كتب مايكل وايس ومايكل بريجنت
ترجمة وتحرير نون بوست
بدأت الطائرات الحربية الأمريكية بقصف مدينة تكريت التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية بغية إنقاذ الحملة البرية المحاصرة والمتعثرة التي أطلقتها بغداد وطهران منذ أسبوعين، هذه العملية – التي وُصفت بأنها انتقام لقيام داعش بذبح 1700 جندي شيعي في قاعدة سبايكر في يونيو الماضي- أُطلقت بدون أي تشاور مع واشنطن، وكان من المفترض أن تكون قد انتهت الآن، أي بعد ثلاثة أسابيع من النشوة التي شعرت بها الحكومة العراقية إثر تقهقر داعش من معقلهم في مسقط رأس صدام حسين والتفاؤل بقرب استعادة السيطرة على كامل تكريت نتيجة لذلك.
قدّر مسؤولون أمريكيون عدد القوات الموالية للحكومة المضطلعة بمهام محاربة داعش بـ 23.000 إلى 30.000 شخص، وقلة فقط ضمن هذه القوات تعمل بشكل رسمي ضمن الجيش العراقي، أما البقية فتتألف من مجموعة ميليشيات شيعية تعمل تحت راية الحشد الشعبي، أو ضمن قوات التعبئة الشعبية، والتي تم تجميعها إثر الفتوى الصادرة عن المرجعية الشيعية في العراق آية الله علي السيستاني في يونيو 2014، التي صدرت في أعقاب الحرب الخاطفة التي نفذها داعش وسيطر فيها على أجزاء من شمال العراق، وإمعانًا في تكريس التفاوت بالقوة، يُقال إن قوات التعبئة الشعبية تقود حوالي 120.000 مقاتل، في حين أن الجيش العراقي يقود 48.000 جندي فقط.
وفي وجه هذا الجمع الحافل من القوات شبه العسكرية، تمكّن حوالي 400 إلى 1000 مقاتل من داعش من الصمود في تكريت، وأجبروا العمليات القتالية الرئيسية على التوقف، والسبب بذلك يعود – في الجزء الأكبر منه – إلى لجوء الدولة الإسلامية إلى ذات التكتيكات القاتلة التي استعملها تنظيم القاعدة في العراق – التجسيد السابق لداعش – ضد القوات الأكثر مهنية والأفضل تجهيزًا المتمثلة بالجيش الأمريكي، كما أشار مايك جيغليو في مقالة له بموقع بازفيد (BuzzFeed) عنونها باسم “العدو الخفي في العراق”، إلى اقتدار ومهارة داعش في تصنيع العبوات الناسفة، ووصف مدى تطور وتعقيد هذه المتفجرات، لدرجة أن فرق التفكيك الماهرة والمدعومة من المتخصصين الإيرانيين يجري تمزيقها إربًا نتيجة لهذا “العدو الخفي” في تكريت.
داعش التي تسيطر على مئات الأميال المربعة من الأراضي العراقية، لديها عدد غير معروف من مصانع القنابل والعبوات الناسفة، ونظرًا لمعرفتهم بتضاريس المنطقة بشكل جيد، كانوا قادرين على تفخيخ المنازل والطرقات، لا بل يُعتقد أيضًا أنهم استطاعوا تفخيخ السبحات الشيعية التي تجدها ملقاة على الأرض، وقال مسؤول كردي لجيغليو إن مقاتلي البشمركة الكردية وحدهم استطاعوا تفكيك أو تفجير أكثر من 6000 عبوة ناسفة على طول خط الجبهة مع داعش الممتد حتى 650 ميل وذلك منذ بدء الحرب في أغسطس الماضي.
الحصيلة التي مُنيت بها الميليشيات نتيجة لهذه المفخخات هي حصيلة خيالية، حيث يشير عمال مقبرة في النجف لصحيفة واشنطن بوست أن حوالي 60 جثة تصل يوميًا إلى المقبرة، كما أشار المسؤول السابق في وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية ديريك هارفي في تغريدة له الأسبوع الماضي، أن مصدر شيعي عراقي أخبره أن عدد عناصر الميليشيات التي قضت نتيجة لهجوم تكريت قد تصل إلى 6000 شخص، وأن التهليل بنصر الميليشيات في تكريت بمجمله صنيعة مضللة لآلة الدعاية الإيرانية، كما قال جيفري وايت مسؤول سابق آخر في وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية والذي يعمل الآن في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى “هناك إخفاق في إرادة الميليشيات والقوات الحكومية، فمن الملاحظ نقص الرغبة والعزيمة الكافية للتقدم بالمعركة إلى الأمام وذلك نظرًا للخسائر التي يُمنون بها”.
