دللت المسألة الليبية على أن غياب فكرة الدولة مجتمعيًا من جهة وعدم تمكن ثوار 2011 من خلق شرعية ثورية بديلة بفعل التفكك والتدخل الخارجي من جهة ثانية كانا كفيلين بنسف أي إمكانية لتشكيل جبهة سياسية جامعة تمثل إطارًا لاجتماع سياسي شعبي وهو أحد العوامل التي جعلت من ليبيا لقمة سائغة وحول مشهدها الداخلي بتفاصيله الداخلية إلى انعكاس مباشر للصراعات الإقليمية والدولية، يُضاف إلى هذا كون أغلب الأطراف السياسية الليبية، لم تقدر مبدئيًا على طرح بدائل حقيقية تُساعد على صياغة ليبيا الجديدة؛ ما أفسح المجال أمام بعض الأطماع التي ساهمت في تعقيد المشهد المعقد بالفعل.
مجلس الأمن يرفض رفع حظر السلاح يومًا قبل القمة العربية
أصدر مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة السابق قرارًا بدعم الجهود التي تبذلها الحكومة الليبية المعترف بها دوليًا في مكافحة “داعش” المتطرف، لكن من دون أن يستجيب لمطلبها برفع حظر السلاح المفروض على ليبيا.
وكانت الحكومة الليبية، مدعومة من مصر، طلبت رفع الحظر لتمكينها من شراء أسلحة ومعدات عسكرية تتيح لها تجهيز جيشها لتمكينه من قتال المجموعات المتطرفة وفي مقدمها تنظيم “داعش” الذي أصبح له موطئ قدم في ليبيا، فهي لاتزال تخضع لحظر دولي على استيراد الأسلحة فرضه عليها مجلس الأمن، والعديد من أعضاء المجلس يخشون من أنه في حال رفع هذا الحظر فإن الأسلحة التي سيتم استيرادها قد تقع في أيدي جهات غير القوات الحكومية، كما أنها قد تعمق حدة الاحتراب الداخلي في ظل انقسام سياسي مرفوق بتمترس عسكري، وبالتالي حافظ مجلس الأمن على توجهه الدافع نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية في بلد تتنازع السيادة فيه حكومتان وبرلمانان، وهو ما أكده السفير البريطاني مارك لايل غرانت قائلاً: “عدم وجود حكومة قوية وموحدة في ليبيا يعزز أولئك الذين يريدون إغراق البلد في الفوضى”.
وقد اكتفى مجلس الأمن بإصدار توصية إلى لجنة العقوبات في الأمم المتحدة المسؤولة عن تطبيق الحظر على ليبيا يدعوها فيها إلى “النظر سريعًا” في الاسثناءات التي طلبت الحكومة الليبية من المجلس إقرارها لتمكينها من شراء بعض الأسلحة وهو ما اعتبره العالمون بكواليس المُنظمة الأممية تسويفًا لبقًا لمطلب التسليح.
رسالة واضحة لمؤتمري القاهرة، ولكن
تضمن قرار مجلس الأمن البارحة حول الوضع في ليبيا رسائل واضحة إلى العديد من الأطراف وأبرزهم المُشاركون في القمة العربية المنعقدة في مصر؛ فأما الرسالة الأولى فتتمثل فيما اعتبره بعض المحللين ردًا سلبيًا ضمنيًا على مطالب الوفد المصري الذي حضرَ الجلسة وعلى حلفائه الإقليميين بخصوص الحرب الأهلية في ليبيا من خلال تركيز المجلس على مسلسل الحل السياسي بين الأطراف المتصارعة، وأما الثانية فهي رفضه رفع الحظر عن استيراد الأسلحة، وهو ما يؤشر إلى غياب الحماس لدى الأطراف الغربية تجاه أي تدخل عسكري في ليبيا؛ فالمتابع لمختلف التصريحات والتحركات الدبلوماسية يلحظ بسهولة وجود شبه إجماع حول أن وضعية التفكك السياسي والاجتماعي والأمني التي تعرفها ليبيا منذ أربع سنوات لا يمكن احتوائها جزئيًا أو كليًا إلا في إطار حل سياسي يجمع بمستوى ما جميع الأطراف المتحاربة بما فيها تلك التي تنظر إليها الأطراف الغربية ـ وحلفاؤها ـ بكثير من التخوف.
