لا تملك جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سورية الثروات ولا الأسلحة التي يملكها منافسها تنظيم الدولة الإسلامية، بيد أن قوتها وشعبيتها آخذة في التصاعد منذ أواخر مارس 2015، وهي تستعد للاستيلاء على مدينة إدلب في شمال غرب سورية.
ينظر الغرب حاليًا إلى جبهة النصرة باعتبارها تشكّل تهديدًا، بيد أن براغماتيتها وتطورها المستمر، يعنيان أنها يمكن أن تصبح حليفًا في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، كما تجلّى ذلك خلال مقابلات أجرتها كاتبة هذه السطور مع أتباع وأنصار جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية على طول الحدود التركية – السورية في أواخر فبراير 2015.
على الرغم من أن محافظة إدلب تخضع بالفعل إلى سيطرة جبهة النصرة، لاتزال مدينة إدلب نفسها، مركز المحافظة، تحت سيطرة النظام السوري، لكن في أواخر مارس، تمكّنت جبهة النصرة وحلفاؤها (مثل حركة أحرار الشام وغيرها من الكتائب المسلحة السورية المعارضة والتي تشكّل التحالف المعروف باسم الجبهة الإسلامية) من تطويق المدينة تقريبًا، باستثناء ممر واحد فقط.
في حال نجحت جبهة النصرة في الاستيلاء على المدينة، ستصبح إدلب المركز الحضري الثاني الذي يخسره نظام الرئيس بشار الأسد منذ بداية الحرب السورية في العام 2011، وقد اتخذ النظام بالفعل خطوات عدة ردًّا على هذا التهديد، إذ دبّر عملية اغتيال قادة جبهة النصرة في المحافظة في أوائل مارس، وعندما لم يؤدّ ذلك إلى ردع جبهة النصرة، نقل النظام مكاتبه الإدارية من مدينة إدلب إلى جسر الشغور الواقعة إلى الجنوب الغربي من المدينة، في محاولة للحدّ من خسائره، وفي الوقت نفسه، كثّف استخدام البراميل المتفجرة في المنطقة؛ حيث تقوم المنظمات الإنسانية العاملة في المحافظة بتوزيع تجهيزات لمواجهة الأسلحة الكيميائية للردّ على ما تقول إنه استخدام النظام لغاز الكلور في بعض القنابل.
تقدّر منظمات الإغاثة أن يؤدّي تصاعد معدلات العنف الذي من المتوقع أن يحدث نتيجة استيلاء جبهة النصرة على إدلب وردّ فعل النظام اللاحق إلى نزوح نحو 100 ألف نسمة، وهو أعلى عدد من المشردين داخليًا ينتقل في وقت واحد في سورية منذ بدء النزاع، وفقًا لما يقوله مسؤول مساعدات بارز تحدثت معه.
التنافس مع الدولة الإسلامية
في نهاية العام 2013 كانت جبهة النصرة أقوى فصيل إسلامي فاعل في سورية، غير أنها سرعان ما وجدت نفسها في مواجهة قوة أخرى قوية: تنظيم الدولة الإسلامية، وقد انخرط قادة تنظيم الدولة الإسلامية في العديد من المعارك الأيديولوجية مع جبهة النصرة، وفازوا فيها، حيث تحدّوا شرعيتها الدينية، بينما قاموا أيضًا باغتيال العديد من قادتها.
ساعد النجاح العسكري، ونغمة الشرعية الأيديولوجية، فضلًا عن الموارد البشرية والمادية الهائلة، على تحويل تنظيم الدولة الإسلامية إلى أغنى منظمة إرهابية في العالم، ما أتاح له تجنيد المزيد من المقاتلين، والاستيلاء على المزيد من الأراضي، وزيادة كثافة هجماته على جبهة النصرة، ونتيجة لذلك، بدا أن جبهة النصرة تضعف طيلة العام 2014 تقريبًا، ولكن في أكتوبر 2014، وبعد وقت قصير من بدء الحملة الجوية للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة في العراق وسورية، بدأت الجبهة تظهر حيوية جديدة.
لم تحصل جبهة النصرة على حبل النجاة بين عشية وضحاها، فقد تمكّنت ببراغماتيتها، ومن خلال رأس المال البشري، من أن تعوّض تدريجيًا ما كانت تفتقر إليه في مجال القدرة العسكرية والجاذبية الأيديولوجية والموارد.