ونتيجة لهذه الأوضاع اضطرت ذات الحكومة العراقية التي أنكرت حاجتها في وقت سابق إلى القوة الجوية الأمريكية إلى طلبها مؤخرًا، لئلّا ينحدر الفوز السهل الذي هللوا وروجوا له إلى حماقة محرجة، ومن المفترض أن تكون الأشهر القليلة الماضية قد أظهرت أن فكرة الاعتماد – ولو بشكل غير مباشر – على عملاء إيرانيين لفتح حرب برية ضد المتطرفين السنة كانت دائمًا فكرة رديئة لثلاثة أسباب؛ أولها أن هؤلاء العملاء يمقتون الولايات المتحدة وهددوا بمهاجمة مصالحها في العراق لأكثر من مرة، وثانيها لأنهم أنفسهم مذنبون بمجازر من الطراز الذي ترتكبه داعش، ولأنهم أخيرًا رديئون في مكافحة التمرد القائم على القيم الجهادية الراسخة.
وتعليقًا على ذلك قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مارتن ديمبسي أمام الكونجرس يوم 3 مارس “نحن نراقب بعناية ما إذا كانت الميليشيات – الذين يطلقون على أنفسهم قوات التعبئة الشعبية – تقوم باستعادة الأراضي التي خسرتها، أم تنخرط في أعمال انتقام وتطهير عرقي”، وأضاف “لم يكن من الضروري أن نراقب لفترة أطول لنتأكد بأنهم ينخرطون في هذه العمليات”.
جرائم الحرب
في 10 مارس الجاري، أصدر مكتب الأمم المتحدة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) دراسة شاملة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي اُرتكبت من قِبل داعش والقوات الحكومية العراقية، واختتمت المفوضية في تقريرها بقولها إنه من المرجح ارتكاب الدولة الإسلامية لجرائم الإبادة الجماعية ضد الإيزيديين وهم أقلية عرقية ودينية في العراق، وتشمل هذه الجرائم الاغتصاب الجماعي والاسترقاق الجنسي، ولكن على الجانب الآخر كانت عبارات المفوضية لا لبس فيها حول إدانة الجانب الآخر في ساحة المعركة، حيث جاء في التقرير “خلال صيف عام 2014، انتقلت قوات التعبئة الشعبية والميليشيا الشيعية ومتطوعون آخرون من أراضيهم في الجنوب، نحو الأراضي التي تسيطر عليها الدولة الإسلامية في وسط وشمال العراق، وفي خضم الحملة العسكرية ضد الجماعة التي تمت فيها استعادة بعض الأراضي، يبدو أن الميليشيات تركت مخلفات الموت والدمار في أعقابها”.
تشير الوقائع أن القرى السنية الواقعة في مناطق أمرلي وسليمان بيك والتابعة لمحافظة صلاح الدين، تم نهبها أو تدميرها من قِبل الميليشيات التي تفترض – زورًا – أن جميع السكان الذين عاشوا تحت حكم داعش يجب أن يكونوا متعاطفين أو متعاونين مع التنظيم، حيث أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش أيضًا أنها اكتشفت مؤخرًا أن عملية تحرير قرية أمرلي في أكتوبر الماضي – العملية التي نفذتها قوات التعبئة الشعبية بقيادة إيرانية والتي تلقت دعمًا جويًا من قِبل الولايات المتحدة – تميزت بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق، بما في ذلك نهب وحرق المنازل والأعمال التجارية لسكان السنة الذين يعيشون في القرى المحيطة بقرية أمرلي، واختتمت هيومن رايتس ووتش التقرير بالوصول – من خلال روايات الشهود – إلى نتيجة مفادها أن الهدف خلف هذه العمليات واضح وهو التطهير العرقي، حيث جاء في التقرير “لقد كان تدمير الأبنية في 47 قرية على الأقل ذات أغلبية سنية عملًا ممنهجًا ودافعه الانتقام ويهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لمحافظتي صلاح الدين وكركوك المتنوعتين دينيًا”.
في الواقع لم تقتصر جرائم العقاب الجماعي على الطائفة السنية، حيث يشير شاب شيعي تركماني يبلغ من العمر 21 عامًا إلى قيام مسلحين من سرايا طلائع الخرساني – مليشيا أخرى مدعومة إيرانيًا – بإحراقه بالسجائر وتقييده على المروحة السقفية، وأوضح الشاب لهيومن رايتس ووتش ما حدث بقوله “استمروا بالقول لي أنت من داعش، وأنا ما برحت أنكر ذلك، كانوا يضربونني بشكل عشوائي على وجهي ورأسي وكتفي واستخدموا أنابيب المياه وأخمص الأسلحة، ذهبوا لتناول الغداء ثم عادوا وضربونا لمدة ساعة ونصف، وفي وقت لاحق من تلك الليلة سألوني إن كنت سنيًا أم شيعيًا، وأجبت أنني تركماني شيعي وطلبوا مني اثبات ذلك بالصلاة على الطريقة الشيعية، وبقيت على هذا الحال لمدة تسعة أيام”.