استقبال مصر لهذه الرسالة كان بطريقة فيها الكثير من لي الأعناق والمعاني، حيث علقت وزارة الخارجية المصرية على مخرجات دورة مجلس الأمن بأن المجلس اعتمد بالإجماع القرار العربي حول مواجهة الاٍرهاب في ليبيا، الذي يطالب أعضاء الأمم المتحدة بأن تحارب بكل الوسائل، وبالتنسيق مع الحكومة الليبية، التهديدات الناتجة عن أعمال إرهابية في ليبيا.
وأوضح المتحدث الرسمي باسم الخارجية السفير بدر عبد العاطي، في بيان صدر لاحقًا، أن الجهود المصرية في نيويورك بالتنسيق مع ليبيا والأردن، باعتباره العضو العربي في مجلس الأمن، نجحت في أن يعتمد مجلس الأمن بالإجماع مشروع القرار العربي حول ليبيا، مشيرًا إلى أن “القرار يمنح الشرعية القانونية الدولية للتدابير التي اتخذتها مصر ضد تنظيم داعش في ليبيا”.
وأضاف عبد العاطي أن “القرار يتضمن عددًا من الأبعاد والمقررات الهامة فيما يتصل بجهود مكافحة الإرهاب في ليبيا، فلأول مرة يعتمد مجلس الأمن قرارًا مستقلاً بشأن مكافحة خطر الإرهاب في ليبيا باعتباره تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، وسلم وأمن دول المنطقة والجوار”.
وأشار إلى أن القرار يعد “أول قرار لمجلس الأمن يتناول تنظيم داعش بالاسم ككيان إرهابي يتواجد ويعمل في الأراضي الليبية، وبذلك يكون المجتمع الدولي قد أقر من الناحية القانونية بتواجد التنظيم في ليبيا مثلما هو الحال في كل من العراق وسوريا”.
تصريحات المسؤولين المصريين على قرارات مجلس الأمن الواضحة والصارمة تجاه أي مخطط للتدخل الأجنبي حاولت تغطية فشل تمرير مقترحها عبر الهيكل الأممي، ويبدو أن الفترة القادمة قد نشهد فيها تعسفًا على مخرجاته من خلال تعميم مفردات كالإرهاب وداعش وما لف لفها لتشمل كل من يناهض المشاريع الاستيطانية الإقليمية في ليبيا ولتبرر كل اجتياح شقيق ممكن.
هل تقدر مصر على إغضاب الجزائر والمنظمة الأممية؟
لم تكن دورة مجلس الأمن الأخيرة لترتقي في مخرجاتها لمستوى الشغف المصري بالتدخل في ليبيا نصرة لحلفائها في الداخل الليبي، وهو ما حول القمة العربية التي عقبت دورة مجلس الأمن إلى دورة للالتفاف على القرارات الأممية، فأمام التمكن الميداني لحكومة طرابلس وقوات فجر ليبيا وفك عزلتها دوليًا من خلال المشاركة في الحوار الأممي الذي تقوده الجزائر، وأمام انحسار هامش المناورة الميدانية والدبلوماسية على السواء لبرلمان طبرق وميليشيات حفتر، تراجعت حظوظ الحل العسكري ومنى فرض موازين قوى غير التي تُسجل اليوم على الأرض.
وبحسب بعض الأخبار التي تم تسريبها من داخل اجتماع القمة العربية، حاول عبد الفتاح السيسي، الالتفاف على الرفض العربي، خصوصًا دول الجوار الليبي، للتدخل العسكري في ليبيا خلال الفترة المقبلة، من خلال التنسيق مع حكومة طبرق في طرح هذا الأمر باعتباره مطلبًا شرعيًا داخليا، على غرار ما فعله الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي.