يؤثّر البعد الإنساني لعمل جبهة النصرة على الأرض في سورية في العديد من القضايا، غير أن مقاربة الجماعة للأيديولوجيا تمثّل جوهرها، فعلى الرغم من أنها تتقاسم وتنظيم الدولة الإسلامية وجهات نظر وآراء متشابهة، لا تفرض جبهة النصرة أيديولوجيتها بصورة كاملة، وفي حين تقول مصادر محلية إن نسبة 80 في المئة من أتباع تنظيم الدولة الإسلامية في سورية ليسوا سوريين، فإن أعضاء جبهة النصرة في معظمهم سوريون، وبالتالي فهم أكثر وعيًا بالاختلافات المحلية في الثقافة والعادات، وبالتالي يتيح ذلك لجبهة النصرة أن تكيّف عملية تطبيق أيديولوجيتها وفقًا لتلك الاختلافات؛ ما يجعلها أكثر شعبية من تنظيم الدولة الإسلامية بين السوريين.
على الرغم من ذلك، لا يبدو أن الغالبية العظمى ممن يؤيّدون جبهة النصرة متأثّرون بالأيديولوجيا، بل بالمشاعر المعادية للأسد، ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يكن يعتبر القتال ضد النظام السوري أولوية له حتى بعد زحفه على الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، في يونيو 2014، عندما بدأ النظام بمهاجمته للمرة الأولى، غير أن جبهة النصرة قاتلت النظام باستمرار طيلة فترة وجودها، وقد جعل الضعف النسبي للجيش السوري الحر المكوّن من شبكة من القوى المسلحة المناهضة للأسد، وافتقاره إلى الدعم الدولي الكافي، جبهة النصرة في نظر العديد من السوريين اللاعب الوحيد الموثوق الذي يقاتل النظام والقادر على تحقيق نتائج، والواقع أن انتصارات جبهة النصرة نسبة إلى حجمها ومواردها، تجعلها الجماعة الأكثر فعّالية التي تشارك حاليًا في الصراع السوري.
بناء التحالفات ومكافحة الفساد
إن قدرة جبهة النصرة على تقديم النتائج متأثرة إلى حدّ كبير ببراغماتيتها، فلاتزال الجماعة تتعاون مع طائفة واسعة من القوى المحلية التي لم يتم الضغط عليها للقتال تحت مظلتها، فبدلًا من ذلك، تقاتل تلك الجماعات مع جبهة النصرة كحلفاء، مايشّكل خروجًا جذريًا عن نموذج تنظيم الدولة الإسلامية، الذي لا يرضى بالتعاون إلا للضرورة القصوى.
هذه المقاربة مكّنت جبهة النصرة من توسيع شبكة دعمها بسرعة، بما في ذلك ضمّ بعض كتائب الجيش السوري الحر في حلب وحماة ودرعا، والأهم من ذلك أن جبهة النصرة تنخرط في منافسة ودّية مع حركة أحرار الشام، التي أصبحت في الآونة الأخيرة أكبر مجموعة تعمل تحت مظلة الجبهة الإسلامية بعد اندماجها مع فصيل آخر من الجبهة الإسلامية، ألوية صقور الشام، هذا التطور جعل حركة أحرار الشام بحجم جبهة النصرة تقريبًا، ولذا من الممكن أن يصبح التحالف بين الجماعتين عنصرًا مهمًا في الصراع السوري.
تعلمت جبهة النصرة أيضًا من أخطاء النظام والجيش السوري الحر، ففي شمال سورية، رأى الناس كيف أنه تم استبدال فساد النظام بفساد الألوية التي تقاتل تحت راية الجيش السوري الحر، مثل جبهة ثوار سورية، التي فرضت ضرائب غير منطقية على السكان، وأقامت نقاط تفتيش عمد أفرادها بانتظام إلى مصادرة ممتلكات المواطنين والتحكُّم بالإمدادات الغذائية.
استغلّت جبهة النصرة إطار مكافحة الفساد لكسب القلوب والعقول، وسرعان ما بدأ الناس يحبذون استبدال نقاط التفتيش التابعة للجيش السوري الحر بأخرى تابعة لجبهة النصرة، وقال أحد المؤيدين لجبهة النصرة في مقابلة أن الجبهة “لم تطلب منا أي شيء في مقابل حمايتنا”، كما استغلّت جبهة النصرة مكافحة الفساد لتبرير هجماتها على الألوية غير المتعاونة في الجيش السوري الحر، وقد حظي الهجوم الذي شنته جبهة النصرة على جبهة ثوار سورية في أواخر العام 2014 بتأييد شعبي واسع، على الرغم من أن الهدف الرئيس للهجوم كان القضاء على أحد أبرز منافسي النصرة العسكريين.
لاحظت جبهة النصرة أيضًا أن قادة الجيش السوري الحر في الشمال الذين أصبحوا أمراء حرب قد تخلّوا عن الخطوط الأمامية، فيما حرصت هي على بقاء قادتها في الميدان؛ ولذا فقد أبرز هذا الحضور فكرة أن جبهة النصرة وفّرت الحماية العسكرية والاجتماعية، وزادت إلى حدّ كبير من حجم قبولها في أوساط السوريين العاديين.