هذه الممارسات موثقة بآلاف مقاطع الفيديو التي تم نشرها على وسائل الإعلام الاجتماعي، والتي تثبت بأدلة مصورة أن ممارسات الميليشيات الشيعية في العراق أشبه بممارسات الدولة الإسلامية، من ذبح وتعذيب وتخوين للسكان، إلى استعمال هذه الفظائع كوسيلة لتجنيد المقاتلين من القرى، والأمر الأكثر مدعاة للقلق، هو ما أشار إليه تحقيق قناة إي بي سي نيوز في العراق، والذي استمر لمدة ستة أشهر، وتبين على إثره وجود أفراد من قوات الأمن العراقية التي دربتها الولايات المتحدة مسؤولين عن المذابح ضد السنة، حيث يبين أحد مقاطع الفيديو قيام ضابط من القوات الخاصة العراقية باتهام صبي أعزل في سن المراهقة بإطلاق النار ضد القوات الحكومية – لأمر الذي أنكره الصبي – قبل فتح النار عليه.
نظرة الجانب الأمريكي
إن سياسة مكافحة الإرهاب التي تتبعها إدارة أوباما في الشرق الأوسط، والمصالحة الدبلوماسية التي تنشدها هذه الإدارة في إيران، أدت إلى تضاؤل اهتمام أمريكا بجرائم الحرب الجسيمة المرتكبة من قِبل عملاء إيران ووكلائها، علمًا بأن هذه الجرائم لا تقتصر فقط على العراق؛ ففي سوريا على سبيل المثال، تم اتهام قوات الدفاع الوطني – مجموعة من الميليشيات المدربة والمجهزة من قبل فيلق القدس الإيراني وهو كيان مصنف كإرهابي في الولايات المتحدة – من قِبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، بحرق ما لا يقل عن 81 شخصًا حتى الموت، بما في ذلك 46 مدنيًا و18 طفلًا و7 نساء و35 مقاتلًا من المعارضة المسلحة، وعلى الرغم من أن وزارة الخارجية الأمريكية أعربت عن تعازيها بوفاة والدة الرئيس الإيراني حسن روحاني، بيد أنها لم تنبس ببنت شفة – حتى الآن – عن جرائم حرق السوريين المرتكبة على أيدي فيلق القدس.
جميع ما تقدم يقودنا للتساؤل: هل أمريكا لها “مصالح مشتركة” – وفق العبارة التي صاغها وزير الخارجية جون كيري – مع إيران؟ هل تشترك بمصالحها مع نظام طهران الذي يقوم وعملاؤه في المنطقة بحرق الناس أحياء وهي في منازلها؟ هل تتعاون فعلًا مع نظام يلعب أفراده – حرفيًا – كرة القدم برؤوس بشرية مقطوعة، ويمارس التطهير العرقي بهدم قرى بأكملها وتسويتها بالأرض؟
من غير المفترض أن يتفاجأ المسؤولون في الحكومة الأمريكية بالواقع الذي يشير إلى أن غلو الاحتلال الإيراني في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين من شأنه أن يؤدي إلى زيادة سفك الدماء باسم الجهاد السني، والجنرال ديمبسي بالذات يدرك تمامًا معنى هذا، كونه سبق له وأن قاد الفرقة المدرعة الأولى في بغداد، والتي عملت في عام 2004 على محاربة الميليشيات الشيعية التي استولت على كربلاء وغيرها من مدن الجنوب، لذا شهد الجنرال بزوغ قوات التعبئة الشعبية، ولاحظ طريقة إدارتها للحرب، ومع ذلك تمكن بطريقة ما من إقناع المشرعين أن دور الجمهورية الإسلامية في العراق قد يكون إيجابيًا بالنظر إلى أن دورها لم يؤد إلى زيادة في الطائفية، ولكن الملاك الإيراني مالبث وأن سقط من مخيلة ديمبسي، بعد أن قام بجولة مروحية في بغداد الأسبوع الماضي ولاحظ وفق ما قال “عدد كبير من الأعلام، وأحد هذه الأعلام فقط كان العلم العراقي”، أما بقية الأعلام فهي تابعة للميليشيات الشيعية، وربما قد يكون هو المسؤول الذي أخبر الصحفيين أيضًا أن صور آية الله روح الله الخميني وآية الله علي خامنئي قد أصبحت الآن منتشرة في كل مكان من العاصمة العراقية.
