نحن في زمن الدولة التي تفكر، ففي السابق كان لديها القسر. لم يحدث في التاريخ أن احتاجت الدولة إلى استخدام الأفكار في فرض هيمنتها مثلما تحتاجها اليوم، حين أصبح الناس يقرأون ويتابعون ويتفاعلون عبر الإنترنت.
وهنا نتحدث عن الدولة العربية الحديثة. فتاريخيا، عاشت المنطقة العربية مرحلتين، الأولى كانت وقت قرون الخلافة حين ترامت أجزاء الأمّة وتوسعت، وأصبحت المناطق الشاسعة في انعزال طبيعي عن المدن الكبرى والمراكز الإدارية التي كانت أضعف من أن تسيطر على كل هذه المناطق، فكانت الأفكار والملل بذلك موزعة ومتنوعة ولديها حيز للوجود. ولم يكن التاريخ قسرياً ولا منمّطا كما يتصور البعض، حيث إن قراءتنا للتاريخ تفشل في قراءة السائد والعمومي وتركز على قراءة الأحداث اللافتة التي لا تعني شيئاً كبيراً بحسب نظريات “التاريخ الجديد”.
المرحلة الثانية هي مرحلة الدولة العربية الحديثة التي، منذ أكثر من نصف قرن، لم تكن محتاجة إلى أن تستخدم الأفكار لأنها دولة شمولية وتستخدم القسر. استخدمت فقط أفكارا وخطوطا عريضة وكانت تملك كل الأدوات والقدرات لأن تجبر الناس على تصديق “الحكاية الكبرى” واتباعها. لكن اليوم لم تعد الدولة حرة ومطلقة اليد في تفعيل الاضطهاد والقسر، لوجود المراقبات الدولية، والمجتمع المتعلم، والإعلام والشبكات الاجتماعية.. لكل هذا اضطرت الدولة أن تخوض في المرحلة الثالثة.
في المرحلة الثالثة وجدت الدولة نفسها أمام مجتمع متعلم، يطمح بعضه إلى الحرية التي تُعنى بتقليل مظاهر السلطوية، ولديه الكثير من الأفكار التي كان محظوظا أن وجد وسائل تساعده على التعبير عنها، مثل الإنترنت. تلاحظ الدولة يوما بعد يوم أن الناس تتزايد أفكارهم، ويتلاحم منطقهم الذي أًصبح مهددا لمنطق الدولة ودعائيتها التقليدية. من هنا احتاجت الدولة، التي كانت طوال عمرها دولة “ضابطة للأفكار”، إلى استراتيجيات جديدة كي تبقى مسيطرة، والأهم كي تحيا في زمن تموت فيه الأشياء المزيفة ومن بينها “الحكايات الكبرى” التقليدية.
إن دخول الدولة إلى عالم الأفكار أمر متجدد، فالدولة جهاز ضخم ومعقد يطمح للسيطرة، وتتنوع أطوار هذه الهيمنة بحسب الزمان. تحدث بعض مفكري العصر الحديث عن نوع “ثقافي” حديث للهيمنة، أخطر من الهيمنة السياسية والاقتصادية. فالمُهيمَن عليه حين يتبنى أفكار المهيمِن، سيعمل طواعية لتلبية ما يريد هذا الأخير.
وتتناغم هذه المقاربة الحديثة للهيمنة مع ما حدث تاريخياً. ففي صدر الإسلام تبنى بنو أمية فكرة “الجبر” كأساس لهيمنتهم، وكانوا يقسرون الناس بالقوة على قبول ذلك. ذكر الجابري أن الطاعة “تُفرض في أولية الدولة على الأجسام بالقوة والسلاح. ولكنها في فترة الضعف تُطلب باسم الدين”(العقل الأخلاقي العربي، 149). هكذا تسربت مفاهيم الطاعة ثقافياً مع كتبة بني أمية ومع رجال الدين، والمتلقي لهذه الثقافة أصبح هو نفسه من يفرش المسرح لرقصة الاستبداد.
