ترجمة وتحرير نون بوست
تبدأ القصة كالعادة بحلم، حلم الشباب والحرية والفرح الجماعي، وتنتهي – كما بالغالب – بكابوس مرعب، كابوس لايزال مستمرًا، وسيستمر ليطغي على الحلم الجميل؛ كابوس غامض وبعيد، سينمائي للغاية، وتُختصر أحداثه المتتالية بمشاهد وصور متلاحقة، صور لعمليات إعدام جماعية، وسجناء بملابس برتقالية اللون، لقطات لرؤوس مقطوعة، ومقالة في صحيفة عن نهب المدرعات الأمريكية، مشهد عن أناس بلحى وأقنعة سوداء، ولافتات سوداء، تستحضر في أذهاننا أعلام القراصنة من طفولتنا.
صور أخرى مرعبة تختبئ عميقًا في خلد الذاكرة، وتجاهد كيلا تنطمس كليًا منها، آلاف من الأجساد العارية التي تعرضت للتعذيب وتم تسجيل أرقامها بدقة من قِبل حكومة فاحشة، برميل من المتفجرات يُقذف عشوائيًا على أحياء متخمة بالنساء والأطفال، وغازات سامة تفوح من عبق الأجساد المتقطعة لترسل المئات نحو قدرهم المحتوم من التشنجات المترافقة مع انهمار الزبد والرغوة من الأفواه، أعلام، مسيرات، ملصقات، وطبيب عيون طويل يبتسم بسخرية في حملة إعادة انتخابه المظفرة.
إذن، وسط أشلاء الصور تحتفظ ذاكرتنا بصورتين تختزلان واقعًا أشد تعقيدًا، تتمثلان بصورة لهمج قادمون من القرون الوسطى على الطرف الأول، وصورة لديكتاتور عديم الرحمة على الجهة الأخرى.
ولكن كل هذا لم يحدث بالصدفة، والأهم من ذلك، أنه لم يكن من المتوجب أن يحدث أصلًا، لقد كان هناك مسارات أخرى، واحتمالات أخرى، ومستقبلات أخرى، والتعويذة السحرية التي يكررها القادة بلا كلل أو ملل “لم يكن باستطاعتنا فعل شيء آخر”، هي ببساطة كذب ونفاق، فلولا لا مبالاتنا وجبننا وقصر نظرنا، لاختلفت الأمور عمّا هي عليه الآن.
عندما وصلنا أنا والمصور ماني إلى حمص في منتصف يناير من عام 2012، كانت الثورة السورية تدرك نهاية عامها الأول، وفي قلب المدينة والبلدات المحيطة بها، كان الناس لايزالون يتجمعون يوميًا ليتظاهروا بغية إسقاط النظام، مؤكدين بصوتهم الذي يصدح عاليًا إيمانهم بالديمقراطية، وإيمانهم بالعدالة، وسعيهم نحو مجتمع منفتح ومتسامح ومتعدد الطوائف، كانوا يلتمسون مساعدة الغرب، وتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بإقامة منطقة حظر جوي لوقف القصف الجوي من قِبل النظام السوري، والجيش السوري الحر الذي تشكّل في معظمه من المنشقين عن الجيش والمخابرات الذين اشمئزوا من قمع النظام وآثروا الوقوف مع قضية الشعب المكلوم، كانت مهمته الأساسية ماتزال مقتصرة على الدفاع، وحماية الأحياء المعارضة والمظاهرات من قناصة النظام والشبيحة الذين كانوا في حمص من الطائفة العلوية.
المواطنون الصحفيون السوريون، كالذين ساعدونا ووجهونا وحمونا أثناء إقامتنا في حمص، لايزالون مؤمنين بأن مقاطع الفيديو التي تظهر وحشية النظام والتي خاطروا بحياتهم كل يوم لتصويرها وتحميلها على موقع اليوتيوب ونشروها بشكل مستمر، من شأنها أن تغير مجرى الأحداث، فقد تشكّل صدمة للضمير الغربي، وتعجّل باتخاذ إجراءات صارمة بمواجهة النظام الظالم، الشعب كان يخال أن الغناء والرقص والشعارات والصلاة هي أقوى من الخوف والرصاص، ولكن بالطبع ثبت أنهم مخطئون، وقريبًا سوف تغرق أوهامهم في نهر لا متناه من دماء الشعب المضطهد.