يمكن ملاحظة أن جميع المسؤولين عن الوضع العراقي ابتدءً بالجنرال ديفيد بتريوس وصولًا إلى رئيس المخابرات الكردي مسرور بارزاني، يدركون أن الميليشيات الشيعية تشكل تهديدًا لاستقرار العراق على المدى الطويل أكبر من التهديد الذي تبرزه الدولة الإسلامية، وقد وصل وضوح هذه الفكرة إلى درجة تلميح آية الله السيستاني لأكثر من مرة في الآونة الأخيرة عن الانتهاكات المتفشية التي ارتكبها المتطوعون الشيعة الذين انضموا للقتال بعد فتوى السيستاني.
ولئن اعترفنا إنه من الصحيح أن معظم العراقيين لا يرغبون في العيش في حالة من التبعية لإيران، فلابد أن نعترف أيضًا أن معظم وحدات قوات التعبئة الشعبية هي في الواقع فروع معروفة لفيلق القدس، حيث يقول الباحث فيليب سميث الخبير في الميليشيات الشيعية “إن التلقين المذهبي لهذه الوحدات معادٍ للولايات المتحدة، وهي أيديولوجية الخميني، لقد تعززت الطائفية في العراق سواء أشئنا ذلك أم أبينا”.
وفقا لكريس هارمر ضابط البحرية الأمريكية السابق والذي يعمل حاليًا كمحلل في معهد دراسة الحرب، لا يمكن حقًا تمييز الأخيار من الأشرار في العراق الآن، وأضاف “المليشيات الشيعية قتلت مئات الأمريكيين خلال الحرب، وهذه المنظمات التي نتعامل مها الآن ليست منظمات تابعة لتلك المليشيات، لا، هؤلاء هم ذات الأشخاص وذات المليشيات”، وأردف قائلًا “هل تستطيع أن تجد أي غبي مقتنع أن إيران تسعى لعراق مستقر وموحد وعلماني وغير طائفي؟”.
عدو عدونا هو عدونا
في الواقع، وبصرف النظر عن تلطخ أيديهم بالدماء الأمريكية، ورغم ابتعادهم عن المصالح الأمريكية، عمدت الميليشيات الشيعية إلى اتباع لعبة إيران المفضلة، ألا وهي النظر إلى أمريكا بعين الريبة وإلقاء اللوم عليها بخلق داعش ودعم هذا التنظيم عسكريًا، وبذات الوقت انتقدت هذه المليشيات بشدة عدم مشاركة أمريكا في محاربة التنظيم في العراق.
يمكننا أن نطرح بضعة أمثلة على هذه الثنائية المتناقضة، خذ على سبيل المثال، فيلق بدر برئاسة هادي العامري، قائد الحشد الشعبي، وهو الرجل الذي اشتهر باستخدام المثقب لحفر جماجم خصومه، وفقًا لما ذكرته برقية صادرة عن وزارة الخارجية في عام 2009، والتي اتهمته أيضًا بتوجيه الأوامر بشكل شخصي ببدء أكثر من 2000 هجوم على السنة في العراق.
على الرغم من هذا السجل الكئيب والإجرامي، دعا أوباما العامري إلى البيت الأبيض في عام 2011 عندما كان وزيرًا للنقل في العراق، ولكن المثير بالموضوع أن العامري مدح أمريكا وذمها في ذات الفترة تقريبًا، حيث أشاد بمبادرة ستيوارت جونز سفير الولايات المتحدة الحالي في العراق، الذي عرض عليه شخصيًا الدعم الجوي الأمريكي الوثيق لقواته على الأرض، وبذات الوقت انتقد العراقيين الذين يقبّلون أيدي الأمريكان ولا يحصلون على شيء في المقابل، وعندما يتعلق الأمر بطهران، فإن العامري يبدي امتنانه وغبطته وثنائه على الدعم غير المشروط الذي تتلقاه بلاده من إيران، ولكن في الآونة الأخيرة خفف العامري من لهجته تجاه أمريكا، حيث أشار في حديثه لصحيفة الغارديان في 26 مارس: “نحن لم نطلب من أمريكا القيام بالغارات الجوية على تكريت، وليس لدينا اتصال مباشر مع الأمريكيين، وحسب معلوماتي، قام رئيس الوزراء حيدر العبادي بهذا الطلب، ومع ذلك، نحن نحترم قراره”.