وأثار تشكيل قوة عربية مشتركة سجالات بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وتراوحت المواقف بين مؤيد ومعارض، إلى أن استقر الأمر على أن تكون اختيارية للدول العربية، ولا يمكن عزل رفض التدخل العسكري في ليبيا عن التراجع المصري عن تقديم مشروع أمام مجلس الأمن الدولي يطلب مثل هذا التدخل العسكري.
وترفض دول الجوار الليبي، الجزائر وتونس، التدخل العسكري في ليبيا، وتشدد على ضرورة دعم الحوار السياسي للوصول إلى حل بدلًا من التدخل العسكري، وتتفق معها دول عربية أخرى مثل السعودية وقطر، من جهته أكد رئيس الحكومة الليبية المؤقتة، عبد الله الثني، أن القادة العرب اتخذوا قرارًا جريئًا عندما أدركوا خطورة الواقع باليمن، وقاموا بتنفيذ عملية “عاصفة الحزم”، مشيرًا إلى أن ليبيا ستتقدم بطلب لجامعة الدول العربية للتدخل عربيًا في ليبيا لإعادة الشرعية.
وأضاف الثني، أن قرارات القمة العربية التي عُقدت في شرم الشيخ تصب في صالح الشعب الليبي، مشيرًا إلى أن اليمن يعاني من نفس مشاكل ليبيا؛ حيث تنتشر الجماعات المسلحة، ولا يمكن الموافقة على التدخل في اليمن لدعم الشرعية ولا يوافقون على قرارات بحسم الموقف في ليبيا”.
يُذكر أن المواقف من الوضع في ليبيا كانت واضحة في كلمات قادة الدول العربية؛ ففي حين دفع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، نحو تأييد الحلول السلمية والحوار لحل الأزمة الليبية، بدا السيسي داعمًا بقوة الخيار العسكري هناك.
وقال الملك سلمان: “ما زلنا نتابع بقلق بالغ تطور الأحداث في ليبيا، مع أملنا في أن يتحقق الأمن والاستقرار في هذا البلد العزيز”، فيما أكد أمير قطر: “موقفنا ثابت إزاء تطورات الأوضاع في ليبيا الشقيقة، وسيبقى داعمًا للحوار الوطني بين جميع الأطراف انطلاقًا من رؤيتنا في أنه لا حل عسكري في ليبيا، والمخرج الوحيد من تداعيات الأزمة هو حل سياسي يحترم إرادة الشعب الليبي، ويلبي طموحاته المشروعة في الأمن والاستقرار، ويهيئ الظروف لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها بمشاركة جميع القوى السياسية والاجتماعية الليبية، ودون إقصاء أو تهميش بعيدًا عن التدخلات الخارجية”، وجدد دعم قطر للجهود التي تبذلها الأمم المتحدة ودول الجوار الليبي، والهادفة إلى تفعيل الحوار الوطني بين جميع مكونات الشعب الليبي الشقيق للوصول إلى حل سياسي يحقق تطلعات وآمال الشعب الليبي.
لا يُمكن أن نتناول تصريحات الثني والسعي المحموم الذي بذله السيسي من أجل فرض إنشاء القوة العسكرية المشتركة بمعزل عن حرص مصر أساسًا وخلفها الإمارات من أجل إعادة تعريف قواعد اللعبة في ليبيا بشكل يضمن تحكمها فيه مُستقبلاً، وأمام تواصل نداء أحد المشاركين في الحوار الذي يقوده ليون من أجل تدخل عسكري أجنبي (برلمان طبرق)، يبدو أن الحوار نفسه بات يحتاج أن يُفرض على الجميع وبالقوة.
أن يضرب السيسي بالمخرجات الأممية عرض الحائط وأن يقوض جهود إنجاح الحل السياسي في ليبيا يجعله في مواجهة مباشرة مع جارة ليبيا الأخرى وهي الجزائر .. فهل يقوى على غضبتها؟