والدولة ذات بُنية تتكون من حقول بيروقراطية وإدارية ينشط فيها فاعلون تحتكر الدولة صياغة تصنيفاتهم الأساسية من كفاءات وسواها، ويأتون عبر سياقها الذي تصنعه. الدولة بذلك -كما يرى بورديو- تساهم في إنتاج وإعادة إنتاج الواقع الاجتماعي بكل ثقل. ومن هنا نحن قد نتحدث عن واقع اجتماعي مختطف وأسير، يفتقد ذاته كمرجعية تساعده على المضي إلى الأمام. ويسوء الأمر إن كانت الدولة ذات عصب وبنية تسلطية.
والدولة العربية ذات أساس مؤسسي تسلطي متين. لقد تم تشييد هذه الأركان منذ البداية على شمولية، نجحت في فرض القوة والقسر والخطاب الأحادي، وأعقبت سجلا متواضعا لحقوق الإنسان، ولم تقدم بجوار ذلك سوى تنمية محدودة، ورعاية لم ترع القيمة العليا للإنسان: استقلاله وحريته.
رأى خلدون النقيب أن الدولة الخليجية دخلت مرحلة الدولة التسلطية منذ ترسّم ثقافة “الريع” سريعاً بعد ولادتها منتصف القرن العشرين، وهي لا تزال حتى اليوم في ظل ذلك الوضع القائم status quo نفسه.
إن الفترة القسرية حال “إنشاء الدولة” هي حالة استثناء لا يفترض اتخاذها كمثال. هنالك بنيوية رسمتها الدول في بداياتها لا يفترض أن تمثل “إطاراً” وهيكلا مستمرا لحركة الدول. وهناك أعراف ساهمت الدولة في صنعها في ذلك الظرف التاريخي ليس لها أن تكون المرجع الاجتماعي والأخلاقي. لقد احتكرت الدولة هذه المجالات وذهبت فيها بعيداً، ووصلنا إلى مرحلة يطالب فيها مسؤولون بالصحف بما سمّوه “هيئة أمنية لمراقبة الأفكار”!. إن الدول التي لا تتمرحل في بنيتها وتركيبتها السياسية ذات وضع صعب، يُذكر وضعها بعبارة مخيفة لابن خلدون “إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع”.
إن الظرف التاريخي لبناء الدولة مرحلة تستفرد فيها هذه الأخيرة بمجالات مختلفة. تبعاً لذلك استقال الفرد من هذه المجالات، وأصبح يشعر بالغربة والضعف من أن يفهم ويدخل ويعرّف هذه المجالات (مثل المجال الأمني). يشبه هذا الأمر امتداح ابن خلدون لثقة البدو مقابل الحضر، لأن الأخيرين ركنوا للراحة “ووكلوا أمورهم في المدافعة عن أحوالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم”.
من المهم أن نعرف ما هي وسائل الدولة العربية الحديثة أمام هذا المد من “أفكار الناس”؟. والحديث هنا عن الدول التي لم تفتح مجالاً للممارسة والمشاركة السياسية. لم يعد تفعيل النخب القديمة وتوظيفها مفيداً مع تغير الزمن. فهذا التنوّر الجديد لدى الطبقات الشبابية الجديدة إنما أبرز صدره في الأساس تجاه هذه النخب التقليدية، أمام زيف رجل الدين، وإقطاعية شيخ القبيلة، ومصلحية التاجر، وخيانة المثقف والإعلامي..