صدمة أمريكا بالحربين الكارثيتين اللتين انخطرت فيهما دون فائدة تذكر، ذهلتها عن تذكر أسطورة تأسيسها – ثورة الناس مع بنادق الصيد الخفيفة ضد الطغيان، لا تنجح إلا بتفاني الروح وسعيها نحو المثالية – ووقفت متحجرة ومتخذة مقعدها في صف المتفرجين الخلفي، أوروبا التي أنهكتها الأزمة الاقتصادية والشك الذاتي، حذت حذوها، في حين أن أصدقاء النظام كروسيا وإيران، احتلوا كل شبر من الفضاء السياسي الذي خلا بعد تراجع القوتين السابقتين، وتم حينها كتابة الجغرافيا السياسية لسوريا بدماء الشعب الطاهرة.
في اليوم التالي لمغادرتي حمص، في 3 فبراير، استهدفت سلسلة من قذائف الهاون حي الخالدية في حمص، حيث قضيت الكثير من الوقت، وأسفرت عن مقتل أكثر من 140 مدني، هذه الحادثة التي وثّقها المخرج السوري اللامع طلال ديركي في الفيلم الوثائقي “العودة إلى حمص”، وعلّق عليها قائلًا “هذا القتل الجماعي أحدث منعطفًا مهمًا في الثورة، كونه أنهى حلم ثورة الأغاني والاحتجاجات السلمية”.
استطعنا أنا وماني توثيق أول مذبحة طائفية متعمدة حصلت ضمن الصراع السوري، حيث تم استخدام البنادق والسكاكين فيها لقتل وذبح عائلة سنية بأكملها في حي النازحين بحمص بعد ظهر يوم 26 يناير 2012، وأتبع هذه الحادثة حوادث كثيرة أخرى مشابهة، ابتدأت بقتل عائلات أخرى، وتحولت بعدها لقتل مجتمعات سنية بكاملها في حزام القرى المحيطة بغربي حمص، وحتى ذلك الوقت – كما توضح لنا من خلال حواراتنا مع الشعب وكما كان جليًا من المظاهرات التي خرجت في المدينة – كان الثوار يحاولون كل ما في وسعهم لمنع انزلاق الأمور نحو حرب طائفية، واستجابة الجيش السوري الحر على هذه المجزرة لم تتمثل بالانتقال لذبح العائلات العلوية، بل لمهاجمة حواجز الجيش معقل قتلة العائلات السنية.
لقد كان من الواضح أن الإستراتيجية الرئيسية التي ينتهجها النظام السوري تنشد إثارة الصراعات العرقية والطائفية، وهذه الإستراتيجية تبدو منطقية في ظل الفكر المنحرف والشاذ للنظام، حيث شعر الأخير أنه لم يعد بإمكانه الوثوق بأهل السنة، وراهن على بقائه من خلال التعبئة الجماهيرية للعديد من الأقليات الصغيرة في البلاد، العلويون والإسماعيليون والمسيحيون، وكذلك الدروز والأكراد إن أمكن، وبعد أن أُجبر النظام على تطهير معظم قواته السنية التي لا يمكنه الاعتماد عليها، لدرجة قام معها بنزع سلاح كتائب بأكملها، أصبح الجيش بحاجة ماسة لمجندين جدد.
وفي هذه الفترة سعت المعارضة إلى مقاومة هذه الاستفزازات الدنيئة قدر المستطاع، ولكن بدون جدوى؛ ففي منتصف عام 2012، قامت عناصر غير منضبطة من الجيش السوري الحر بارتكاب مجازر طائفية في القرى العلوية، وحينها وجدت معظم الأقليات نفسها – طوعًا أو قسرًا – رهينة لمصالح النظام؛ فالأكراد دعموا النظام ضمنيًا مقابل إعطائهم شبه حكم ذاتي في مناطقهم، أما أبناء الطائفة العلوية فقد أصبح بقاء النظام – للمتردد منهم أو للواثق – شرطًا وجوديًا بالنسبة لهم؛ مما جعلهم يرنون باقي أطياف المجتمع بعين التوجس، وتحولوا في نظرهم إلى خونة ومندسين.
لكن تحويل الانتفاضة الشعبية، التي قامت بها طبقات البروليتاريا والفلاحين إلى حرب أهلية طائفية، لم تكن الورقة الوحيدة التي استعملها النظام بدناءة منقطعة النظير، فمنذ بداية الأحداث، عملت الآلة الإعلامية في دمشق على تصوير الثوار على أنهم إرهابيون وإسلاميون متعصبون، ولكن ما كان ينقص هذه القصة لتصبح حقيقية هي وجود هؤلاء الأشخاص فعلًا على أرض الواقع؛ لذا جهد النظام ليفعل كل ما في وسعه لاستقطاب المتعصبين والمتشددين نحو هذه اللعبة، فعندما أحرزت الانتفاضة زخمها في ربيع عام 2011، سرعان ما دأبت المخابرات السورية على إطلاق سراح عشرات الكوادر الجهادية من المعتقلين في سجونها، وهناك الكثير من الأدلة والقصص التي تؤكد ضلوع هذه الكوادر طوال عام 2012، على احتضان المجموعات المسلحة الإسلامية المتشددة التي دخلت فيما بعد في صراع مع عناصر الجيش السوري الحر الأكثر علمانية.
عندما بدأت داعش لأول مرة باحتلال الأراضي في سوريا، في يناير 2013، لم يقاتلوا نظام دمشق، إنما سعوا فقط إلى توسيع نطاق سيطرتهم ضمن الأراضي التي حررتها فصائل الجيش الحر، وفقًا لما ذكره مقاتل من الجيش الحر في سبتمبر 2014 لصحافي من صحيفة لوموند الفرنسية، وتابع موضحًا “قبل وصولهم، كان يتم قصفنا كل يوم من قِبل سلاح الجو السوري، وبعد أن سيطروا على المنطقة، توقف القصف على الفور”.
بناء على ما تقدم، فلا عجب أنه على الرغم من الحكم الإرهابي اللاإسلامي الذي تقيمه داعش في مناطقها، بيد أن الكثير من المدنيين الذين يعيشون تحت لواء داعش، في مدن مثل الرقة، يشعرون الآن بأنهم أكثر أمانًا من باقي أجزاء سوريا الواقعة تحت حكم فصائل معارضة أخرى، والجدير بالذكر أن الجيش السوري الحر قام في ديسمبر من عام 2013 بالتحالف مع الجماعات المتمردة الإسلامية الأخرى مثل جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، وذلك بغية الشروع – متأخرين – بالحملة المضادة لداعش، مما أذكى نار حرب جديدة عنيفة ضمن الحرب الأكبر مع النظام، حيث واظبت مدفعية النظام وقواته الجوية على قصف القوى المناهضة لداعش فقط، مبقية بذلك – مرة أخرى – على حياة عناصر الدولة الإسلامية، هذه الحقائق وخلافها دفعت وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس في النهاية للتنديد علنًا في صيف عام 2014 بالتواطؤ الضمني ما بين دمشق وداعش.
اللعبة كانت تتضمن جعل المتطرفين يحاربون ضد المعتدلين، والفكرة الأساسية خلف هذه اللعبة تنص على سهولة القضاء على الجماعات الراديكالية العنيفة معدومة القاعدة الاجتماعية والجماهيرية، بمجرد قضاء الأخيرة على الجماعات المعتدلة التي ضربت جذورها في صميم الضمير الأهلي والمجتمعي، هذه الإستراتيجية لها مخاوفها ومحاذيرها، ففي حال ممارستها بطريقة خاطئة – وهو الذي يحصل بالعادة -، سينقلب السحر على الساحر، تمامًا كما حصل عندما قامت إسرائيل بتعزيز صعود حماس على أمل إسقاط منظمة التحرير الفلسطينية التي يقودها ياسر عرفات، وكما حصل أيضًا عندما قامت الولايات المتحدة بدعم وتسليح الجهاديين المتطرفين بمواجهة السوفييت في أفغانستان، ساحقة بذلك فصائل المجاهدين المعتدلين ومطلقة العنان لبزوغ أمام قوات مانزال غير قادرين على احتوائها حتى يومنا هذا، ولكن في حالات أخرى، يمكن أن تحقق هذه الإستراتيجية قدرًا من النجاح، على الأقل ضمن المدى القصير.