مثال آخر على هذا الموضوع يتمثل بكتائب حزب الله التي يمكن اعتبارها الميليشيا الشيعية العراقية الوحيدة في العراق المصنفة كأحد الكيانات الإرهابية من قبل الولايات المتحدة، ولكن هذا التصنيف العتيد لم يمنع عناصر الكتائب من التجول في دبابات الأبرامز الأمريكية وناقلات الجند المدرعة واستعمال بنادق الـM4 والـM16 الأمريكية، وبشكل عام استعمال جميع الهبات التي أغدقها عليهم العم سام، والمتمثلة بمليار دولار من المعدات العسكرية التي تم إرسالها من أمريكا إلى بغداد، ولكن – للأسف طبعًا – لم تمارس الولايات المتحدة أي رقابة أو استقصاء حول الجهات الفاعلة – الأجنبية أو المحلية – التي ستتلقى هذه الهدايا في نهاية المطاف، والمثير بالموضوع أن استعمالهم للأسلحة الأمريكية الوفيرة لم يثنِ كتائب حزب الله من التحريض علنًا على العنف ضد قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة لتدمير الدولة الإسلامية.
وحول ذات الموضوع يقول الباحث فيليب سميث الخبير في الميليشيات الشيعية “مؤخرًا اتهمت كتائب حزب الله الولايات المتحدة بتوريد السلاح لداعش عبر المروحيات، ونشرت الكتائب مادة هزيلة وهزلية تدعي فيها أنها أسقطت طائرة شحن بريطانية تحمل أسلحة إلى داعش، كما قالوا أيضًا إنهم في طريقهم لتحريك بطاريات صواريخ مضادة للطائرات من بغداد إلى الأنبار والشمال لمواجهة الإنزال الجوي الذي تساعد فيه الولايات المتحدة داعش، وبشكل عام كلما شعروا بازدياد نفوذ الولايات المتحدة في العراق، يشرعون بتهديد الجنود الأمريكيين”.
الجدير بالذكر أن كتائب حزب الله، يرأسها أبو مهدي المهندس وهو جاسوس إيراني يُعتقد أنه المدبر والمخطط لتفجير سفارتي الولايات المتحدة وفرنسا في الكويت في ثمانينيات القرن الماضي، حتى إن هناك صورة له وهو يرفع صحيفة كويتية تشير إلى ضلوعه بهذا العمل الإرهابي الدولي، وفضلًا عما تقدم يوجد فيديو منشور لكتائب حزب يظهر أفراده وهم يلعبون برؤوس بشرية مقطوعة.
مثال آخر على الثنائية التناقضية هي ميليشيا عصائب أهل الحق، المسؤولة عن كمين في عام 2007 أسفر عن مقتل 5 جنود أمريكيين في كربلاء، وهؤلاء أيضًا يسرحون بسعادة حول العراق وهم يعتلون العربات والسيارات المدرعة الأمريكية، كما يُقال إن بعض عناصرهم سرقوا القنصلية الأمريكية في البصرة، ويشير مسؤول أمريكي، لم يكشف عن اسمه، لقناة الجزيرة أن ميليشيا عصائب أهل الحق مسؤولة عن إحراق المنازل في قرية البو عجيل – قرية قرب تكريت – في الآونة الأخيرة، في سلوك انتقامي للمجازر التي تقوم بها الدولة الإسلامية، وفضلًا عما تقدم يُشار إلى هذه الميليشيا على أنها متورطة في اختطاف وقتل الشيخ قاسم سويدان الجنابي، أحد زعماء العشائر السنية الذين عملوا مع القوات الأمريكية في محاربة تنظيم القاعدة في العراق خلال ما يسمى بفترة الصحوة.
وفيما يتعلق بمقتل الشيخ قاسم سويدان الجنابي، من الملاحظ قيام رجل الدين الشيعي الديماغوجي مقتدى الصدر- الذي كان أحد كوابيس القوات الأمريكية في بغداد – بإدانة قتل الجنابي بلهجة شديدة، حيث صرح بقوله “ألم أقل لكم إن العراق لا يعاني من شذاذ الآفاق فحسب بل إنه سيعاني من المليشيات الوقحة أيضًا، ألم أقل لكم إنه يجب تسليم الجيش العراقي زمام الأمور، ألم أقل لكم إن الحقبة السابقة قد أفاءت على العراق بازدياد نفوذ الميليشيات وشذاذ الآفاق وتسلطهم على رقاب الشعب المظلوم”، وفي بادرة حسن نية أعلن الصدر عن “تجميد” مشاركة الفصائل التابعة للتيار الصدري في العمليات الجارية ضد داعش والمتمثلة بسرايا اليوم الموعود وسرايا السلام، علمًا أن المعلومات القادمة من الأرض تشير أنه تم “فك” هذا التجميد منذ أسبوع تقريبًا.