في حين لا يميل الكثيرون إلى أيديولوجية جبهة النصرة، ثمّة شعور متزايد في شمال سورية بأنها هي البديل الأفضل على أرض الواقع، وأن الأيديولوجيا تشكّل ثمنًا قليلًا يجب دفعه في مقابل مردود أعلى، فقد قال لي أحد المتعاطفين مع الجبهة: “من يدافع عني، له الحق في فرض أي قانون يراه مناسبًا”.
الضربات الجوية للتحالف الدولي التي بدأت في سبتمبر 2014 أخذت جبهة النصرة على حين غرّة، غير أنها زادت شعبية الجماعة؛ فقد شعر الكثير من السوريين بخيبة أمل من أن الغرب لم يتحرك ضد نظام الأسد، لكنه هاجم بدلًا من ذلك كيانًا يقاتل النظام، التفّ الكثيرون حول جبهة النصرة، ووفروا لها الدعم المحلي وساهموا في قدراتها على جمع المعلومات الاستخباراتية، وقد أتاح ذلك لجبهة النصرة زيادة المناطق الخاضعة لسيطرتها، ليس من خلال تحقيق المكاسب المحلية أو توفير الخدمات وهي الأساليب التي يستخدمها تنظيم الدولة الإسلامية لتوسيع انتشاره، بل من خلال الشبكات المحلية الموسّعة والنفوذ.
وقد مكّن هذا كله جبهة النصرة من زيادة قوتها إلى حدّ كبير في الشمال، حيث استولت على معظم محافظة إدلب وسعت لتدمير الألوية المنافسة بذريعة مكافحة الفساد أو محاربة الغرب، حدث ذلك مرة أخرى في الهجوم الذي شنته الجبهة في أواخر فبراير 2015 على حركة حزم، أول لواء في الجيش السوري الحر يحصل على أسلحة من الولايات المتحدة، والذي تم حلّه منذ ذلك الحين.
فرصة للغرب
تنظيم الدولة الإسلامية ليس هدفًا مباشرًا لجبهة النصرة، ذلك أن الجماعتين تكرّسان قدراتهما لقتال النظام السوري فضلًا عن الجيش السوري الحر، وقد تجنّبتا أن تكون لهما حدود محاذية في المناطق التي تسيطران عليها، في حلب، سمحت الجماعتان عمدًا ببقاء منطقة تفصل بينهما تحت سيطرة النظام لتكون بمثابة منطقة عازلة.
غير أن كلتا الجماعتين تتسابقان لتصبح كل منهما أقوى لاعب في سورية، وفي حين تعدّ مدينة إدلب، التي تضم 400 ألف نسمة، صغيرة نسبيًا، فإن السيطرة عليها تعطي جبهة النصرة دفعة معنوية كبيرة، ومن شأن ذلك أن يساعد جبهة النصرة على جذب المزيد من الكتائب ويعطيها ميزة على تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يسيطر على مدينة الرقة، ولكن ليس لديه أي حلفاء.
البراغماتية التي تتمتّع بها جبهة النصرة تعني أنها تريد أن تكون ممثَّلة على الطاولة عندما تتم صياغة صفقة سياسية بشأن سورية. ولعل هذا هو السبب، إلى جانب الشعبية التي تحظى بها النصرة، في أنها تشكّل تهديدًا أكبر للنظام من تنظيم الدولة الإسلامية.
لا تزال قطر، التي تسعى لتعزيز نفوذها في سورية، تراقب صعود جبهة النصرة وتحاول فصلها عن تنظيم القاعدة، ويكمن دافع قطر في طموحها لاستخدام جبهة النصرة كورقة رابحة في المناقشات الدولية حول تسوية الصراع السوري، لكن، لايمكن أن تتخلّى جبهة النصرة تمامًا عن أيديولوجية تنظيم القاعدة خوفًا من فقدان شرعيتها، بيد أنها أبدت مرونة في تطبيقها لهذه الأيديولوجيا، حيث أصبحت الآن أقوى عنصر مكوّن من تنظيم القاعدة، إلى الحدّ الذي سيكون فيه مستقبل تنظيم القاعدة، من دون جبهة النصرة، محفوفًا بالمخاطر ويقتصر على تأثير هام في اليمن فقط من خلال تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، لا بل إن حركة أحرار الشام تبدو أقلّ حدّة في تطبيقها للأيديولوجيا من جبهة النصرة، وإذا استمر تحالفهما، كما يبدو مرجّحًا نظرًا لبراغماتية جبهة النصرة، فسيكون لذلك تأثير مهدّئ على تطوّر وتطبيق أيديولوجية تنظيم القاعدة.
ولذا بدلًا من وضع جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في سلة واحدة، يتعيّن على الغرب أن ينظر إلى ما هو أبعد من الانتماء الأيديولوجي لجبهة النصرة وتشجيع براغماتيتها وهو يسعى إلى إنهاء الصراع السوري.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط