الانحراف أو أن يضل طريقه، وهي التي تذكرنا بين الحين والآخر إذا ما غفلنا أونسينا.
الثورة السورية ليست قضية محلية ولا إقليمية، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون لنا الكلمة العليا في تحديد مصيرها وتوجيهها نحو ما يخدم مصالحنا، فإما أن يكون الثوار هم الرقم الصعب في معادلة، تحكمهم خطة ذات اتجاه واضح، أو أن يكونوا جزءًا من خطط الآخرين، يتقدمون الخطوة ليقطف غيرهم ثمرتها، ففي النهاية كل تحول سياسي مرهون بخطوة على الأرض تتقدم فيها أو تتأخر، وتلك الخطوات هي الأوراق التي توضع في يد السياسي عندما يذهب إلى طاولة المفاوضات ليقطف ثمرة تلك الجهود.
تحقيق الاتجاه الواحد بحيث تصب فيه كل التضحيات والجهود التي بذلت ومازالت تبذل خلال أربع سنوات هي عمر الثورة، ليس بالأمر الهين أبدًا، فالانقسام ليس على الأرض فقط وإنما في العقول والأهواء، فكل حزب لما لديهم فرحون، والأفكار تشظت وتنوعت كثيرًا خلال الثورة، وتشظى معها المجتمع السوري، وتعددت مصادر الدعم فتعددت الغايات وضاعت البوصلة، لقد كان لكل فكرة جاءت من خارج سوريا أثرها المميت على الثورة وعلى عقول أبنائها، وكل فلس دخل سوريا بشكل غير فردي جاء لينمي جسمًا آخرغريب عن الثورة.
العالم ليس مثاليًا، ولن يخدمك حزب أو دولة لأنها تحبك – عدا أفراد فقدناهم على الجبهات وإن اختلفنا معهم -، فكل يبحث عن مصلحته وذلك مفهوم، أما الذي لا يقبله الفهم هو أن يتكئ الثوار على غيرهم يطعمهم ويسقيهم ويفكر بدلاً منهم!
لقد أصبحت الثورة مرهونة لمن يدفع أكثر، ولم تعد خالصة لأبنائها، وذلك لا يثمر نصرًا حتى وإن سقط الأسد ودخل الثوار دمشق، ما دامت الأسلحة التي بيدهم ملك لغيرهم، وتعمل عندما يريد هو لا عندما يريدون هم، وما دامت الأمور على حالها تلك، فلن يتسنى لأحد توحيد تلك الجهود والتضحيات لتصب في نهاية المطاف في هدف واضح محدد، كيف يمكننا في ظل هذه الحالة أن نراكم الانتصارات في تلك المعارك حتى نظفر بالحرب، فحربنا طويلة الأمد ولا تكون إلا كذلك، أما إذا تدخل أحدهم ليحسم الأمر، فقد خرجنا من الحرب وربما نكون أداة له في أحسن الأحوال.
ولكي تكتمل الصورة أقول إن كل معركة يخوضها الثوار على الأرض ملحمة تحنى لها الرؤوس، ولكن ذلك لا يغني أبدًا عن التذكير دائمًا بأن ذلك هو جزء المعركة الأول وأن الإجابة على سؤال “لماذا هذه المعركة”؟ أو “ما الذي بعد هذه المعركة” هو جزءها الآخر، وربما هو الجزء الأصعب منها، ويتطلب من الشجاعة ما يفوق أن ينغمس أحدهم في الأعداء فيثخن فيهم، ففي الأولى الهدف واحد والغاية واحدة، أما في الثانية فلكل مشروعه وأحلامه، ومن هنا تبدأ النكبة!