في مكان ما ببلدة فرنسية صغيرة على ضفاف بحيرة جنيف، تقدم رئيس الوفد الفرنسي مصافحًا نظيره الجزائري قبل أن ينحنيا على توقيع الأوراق، تبادلا ابتسامات صفراء وعاد كل مع فريقه إلى موطنه من تلك البلدة “ايفيان”، ولم يكن الجانب الجزائري سوى كريم بلقاسم، كان عريفًا في الجيش الفرنسي قبل أن يصير عقيدًا في جيش التحرير الوطني ذلك الحين، ومثّل الجانب الفرنسي فى المحادثاث، لويس جوكس، وهو وزير الدولة المكلف بالشؤون الجزائرية آنذاك، حدث ذلك قبل 53 سنة حين كان الشعب الجزائري على موعد مع الحرية التي لعب البترول دورًا أساسيًا في تأخيرها، وقلة قليلة من الناس من أدركت أن اكتشاف البترول في الجزائر – منذ ما يناهز ستة عقود من الزمن – لن يكون فاتحة عهد للرخاء والنماء بعد أن كان عاملاً أساسيًا في تمديد الحرب؟
قبيل الاستقلال وبعده
إذا عدنا سنوات قليلة إلى الوراء من توقيع اتفاقيات إيفيان عام 1962، سنعلم أن أولى براميل النفط الجزائري وصلت إلى فرنسا بعد اكتشاف البترول في العجيلة وحاسي مسعود جنوب الصحراء عام 1956، وبدأت الحكومة الفرنسية في تشجيع استثمار رؤوس الأموال، فتبين بعد ذلك أنه من المحتم إصدار تشريع خاص بشأن الثروات الصحراوية، يأخذ بعين الاعتبار جميع الاعتبارات الماثلة في ذهن المسؤولين الفرنسيين.
هذا التشريع الجديد الذي يُعرف باسم “قانون البترول الصحراوي” تأسس بعد سنتين من الاكتشاف وتمت المصادقة عليه فى نفس العام بعد وصول الجنرال ديغول إلى الحكم، أدى إلى تكريس المسعى الاستعماري الذي تبلور بشكل جلي في اتفاقيات إيفان التي نصت على حصة فرنسا من النفط الجزائري بعد الاستقلال.
وأعقب الاستقلال توقف التوتر الذي ساد بين البلدين، لكن بمجرد استيلاء العقيد الهواري بومدين على الحكم بعد انقلاب على الرئيس أحمد بن بله يوم 19 يونيو 1956، انطلقت بوادر التوتر ودار الخلاف حول كيفية استغلال وتسويق البترول في إطار تعاون فرنسي جزائري، فرضه عامل افتقار الجزائر إلى ثقافة التسيير والاستغلال المطلوبين لثروة مصيرية ومحورية.
وفي شهر ديسمبر 1963 أُنشئت الشركة الوطنية لتسويق المحروقات “سوناطراك” وكان هدفها الأول هو نقل وتسويق المحروقات، وتوسعت الشركة خلال ثلاث سنوات لتشمل مجالات صناعية بترولية وغازية، غير أن السياسة التي طبقتها سوناطراك خلال العقود العشر الأولى من هذا القرن، تسببت في تدمير أكبر حقلين للنفط والغاز في البلاد، وهما حاسي مسعود وحاسي الرمل، وتسارعت وتيرة التنقيب عن آبار جديدة للبترول في شمال البلاد خلال السنوات الأخيرة الحالية بشراكة مع متدخلين أجانب، كما ذهب الإعلام الجزائري إلى طمأنة الجزائرين ودعاهم إلى عدم الخوف من نفاد احتياطي البترول، وأكد خبراء مؤخرًا بأن احتياطي البلاد من البترول يكفي لمدة 54 عامًا تقريبًا؛ لهذا لا تحتاج الجزائر أن تصرف جزءًا كبيرًا من ميزانيتها على عملية التنقيب والبحث عن آبار جديدة خوفًا من استنزاف جميع ثروات الذهب الأسود الموجودة في الصحراء ومنه التفكير في مستقبل الأجيال القادمة.
لم توظف السلطة ثروة البلد لصالح الشعب بل حولتها إلى ملكية خاصة؛ فقد أعلن الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين في وقت سابق من سنة 1971 استيلاء الجزائر على15% من أسهم شركات النفط الفرنسية والتأميم الكامل لشركات الغاز ومشتقاته، وبإعلان الجزائر قرار التأميم تكون قد ذهبت بعيدًا في سياستها الاقتصادية، واسترجعت قسمًا من ثروتها الوطنية التي طالما استأثر بها الفرنسيون وفرضت سيطرتها على ثرواتها الباطنية، لكن هل ذهبت الجزائر فيما بعد إلى استئناف مشوارها التنموي، مسخرة ما لديها من ثروات باطنية – على رأسها البترول والغاز الطبيعي – من أجل خدمة هذا الهدف الضروري؟
الثلت تحت خط الفقر
أما والآن فقد شارف عمر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الثمانين، في بلد تقل أعمار 70 في المئة من سكانه عن الثلاثين عامًا جلهم متعلمون، فقد بلغت نسبة الأمية خلال العام الماضي 14% مقابل 22% عام 2008، لكن حوالي الثلث من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأعلن الديوان الوطني للإحصاء، وهو مؤسسة جزائرية عمومية، مطلع السنة الحالية أن نسبة البطالة في الجزائر عادت إلى الارتفاع لتبلغ 10.6%، لاسيّما لدى الشباب وخريجي الجامعات؛ إذ تم تسجيل 1.2 مليون عاطل عن العمل، 25% منهم شباب وأكثر من 16% من خريجي الجامعات في شهر سبتمبر الماضي، وحسب التقرير السنوي لمنظمة العمل الدولية، فإن البطالة لم تتراجع خلال 18عامًا سوى 1% ويعزو ذلك لفشل الإصلاحات الاقتصادية وعجزها عن خلق فرص عمل.