من هنا أرادت الدول أن تتجاوز طرقها التقليدية، وتفكر من جديد في سبل الحفاظ على الهيمنة من وجوه أخرى. الجزء المتبقي من المقال يذكر بعض الوجوه الحديثة التي تستخدمها الدول للمحافظة على الهيمنة:
الجانب الاقتصادي. وهو الجانب الأهم في حكايات الهيمنة. نظام الاقتصاد السياسي الريعي سائد في الدول العربية، وله تاريخ ممتد مع الهيمنة. لقد استبدل هذا النظام ثقافة الحقوق بثقافة الامتيازات؛ الامتيازات التي أصبحت مدخله المفضل للمساومة. دولة خليجية، على سبيل المثال، هددت من يقدم تصريحا إعلامياً غير مقبول لديها بالفصل من وظيفته. والوظيفة الحكومية كما نعرف هي عصب الحياة لدى المواطنين!. دولة خليجية أخرى هددت موظفي الجمارك الذين عزموا على الإضراب بأنها ستقوم بفصلهم وجلب “عمالة أجنبية” عوضاً عنهم.
الريع نظام يلجأ دوماً للحلول السهلة بالنسبة له، ويعمل على توفير البدائل عبر المال الوفير. النظام الريعي نظام مخيف، فهو قد يستغني عن الشعب نفسه. أي يستغني عن إنتاجه وأفكاره ومختلف تفاعلاته مع أجهزة الدولة.
تجديد الحكايات الكبرى. ويتم ذلك في السياق الثقافي والديني. في السابق كان يتم تصوير الديمقراطية ومختلف أنواع الحداثة الثقافية أنها مسارات تغريبية وخارجة عن السياق الشرعي. اليوم انخرط الناس في مختلف وجوه الحداثة، وتعارفوا على أهمية الديمقراطية. من هنا تم الانتقال لحكاية أخرى تقول: إن القوى التي فازت في الديمقراطية إنما تستخدمها لأجل “السلطة”. وهذا واضح في عملية تجريم الإسلاميين الواسعة في العالم العربي اليوم، مع أنهم في المرحلة الأخيرة مارسوا السياسة لا أكثر. إنها عملية إعادة انتاج مستمرة يقوم بها الطرف القوي.
الإنترنت وقوة الدولة مقابل الفرد فيه. الإنترنت وقدرة الناس فيه على كسر الحكايات الرسمية أعطت الناس في مختلف أنحاء العالم قوة للتعبير، لكن يبدو أن هذا كله كان مؤقتا. فمختلف السلطويات اليوم أعادت تنظيم نفسها، وأثبتت الحكومات والشركات الرأسمالية أنها تتقدم على الفرد دائما. في السابق استفاد الأفراد لفترة من خدمات مجانية وفرها الإنترنت، لكن الشركات اليوم تعود لفرض رسومها من جديد، كالصحف مثلا. أيضا الإنترنت كشف للناس أشياء كثيرة، لكنه يكشف للقوى المهيمنة أشياء أكثر. وما فضيحة التجسس الأميركي “على العالم” مؤخرا عبر الشبكات الاجتماعية الكبرى إلا جزء من ذلك.
احتكار المجال العام، والسيطرة على المجالات المتنوعة في داخله. هنالك حضور هيمنة للدولة الشمولية في مجالات متنوعة كالثقافي والديني والتربوي ومؤسساتها. وهي تقدم آليات احتواء للنخب والقيادات الجديدة، وتمارس سياسات إقصاء تضعف من بروز النخب والقيادات المتباينة معها من كل مجال، أو سياسات عقاب منها عدم التوظيف والمنع من السفر والنشاط والظهور، هذا إذا لم يصل الأمر إلى اعتقال. إن المرجع في صناعة نخب المجتمع في سياق كهذا ليس المجتمع الذي يعتبر مجردا من بعض حقوقه. فبلا حق تجمع وحق تعبير، كيف سيذهب مجتمع إلى خطوته التالية؟!.
لابد أن نعرف أن الدولة كجهاز لن تفكر لأجل الناس، إلا حين يكون الناس موجودين في داخل الدولة ولهم سهم المشاركة فيها. أمّا جهاز الدولة المنعزل عن الناس والمشرف عليهم والراعي لهم فلن ينجح وحده في التفكير لهم، وإنما سيظل دوماً كما كان.. يفكر دوماً في السيطرة عليهم وعلى أفكارهم.