بينما غرقت معظم ولايات تركيا في الظلام نتيجة قطع الكهرباء المفاجئ والواسع بالأمس، تسلل بضعة مسلّحون إلى قصر العدالة في تشاغليان بإسطنبول، وهو الأكبر في تركيا وأوروبا، متخفين في زي محامين، وأخذوا المدعي العام محمد سليم كيراز رهينة مقابل تنفيذ عدة مطالب، أبرزها إطلاق سراح كل من تم القبض عليهم في مظاهرات جَزي بارك وما تبعها، وإدانة رجال الشرطة المسؤولين عن قتل الطفل بركين علوان الذي راح ضحية اصطدام عبوة غاز مسيل برأسه في محكمة شعبية.
كان محمد كيراز هو المدعي المسؤول عن النظر في مقتل الطفل علوان على أيدي الشرطة منذ إيكال الملف إليه قبل ستة أشهر، وقد ظهر في صورة من داخل المبنى تحت تهديد السلاح من قِبَل شخص ملثّم، بينما وضع المسلحون على الحائط علم حزب وجبهة التحرر الشعبي الثوري DHKP/C، والتي تعتبرها تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منظمة إرهابية، بالإضافة إلى لوحة تطالب بتسليم قاتلي علوان، وقد نُشرَت الصورة لأول مرة على حساب تويتر الخاص بإحدى المقربات من المجموعة. (لاحقا تم اختراق الحساب من قبل مجموعة قومية تركية)
طبقًا لخطاب بثته قناة “خلق سَسي” القريبة من الحزب، أمهل المسلحون السلطات وقتًا حتى الساعة 3:36 مساءً لتلبية مطالبهم، وبدأت المفاوضات بالفعل عبر أحد الوسطاء الذين رشحتهم المجموعة، واستمرت لساعات لتبوء بالفشل، ولتبدأ قوات الشرطة في إخلاء المبنى تمهيدًا لاقتحامه في المساء، وهو ما قامت به بالفعل لتقتل اثنين من المسلحين، بينما تم نقل المدعي المصاب إلى المستشفى ليلفظ أنفاسه الأخيرة هناك.
“لقد استمرت المفاوضات لست ساعات، ولكن قواتنا قامت بشن العملية بعد أن سمعت أصوات إطلاق نار بينما تحدثت مع الإرهابيين على الهاتف أثناء التفاوض”، هكذا صرّح سلامي ألطنوك، رئيس شرطة إسطنبول بعد نهاية العملية بالأمس، في حين قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه يهنئ القوات على نجاح عمليتها، مشيرًا إلى إصابة محمد كيراز بخمس طلقات أثناء اقتحام المبنى ثلاثة منها في رأسه، معربًا عن أسفه من عدم القدرة على إنقاذه.
من ناحية أخرى، نشر حسين أيكون، نائب برلماني تابع لحزب الشعب الجمهوري المعارض، عبر حسابه على تويتر تصريحات سامي علوان، أبو الطفل بركين علوان، يقول فيها بأنه غير راضٍ عن الهجوم ويطالب بالإفراج عن المدعي العام، “لقد مات ابني، ولكنني لا أقبل بمقتل شخص آخر، أنا أطلب العدالة وفقط، كل ما أريده هو محاكمة عادلة”، هكذا صرّح سامي طبقًا لما نشره أيكون.
جبهة التحرر الشعبي الثوري
تُعَد جبهة التحرر الشعبي الثوري جبهة ماركسية لينينية كما تعرّف نفسها، وقد تأسست عام 1978 كفصيل يساري ثوري معروف بـ “دِف سول” Dev Sol على أيدي دورسون قره طاش الذي هرب من السجن عام 1989 ومات في هولندا عام 2006، وكانت تركيا في السبعينيات تمر بموجة عنف بين اليمين القومي المتطرف والفصائل اليسارية المعادية للغرب التي تبنت العنف، وكانت تطمح إلى خروج تركيا من حلف الناتو وبراثن الهيمنة الأمريكية كما رأتها.
منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبعد انقلاب 1980، تتلقى المجموعة تمويلها عبر تبرعات أعضائها وشبكات المتعاطفين معها، وهي تستهدف بالأساس مسؤولين بالجيش وقوات الأمن، كما استهدفت من قبل العاملين التابعين للمصالح الأجنبية في تركيا، فبالإضافة إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق نهاد أريم عام 1980، قامت باغتيال مسؤولَين عسكريَّين أمريكيين في أوائل التسعينيات اعتراضًا على حرب الخليج، وشاركت في إطلاق صواريخ على السفارة الأمريكية عام 1992، واستهدفت رجل أعمال مرموق عام 1996 في إطار اعتراضها على سياسات تركيا الرأسمالية آنذاك.