ورغم أن الجزائر سادس مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وثاني منتج للنفط بأفريقيا بعد نيجريا، حيث حققت عائدات نفطية بقيمة 60 مليار دولار خلال العام الماضي بحسب ما أعلن عنه وزير الطاقة الجزائري يوسف يوسفي، إلا أن عدد الفقراء في تزايد فبعد أن كان يعيش في الجزائر حوالي مليون ونصف أسرة فقيرة سنة 2013 فإن عددهم ارتفع بحوالي النصف مليون فى ظرف سنة واحدة فقط.
الأكثر إنفاقًا على الجيش
وعادة ما كنت السلطة – في بلد مثل الجزائر – محل نزاع بين أطراف مختلفة لها جذور في السياسة الجزائرية، وهي الجيش ثم طبقة رجال الأعمال الذين كونوا ثرواتهم من أرباح البترول، كما أن الأوضاع السياسية في الجزائر غير واضحة ولا توجد قناة اتصال بين النخبة الحاكمة والشعب مما يدفع الكثيرين لتنظيم مظاهرات تنادي بمطالبهم، ومع زيادة فساد الطبقة السياسية واتساع الفجوة بينهما وبين الشعب يخرج العديد من الجزائريين في احتجاجات ومظاهرات محلية تنادي بالمزيد من المطالب، وبات التضليل ونظريات المؤامرة هو معيار الممارسة السياسية الرسمية.
في عام 2011 بعد أن أطاحت ثورات الربيع العربي بقادة تونس وليبيا زاد الدعم الحكومي ورواتب القطاع العام بشكل كبير وزادت ميزانية القوات المسلحة بنسبة 176% لتزيد عن عشرة مليارات دولار منذ 2004 مما يجعل الجزائر الدولة الأكثر إنفاقًا على الجيش في أفريقيا؛ حيث أنفقت ضمن ميزانية 2013 نحو 10,9 مليار دولار.
البترول عائق تنموي
بسبب استمرار تدهور أسعار النفط في السوق العالمية، يتخوف معظم الجزائريين من المخاطر الاقتصادية التي سيواجهها البلد، الذي يعتمد اقتصاده بنسبة 97% على عائدات تصدير الذهب الأسود، ورغم تطمينات الحكومة بأن احتياطاتها من العملة الصعبة يكفي لتغطية ثلاث سنوات من قيمة الواردات، إلا أنها في الوقت ذاته اتخذت جملة من الإجراءات التقشفية في النفقات العمومية، تمس بصورة مباشرة المواطنين محدودي الدخل والخدمات التي يستفيدون منها.
أعلنت الحكومة على لسان رئيسها عبد المالك سلال عن تجميد التوظيف في القطاع العمومي في 2015، وتجميد بعض المشاريع الكبرى، كما ألمح إلى تجميد زيادة الأجور، وطالما وثق الشباب الجزائري في وعود الحكومة؛ فهي خيارهم الوحيد في حل مشاكلهم المرتبطة بالبطالة والسكن على وجه خاص وشروط العيش الكريم عمومًا، لكن الأزمة لا تعصف سوى بالفقراء، ولهذا ليس من المستغرب أن يصفها الرئيس بوتفليقة، بدم بارد، على أنها قاسية ولا يمكن التكهن بانعكاساتها على الأمد القريب.
وأنجزت ميزانية الدولة على أساس 109 مليار دولار من النفقات و57.8 مليار دولار من العائدات أي بعجز قيمته 52 مليار دولار يتم تمويله من خلال ضبط الارادات الذي يضم حاليًا 60 مليار دولار، وبحسب صندوق النقد الدولي فإن الجزائر تحتاج إلى زيادة سعر البرميل إلى أكثر من 120 دولار لتجنب الصعوبات الاقتصادية رغم أن لديها احتياطي بقيمة 200 مليار دولار وتمويل احتياطي بترول بقيمة أكثر من 50 مليار دولار.
وعادة ما شكّلت الأزمات النفطية المتعاقبة تحديًا أمام الجزائر؛ فقد وجدت صعوبة في مواجهة وامتصاص الصدمات الاقتصادية المترتبة عن انهيار أسعار البترول، ولهذا تعد من البلدان الأكثر عرضة للمخاطر السياسية حسب مؤشر المخاطر السنوى 2015، كونها مصنفة ضمن كبرى الدول في منطقة أفريقيا والشرق الأوسط المنتجة للبترول وأيضًا نتيجة تصاعد موجة الجماعات المتطرفة.
شكّلت الأطماع المتكالبة على ثروات البلد النفطية عائقًا أمام مسيرته التنموية، بعد أن أحكمت قبضتها عليها على مر السنوات الماضية، ولا يذهب إلا قدر زهيد، أقل من 1%، من عائداته إلى تمويل البحث العلمي، ورغم ذلك فالجزائر لازالت تنجب نخبًا من الشباب المثقفين ورجال العلم .. أليسوا هم الثروة الحقيقية والدائمة لهذا البلد التي يجب التعويل عليها؟