يعيش أكثر من نصف سكان الأرض الآن في الحَضَر، أي في المدن الكبيرة التي تعتمد على الصناعة وقطاع الخدمات وليس الزراعة أو الرعي بالأساس، على عكس الحياة الريفية والبدوية، بيد أن هذا لم يكن واقعًا حتى وقت قريب، حيث تجاوز تعداد السكان القاطنين بالمدن 50٪ من سكان العالم فقط عام 2007، بعد أن ظل يتزايد باطراد على مدار القرنين الماضيَّين نتيجة الثورات الصناعية والتكنولوجية التي عززت من قوة واقتصاد المدينة على حساب مجتمعات الريف والصحراء، ودفعت بالتالي سكانهما إلى النزوح للمدينة.
بداية المدينة
منذ ظهر البشر على سطح الأرض، كانوا يعيشون في مجموعات صغيرة متنقلة تعتمد على الصيد والترحال، ولم تكن هناك نقاط تجمع كبيرة ليستقروا فيها حتى بدأت الثورة الزراعية، والتي بدأ معها ارتباط الإنسان بمساحة معيّنة من الأرض ليزرعها، وبالتالي التزامه إياها وحاجته إلى بناء سكن له فيها، كما ازدادت أعداد التجمّعات البشرية نظرًا لحاجة الزراعة الموسّعة على أعداد أكبر من البشر مقارنة بالصيد.
بطبيعة الحال، احتاجت الزراعة إلى أنواع مختلفة من التنظيم والتوثيق والحسابات، على عكس الحيوانات التي اصطادها الإنسان القديم، والذي قام بالصيد بشكل فردي وكان يكرر ذلك كل أسبوع أو ما شابه حسب احتياجات أسرته أو قبيلته، في حين تطلبت الزراعة جدولًا زمنيًا على مدار العام، كما ربطت المجموعات البشرية ببعضها البعض نتيجة اختلاف الأراضي عن بعضها، فمن يزرعون القمح بكثرة على سبيل المثال كانوا يقومون بتصدير منتجهم مقابل منتج آخر لا يزرعونه وهكذا، مما فتح الباب أمام التجارة والتواصل بين الثقافات أكثر من ذي قبل.
ظهرت أول تجمعّات حضرية تقريبًا بعد العام 3000 قبل الميلاد في بلاد الرافدين ومصر ووادي السند، وقد تمتعت تلك المجتمعات الزراعية بالفعل منذ فترة مبكرة بتنظيمات دينية وسياسية وعسكرية، حيث قدّمت الدولة مهام التنظيم والحساب المطلوبة في الزراعة، في حين كان المواطنون هم الفلاحون، وكانت الجيوش تقدم الحماية لهذه الأراضي الزراعية من الغزو الخارجي.
على عكس ما يصوّر لنا البعض، لم تكن المدن الزراعية القديمة في الحقيقة شديدة التنظيم، بل كان هناك عامل عضوي، كما يسُمّى، وقد ظهر في المناطق السكنية المحيطة بالأراضي الزراعية، والتي نمت بشكل مركّب حسب حركة الناس من وإلى المدينة، مثلها مثل ما يُعرَف بالعشوائيات اليوم، في حين كانت المعالم الرئيسية للتنظيم الذي قامت به الدولة على نطاق أوسع هي الأسوار التي بنيت حول المدينة القديمة لحمايتها، وكذلك القلاع التي بنيت لصد أي هجمات عليها.
على الناحية الأخرى، كانت المدن اليونانية القديمة، والتي اعتمدت على التجارة أكثر من الزراعة، أكثر فوضوية، حيث غاب عنها وجود نسق موحّد، لتنشأ المدينة تدريجيًا من مجموعة قرى صغيرة، وتتخذ شكلها حسب الظروف الجغرافية المحيطة بها، وقد ورث الرومان كل ذلك العمران اليوناني، وأضافوا له بضعة جوانب تنظيمية مثل المساحات العامة والمعابد والتي أصبحت فيما بعد الكنائس في أوروبا، لتكون تلك المدن نواة لمدن موجودة حتى اليوم، مثل باريس ولندن، اللتين بدأتا كمدن رومانية صغيرة.
المدن الوسيطة Medieval Cities
إحدى مدن فرنسا القديمة
فيما يُسمّى بالعصور الوسطى، ونظرًا لتنامى الروابط التجارية بشكل أوسع بين القارات القديمة، لا سيما بين المسلمين والأوروبيين والهنود والصينيين، ونتيجة انتشار الأديان الثلاثة الإبراهيمية بشكل كامل مع الأديان الآسيوية في كافة أنحاء العالم، ازدادت المدينة تعقيدًا، وأصبحت تضم في ثناياها المدارس والجوامع والكنائس والأسواق والأماكن المخصصة للزوار القادمين من خارجها، سواء أكانوا رحالة أو تجار، لتنشأ الأزقة الضيقة الصغيرة، والتي عادة ما انتهت بالوصول لمنطقة عامة كسوق أو كاتدرائية أو غيرها، وقد اتسمت تلك المدن القديمة أيضًا بالنمو العضوي المركّب غير المنظّم بشكل أكبر من المدن الزراعية الأولى وإن احتفظت بمعالم مثل الأسوار والقلاع.