منذ مطلع القرن الجديد، بدأت المجموعة تتبنى عمليات التفجير الانتحاري، وقامت بعمليات محدودة استهدفت فيها الحافلات العامة ونقاط الشرطة والسفارة الأمريكية والوزارات ومقرات حزب العدالة والتنمية، وقد قامت بمحاولة فاشلة لاغتيال وزير العدل اليساري السابق حِكمَت تُرك عام 2009، كما تبنت محاولة لتفجير قنبلة أمام القصر الأبيض الجديد للرئاسة في أنقرة.
نشطت الجبهة مجددًا في أعقاب تظاهرات جَزي بارك، وكان آخر هجوم لها في يناير الماضي حين فجرت انتحارية نفسها قرب نقطة شرطة في مقاطعة السلطان أحمد لتقتل ضابط شرطة وتصيب آخر، وهو هجوم أتى كـ “عقاب على مقتل بركين علوان”، كما صرّحت الجبهة، وقد ظهر بعد تشريح جثة الانتحارية أنها مواطنة روسية من الشيشان وقد تكون على علاقة بالقاعدة أو داعش، وهو ما دفع الجبهة إلى سحب إعلان تبنيها للعملية فيما أثار الكثير من علامات الاستفهام.
اليسار التركي بين السلمية والعُنف
نشطاء اليسار التركي في احتجاجات على مقتل الطفل علوان
اليسار التركي واحد من أبرز الأسباب التي أدت لانقلاب الجيش التركي عام 1980، بعد أن وصلت أعداد القتلي في مواجهات اليمين واليسار إلى خمسة آلاف، وهددت استقرار تركيا آنذاك والتي كانت جزءًا محوريًا من إستراتيجية حلف الناتو في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وهو ما دفع الولايات المتحدة لدعم الانقلاب آنذاك، كما فعلت مجموعات دينية عدة رأت أنها ستستفيد من معاداة اليسار العلماني بطبعه.
تراجع تأثير اليسار بعد ضربة الانقلاب، والتي اقتلعت جذور السياسة والحراك الثوري في تركيا تمامًا، ليظهر رئيس الوزراء المحافظ توركوت أوزال في الثمانينيات، ويبدأ في قيادة تركيا نحو انفتاح اقتصادي وسياسي هادئ، وينجح في فتح الباب قليلًا للتيارات الإسلامية والمحافظة نظرًا لخلفيته الصوفية، وهو ما دشّن رويدًا صعود الإسلاميين الذي وصل لأوجه بدخول أربكان للسلطة في التسعينيات، ثم بصعود حركة كولن التي اعتمدت في نشاطاتها المالية والاجتماعية على سياسات أوزال، ثم أخيرًا بدخول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002.
طوال تلك الفترة توارى اليسار ولم يظهر إلى في مظاهرات بين الحين والآخر، وقد ظل بعيدًا عن خيارات السواد الأعظم من الأتراك نظرًا لتعاطفه مع القضية الكردية، بل وتحالفه أحيانًا مع حزب العمال الكردستاني بمواجهة الجيش التركي، وهي واحدة من الأسباب التي جعلت الساحة التركية محصورة في أغلبها بين الحزب العلماني والتيارات الإسلامية والمحافظة والأحزاب القومية، دون أن تتمتع تركيا بأي حكومية يسارية حقيقية على مدار تاريخها الحديث.
مؤخرًا، وبعد مظاهرات جَزي بارك، عاد نشاط تلك الأحزاب إلى الواجهة، وبدأت بجذب الكثير من الشباب العلماني لا سيما وقد تراجع تأييدهم لحزبهم التقليدي الذي يعاني من فقر سياسي شديد، وكذلك مع رواج الأفكار اليسارية والتفكيكية والأناركية بين الشباب العلماني خلال العقد الماضي، على العكس من العلمانية الكلاسيكية المعادية لليسار والمتحالفة مع الدولة خلال القرن العشرين.
هجوم الأمس هو الأكبر للحزب منذ فترة طويلة، وبالنظر لقُرب موعد الانتخابات البرلمانية وتزايد الاستقطاب في الساحة السياسية بين حزب العدالة والتنمية من ناحية، ومنافسيه الممثلين في حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية وحركة كولن من ناحية أخرى، لا شك أن الهجوم سيؤثر على آراء الشارع التركي، فالشرائح الموالية لليمين سيزداد ولاءها للنظام بشكل ما، وسيستفيد في هذا الصدد أعداء عملية السلام مع الأكراد مما جرى، لاسيما وأن جبهة التحرر الشعبي الثوري من المتعاطفين مع حزب العمال، في حين سيجد أعداء الحكومة وذوي الميول اليسارية فرصة لإعادة مسألة جَزي إلى الواجهة.