أصدقاء الأسد في العراق يسعون لقتل الأمريكيين
إن تحول العراق إلى نظام الباسيج “نظام إيراني يعني نظام التعبئة الشعبي” هو مصير لا مفر منه، نظرًا لانحلال وفساد الجيش العراقي المدرب أمريكيًا، والنفوذ الإيراني المتنامي في بغداد حتى قبل سيطرة داعش على ثلث البلاد، “عندما تم تدمير الجيش العراقي في يوليو الماضي، كان هذا الأمر هدية لإيران كونه ساعدها على بناء هذه الميليشيات” وفقًا لتصريح الجنرال نجم الجبوري، رئيس بلدية وقائد شرطة بلدة تلعفر سابقًا، وهي بلدة على الحدود العراقية السورية تسيطر عليها الدولة الإسلامية حاليًا، وأضاف الجبوري في المقابلة التي أُجريت معه مؤخرًا “قبل بضعة أيام، ذهب خالد العبيدي وزير الدفاع العراقي إلى تكريت، إلا أن الميليشيات لم تسمح له بالدخول، لذا اضطر إلى البقاء في سامراء”.
في ظل جميع ما تقدم، يصبح استمرار تركيز المسؤولين في الحكومة الأمريكية على أنه لا يوجد تنسيق أمريكي مباشر مع إيران أو وكلائها أمر مضحك ومثير للسخرية، حيث يزعم الجنرال جيمس تيري، قائد القوات الأمريكية في الائتلاف لمحاربة داعش أن “الضربات الجوية الحالية المستمرة الموجهة من الجيش العراقي وقوات التحالف، تهيئ الظروف لعمل هجومي ستقوم به القوات العراقية التي تحاصر تكريت، إن قوات الأمن العراقية المدعومة من قوات التحالف ستستمر باكتساب الأرضي”، وذلك في إشارة سخيفة إلى أن القوات الحكومية العراقية هي وحدها المضطلعة بالأمور على الأرض.
ولكن هزلية الطرح الأمريكي تكمن في الطريقة التي يتم بها تحديد الأهداف التي تسهدفها الضربات الجوية الأمريكية، وفي الواقع تبيّن هذه الطريقة التي شهدها كاتب هذا المقال شخصيًا في بغداد، الكيفية التي يتم فيها تحديد الأهداف من قِبل الحرس الثوري ومن ثمّ الآلية التي تشق فيها هذه الأهداف طريقها لتصبح على قائمة أهداف الجيش الأمريكي؛ حيث يعمل قادة الميليشيات الشيعية على تمرير الأهداف المختارة من قِبل فيلق القدس إلى فيلق البدر التابع لقيادة قوات الأمن العراقية، التي تعمل بدورها إلى تمريرها على أنها أهداف مشروعة لممثلي وزارة الدفاع العراقية في مراكز العمليات المشتركة، وهناك يتم نقلها إلى المستشارين الأمريكيين الذين يقومون بوضعها ضمن قائمة الأهداف للطلعات الجوية، علمًا أن هذا النمط من انتقال الأهداف حاولت القوات الأمريكية وقفه واعتراضه أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق – عندما كان هناك فعلًا إستراتيجية عسكرية لمواجهة النفوذ الإيراني في البلاد – ولكن بدون جدوى.
هذه المتوالية الاستخباراتية في العمل والتي تتضمن إسناد مهام الاستهداف القذرة للولايات المتحدة، معروفة من قِبل الجميع، قاسم سليماني يعرفها، وكذلك أبو مهدي المهندس والعامري وأعضاء فيلق البدر في قوات الأمن العراقية، لذلك من المنطقي أن يكون البنتاغون – وبغض النظر عن ادعاءاته – على معرفة وثيقة بهذه السلسلة، وهذا يقودنا للقول إن عملاء المخابرات الإيرانية هم الآن عيون أمريكا على أرض الواقع.
ولكن ضمن هذه الأوضاع ما هو مصير تكريت؟ مما لاشك فيه أن الدولة الإسلامية ستندحر من تكريت وإلا سيتم قصف أعضائها حتى الموت، لكن خسارة داعش ستكون خسارة تكتيكية، وليست إستراتيجية، ورغم من اندحارها من تكريت، بيد أنها ستبقى مسيطرة على الموصل ومعظم محافظة الأنبار، أما بالنسبة للمليشيات العراقية فيقول كريس هامر من معهد دراسة الحرب “جلاء داعش من تكريت سيكون له تأثير مباشر على المعارك المستقبلية، حيث سيقول رجال الميليشيات: انظروا كيف سحقناهم في تكريت، من يريد أن يتطوع لاقتحام الموصل؟”.
وحتى لو انتهى الأمر بوكلاء إيران بجمع قواهم على حدود الموصل، ستبقى المليشيات الشيعية هي قوة الاحتلال المطلقة فيما بعد عهد الدولة الإسلامية في تكريت، وتشير كاتبة واشنطن بوست لوفداي موريس في إحدى تغريداتها في 26 مارس، أن كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق علّقت عملياتها في تكريت، ولاشك أن هذا القرار جاء انطلاقًا من رغبة هذه المليشيات بعدم الظهور كمتعاونين مع الولايات المتحدة، ولكن بمجرد إعلان البنتاغون للنصر في المدينة، فإن هذه الميليشيات – بلا أدنى شك – ستحاول ركوب الموجة واختطاف النصر والانتقال إلى تكريت للعمل كقوة احتلال شيعية جديدة تستبدل الاحتلال الداعشي.
أشارت بعض التقارير يوم الخميس الماضي أن ثلاث ميليشيات شيعية أعلنت انسحابها من عمليات تكريت اعتراضًا على انضمام أمريكا للعملية عن طريق الضربات الجوية، ولكن الأنباء الواردة حاليًا تشير أنهم تراجعوا عن قرارهم وألغوا مقاطعتهم، والسبب بذلك يرجع – إلى حد كبير- إلى فتوى أخرى صدرت عن آية الله السيستاني، ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، فإن الضربة الأمريكية التي استهدفت بالخطأ عصائب أهل الحق قرب تكريت بالكاد أثارت استياء الميليشيات، حيث قال ممثل فيلق البدر للصحيفة “نحن لم نتراجع عن مواقعنا قرب تكريت”، أما باقي أعضاء المليشيات فصرحوا أنهم لن يسمحوا أن يمر هذا الاستهداف دون عقاب وأعلنوا عن نيتهم باستهداف الجنود الأمريكيين في العراق.
فمن جهته صرح أكرم الكعبي، قائد حركة النجباء، التي خاضت الحرب أيضًا مع نظام الأسد في سوريا “نحن باقون في تكريت، لن نغادر وسوف نستهدف قوات التحالف التي تقودها أمريكا في تكريت وداعش التي صنعوها”، الكعبي كان سابقًا أحد قادة عصائب أهل الحق، وارتبط اسمه مع هجمات الميليشيا ضد القوات الأمريكية والبريطانية في فترة 2008-2011، بما في ذلك حادثة اختطاف المتعاقدين البريطانيين من وزارة المالية العراقية وقتلهم في وقت لاحق.
وعلى الرغم من كافة ما تقدم أطلع قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال لويد أوستن مجلس الشيوخ يوم الخميس على تطورات الوضع في العراق بقوله “حاليًا، لا توجد ميليشيات شيعية، وكما أفاد العراقيون اليوم، قوات التعبئة الشعبية غير متواجدة في المنطقة أيضًا”، وهذا التصريح الغريب يدلل إما على قيام القوات الأمريكية بمساعدة الميليشيات عن طريق الدعاية الكاذبة أو الجهل التام بما يحدث على الأرض، علمًا بأن مارتن تشولوف كاتب الجارديان، والذي عاد لتوه من تكريت، أبلغنا أن كلًا من العامري والمهندس كانوا في وسط المدينة يوم 26 مارس.
إن حملة إطلاق الاتهامات والسخط على أمريكا التي يتم ممارستها من قِبل الميليشيات الشيعية لا يمكن بحال من الأحوال تصنيفها على أنها مسألة عرضية أو بسيطة، فوفقًا لصحيفة بوليتيكو، المخططون العسكريون الأمريكيون قلقون الآن من أن أي قرار سيتخذونه حول استهداف أو عزل نظام الأسد في سوريا، سيشجع إيران أو وكلائها لمهاجمة مدربي الجيش الأمريكي الـ3000 المتمركزين حاليًا في العراق، ورغم أنه من الصعب التأكد من صحة هذا القلق في ظل عدم إظهار أي نية من جانب إدارة أوباما لاستهداف أو عزل نظام الأسد، المسؤول عن غالبية حالات القتل وجرائم الحرب المميتة في سوريا، بيد أن النتيجة ستكون ذاتها في الحالتين، فسواء أكانت المخاوف صحيحة أم لا، واشنطن تتصرف الآن كما لو أنها تحتاج إلى إذن من طهران لمواصلة تطبيق إستراتيجيتها الخاصة المتعلقة بمحاربة داعش.