مع تطور التقنيات العسكرية خلال عصور الثورات الصناعية والنهضة والتنوير في الغرب، أو خلال أواخر أيام الخلافة وبدايات الاستعمار في الشرق، نشأ اهتمام كبير بالعمارة والتخطيط العمراني وكيفية تنظيم المجال العام، وبدأت إعادة بناء الكثير من المناطق العامة في أوروبا لتصبح هناك ميادين عامة وشوارع طويلة ومجموعات أكثر تنظيمًا من المباني الإدارية أو السكنية، وهو نمط تجلى بشكل كبير في المدن الجديدة أكثر من القديمة، مثل المدن التي بناها الاستعمار الإسباني في الأمريكتين، واتبعت نسقًا محددًا من الشوارع والميادين والمباني المشابهة لبعضها البعض.
خلال تلك القرون الطويلة، أصبح هناك اختلاف بين المناطق الزراعية البحتة، والتي نسميها اليوم بالمناطق الريفية، والمراكز الحضرية كما نعرفها اليوم كمركز لتجمع أكثر تنوعًا من السكان مع تنوع الأنشطة الدينية والتجارية والثقافية والفنية التي يقومون بها، وهو الذي نعنيه حين نتكلم اليوم عن “المدينة،” وقد ظلت غالبية سكان الأرض تعيش في الريف وتعتمد على الزراعة، في حين قطنت أعداد أقل تلك المراكز الحضرية.
التحوّل نحو الحَضَر
إحدى مصانع لندن بعد الثورة الصناعية
مع انطلاق الثورة الصناعية وما تلاها في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت تلك العلاقة بين المدن في الريف في التحوّل، وشهد العالم بداية نمو غير مسبوق في أعداد السكان بالحَضَر بعد تركهم لمنازلهم بالريف لملأ الفراغ العمالي الجديد الذي نشأ مع بناء المصانع، وترك الزراعة التي تصاعد منذ ذلك الوقت اتجاه ميكنتها والاعتماد على آلات أكثر تعقيدًا وأكفأ خفّضت بالتبعية من الأعداد الضرورية من البشر التي تحتاجها العملية الزراعية.
بالتزامن مع ذلك التمدد الحضري، ظهرت فكرة الدولة القومية كوليدة للفكر الجديد، ليتجاوز سلطان الملوك سلطان الكنيسة والبابا في أوروبا، ويبدأ كل ملك (أو نظام جمهوري فيما بعد) بالاهتمام ببناء القصر والبلاط الخاص به أكثر من ذي قبل، مع تصاعد بناء المكاتب الإدارية والحدائق العامة المنظّمة، وبدء انتشار نموذج شبكات الشوارع المتفرعة عن مركز كبير (مثل ميدان التحرير في القاهرة) لتسهيل الحركة والتجمّع، وبالطبع التحكّم في المجال العام.
ازداد الاتجاه نحو الحضر في العالم الغربي طوال القرن التاسع عشر، ثم وصل لبقية دول العالم منذ خمسينيات القرن الماضي بعد خروج الاستعمار وتركيز النخب القومية الجديدة على محاكاة النموذج الغربي العمراني، والذي استقطب العمالة من الريف، وبنى لها قطع سكنية متشابهة بشكل سريع ومنظم محكوم من أعلى، كما بدأ بناء الشوارع بشكل أوسع لتستطيع السيارات وغيرها أن تسير فيها.
لندن في القرن التاسع عشر
مع مطلع القرن العشرين، وخاصة في الولايات المتحدة، أصبحت المدينة بالأساس مركزًا تجاريًا وماليًا يجذب الجميع نتيجة تراكم رأس المال فيه، والذي تجلى في البنوك والفنادق والمصانع والمباني الإدارية ومحلات الملابس وغيرها، وبدأت بوادر تحوّل تدريجي في الغرب من المدينة الصناعية التقليدية التي يتحكّم في شبكاتها نخبة اقتصادية صغيرة وسياسية ممثلة في الدولة، إلى المدينة الرأسمالية المعاصرة التي نعرفها، والتي يتحكّم فيها السوق أكثر من الدولة، كما شهد مدن الغرب آنذاك طفرة في عالم البناء بظهور ناطحات السحاب، والتي غيّرت من شكل مراكز المدن القديمة التقليدية، وزادت من القدرة على تجمّع السكان.
مع الوقت، ونتيجة لازدحام المراكز القديمة وتزايد التلوث فيها، ظهرت حركة نزوح نحو ضواحي المدن، والتي أدت بالطبع إلى توسيع نطاق المدينة بين المركز المتركز في “وسط البلد” لكل مدينة، والذي ضم المنطقة المالية والمباني الإدارية والمصانع، والضواحي أو الأحياء السكنية، الأكثر هدوءًا وأقل تلوثًا، والتي تمتعت بالسكن فيها الطبقات الوسطى والغنية، في حين ظلت الطبقات العاملة مكدسة في أحياء أكثر فقرًا وازدحامًا بالقرب من قلب المدينة القديم.
نيويورك 1928
بهذا التحوّل من المدن الزراعية القديمة والرتيبة، إلى النموذج اليوناني الروماني القائم على التجارة والتخطيط البسيط، ثم صعود المدينة الوسيطة في عالم ازداد تشابكًا في العصور الوسطى واحتلت فيه التجارة موقعًا هامًا، وما تلى ذلك من تحولات كبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين وأدى إلى المدينة الصناعية، ثم المدينة المعاصرة المعتمدة على الخدمات بالأساس، أصبحت مدن اليوم ما هي عليه، ولتأوي أكثر من نصف سكان الأرض، وأكثر من 70٪ منهم بحلول عام 2050 طبقًا للتقديرات.
في هذا الملف الجديد، وبعد تلك المقدمة العامة، نلقي نظرة خاصة على مجموعة مختلفة من المدن، متعقبين تاريخها الخاص المختلف عن غيرها في سياقها الجغرافي والتاريخي والثقافي، ومحاولين أن نرى ما ستكون عليه في المستقبل.