ما هي خطة أمريكا؟
“ما هي الإستراتيجية الأمريكية؟” يسأل كريس هارمر، ويتابع “لقد تدخلنا فقط في جزء واحد ويسير من المعركة في سوريا وهي كوباني فقط، فما هي خطة أمريكا لمواجهة الدولة الإسلامية في سوريا؟ تدريب 5000 متمرد سوري كل سنة؟ هذه خطة مضحكة، فبالنظر إلى الـ 200.000 قتيل خلال حرب الاستنزاف السورية، والأربعة ملايين لاجئ، والتدمير البطيء للبلاد، يصبح رقم الخمسة آلاف غير كاف حتى للمباشرة باللعبة، فكيف سيكون كاف للاستمرار؟”، ويضيف “يجب أن يدعمنا قسم كبير من السكان في سوريا، الشريحة السورية المعتدلة يحب أن تكون في صفنا، ولكن الواقع يشير أن هؤلاء يصفون أمريكا بأنها غير جديرة بالثقة، وبالتالي هم ليسوا في صفنا، وهذا هو السبب الذي أدى إلى انهيار المعارضة المعتدلة، واستفاد من هذا الانهيار تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية والأسد”.
وفي الواقع انعكس فقدان الثقة بالولايات المتحدة من السنة المعتدلين في سوريا إلى السنة المعتدلين في العراق، حيث أشارت بيانات جديدة أن معظم الموصليين رحبوا بدخول داعش إلى ثاني أكبر مدن العراق، وهذا الترحيب لم ينبع من التعاطف الأيديولوجي مع الجماعة الإرهابية، بل من المظالم السياسية عميقة الجذور التي يعاني منها الشعب تجاه الحكومة العراقية، ورغم ذلك لم تحرك إدارة أوباما ساكنًا لمعالجة هذه المظالم، حيث إن زعيم عشائر الأنبار الشيخ أحمد أبو ريشة – الذي قُتل شقيقه برصاص تنظيم القاعدة بعد أيام فقط من لقائه مع الرئيس جورج دبليو بوش في بغداد في عام 2007 -، لم يستطع ببساطة ترتيب أي لقاء مع أي مسؤول أمريكي في البيت الأبيض خلال جولته في واشنطن التي استمرت 10 أيام خلال شهر فبراير الماضي، ونائب الرئيس الأمريكي جو بايدن أراح نفسه من عناء الحوار مع العراقيين، بتلخيص موقفه بقوله لهم أن يتعاونوا بشكل بناء مع الحكومة الجديدة برئاسة حيدر العبادي.
“الكثير من الأشخاص في الموصل سيقفون مع داعش إذا قامت الميليشيات الشيعية بغزو أراضيهم”، قال الجنرال نجم الجبوري، وأضاف موضحًا “80% من سكان العراق لا يحبون داعش، ولكن إذا شاركت الميليشيات في العمليات ضدهم سيقف هؤلاء الـ 80% بشكل حازم مع داعش، سبق لي وأن قلت للأمريكيين، الصورة الآن مختلفة عن عام 2003، لأن أهل السنة حاليًا يريدون القوات الأمريكية فعلًا، وسوف يرمون الزهور عليهم في حال مجيئهم هذه المرة، لأن المعركة الآن ليست بينهم وبين الولايات المتحدة وداعش، بل بين السنة وإيران، والمشكلة أن غالبية السنة لاتزال ترى أن الولايات المتحدة متحالفة ضدهم مع إيران”.
في النهاية، وسواء تم الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران في لوزان أم لم يتم، وسواء اتبع أوباما نظام البيريسترويكا مع طهران نتيجة لذلك أم لم يتبع، فالحقيقة الراسخة هي أن معظم العراقيين يتطلعون بحزن إلى مستقبلهم على المدى الطويل الذي سيجعلهم جزءًا من نظام الملالي وولاية الفقيه، وهذا بطبيعة الحال لن يجلب إلا المزيد من العنف الطائفي والدمار والحرب الأهلية، ويقول علي الخضيري المسؤول الدبلوماسي الأمريكي الذي كان يخدم في المنطقة الخضراء في العراق “التقيت مع حوالي عشرين قائد وطني في العراق الأسبوع الماضي، وتكلمت مع المسؤولين الشيعة والأكراد والسنة، يمكنني الجزم بأن جميعهم تقريبًا مقتنعين بأن رئيس الوزراء الفعلي للبلاد هو قاسم سليماني ونائبه هو أبو مهدي المهندس”.
المصدر: فورين بوليسي