يمكننا أخذ الشيشان كأحد النقاط المرجعية لنجاح هذه الإستراتيجية، فبعد الهزيمة الروسية المهينة في الشيشان في شهر أغسطس عام 1996، على يد بضعة آلاف من المتمردين المسلحين ببنادق الكلاشنيكوف وقذائف الآر بي جي فقط، شرع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) – الذي خلف الكي جي بي (KGB) – والمخابرات العسكرية الروسية على الفور بإعداد أسس الصراع المقبل، وخلال السنوات الثلاث التي أصبحت فيها الشيشان دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع، أدت طريقة حكم الدولة إلى تحوّل الأمور في الشيشان بسرعة ملفتة إلى الشكل الكارثي: عمليات خطف ممنهجة للصحفيين وعمال الإغاثة الأجانب، قطع رؤوس لأربعة مهندسي اتصالات بريطانيين ومهندس نيوزيلندي في ديسمبر 1998 من قِبل القائد الإسلامي المعروف أربي باراييف؛ أدت هذه الأوضاع إلى تقويض حسن النية الشيشانية تجاه دول الخارج؛ مما ولّد حصارًا على وسائل الإعلام نظرًا لامتناع الصحفيين عن السفر إلى هناك خوفًا على حياتهم، ومع ارتفاع الضغط السياسي وحتى العسكري من قِبل جماعات المتمردين الإسلاميين على الرئيس القومي المنتخب أصلان مسخادوف، مال الأخير مجبرًا لاتباع الطرق الإسلامية المتشددة ضمن حكمه، ونتج عن هذا في نهاية المطاف إعلان الشريعة الإسلامية كمصدر للحكم في البلاد، وساعدت مقاطع الفيديو المتزايدة التي يصورها الإسلاميون هناك عن قطع رؤوس الأسرى الروسيين وغيرها من الأعمال الوحشية، على تبرير التجاوزات الرهيبة ضمن عملية مكافحة الإرهاب الروسية.
ما تبع هذه الأحداث معروف جيدًا لدى العامة، التدمير الكامل للعاصمة غروزني، والقتل الجماعي، وحالات الاختفاء، وموجات اللاجئين، وعلى خلفية هذه الأحداث اختفت اللعبة الأساسية التي حاول القليل من الصحفيين الروس الشجعان توثيقها بكثافة، والتي تتمثل بلعبة الرقص الثنائي والمتناغم ما بين الأمن الروسي والإسلاميين الشيشان على مر السنين، وفعلًا لم تلبث هذه الإستراتيجية الخبيثة حتى أتت أكلها؛ فبعد مقتل مسخادوف خلال عملية روسية في عام 2005، خلفه دوكو عمروف الذي تخلى عن الحلم الشيشاني بالاستقلال الوطني لصالح إنشاء خلافة إسلامية في عموم القوقاز، وأدت هذه الخطوة إلى دفع جميع القادة القوميين الشيشانيين المتبقين إلى أحضان رمضان قديروف، وهو دمية بوتين في الشيشان، واستطاعت روسيا بدهاء وقذارة وضع حد للحلم الشيشاني الطويل بالاستقلال.
من المغري والمنطقي، بالنظر إلى هذه الحوادث التاريخية، أن نربط بين المستشارين الروس لبشار الأسد وبين السماح للفصائل الإسلامية الراديكالية العنيفة بتشويه سمعة الثورة الشعبية، كون القتل والتعذيب والتنكيل وموجة اختطافات وقتل المراقبين الأجانب التي رافقت صعود الإسلاميين في سوريا، تذكرنا بشدة بالنموذج الشيشاني، ولكن كما أشار صديقي السوري، المخابرات السورية محنكين في هذه الألعاب القذرة، وهم على الأغلب ليسوا بحاجة إلى دروس من أسيادهم الروس، والفلسفة الإستراتيجية لعناصر المخابرات السورية تظهر بشكل واضح من الكتابات الشائعة جدًا في جميع أنحاء دمشق والتي تقول “الأسد أو نحرق البلد”.
منذ قيام داعش بقتل الصحافي جيمس فولي، أصبح شاغل الحكومات الغربية الساحق هو محاربة داعش والخوف من تمدده، وهذا الهاجس طمس جميع القضايا المحقة الأخرى ضمن المنطقة، وفي خضم الوضع الحالي، يمكن للأسد وأصدقائه في روسيا أن يحتفلوا ويفخروا بالوصول إلى هدفهم، الذي يتمثل – على أقل تقدير – بعودة الأسد كلاعب أساسي ضمن اللعبة الإقليمية، حيث أصبح الذعر الذي وصل إلى حد الهوس من ردود الفعل الجهادية تجاه المصالح الغربية، هو الذي يقود عملية اتخاذ القرار الأوروبية والأمريكية، ومن هنا تكون التصريحات الغربية الداعية للتعامل مع الأسد للوصول إلى حل للأزمة السورية، مجرد خطوة أولى لتنازلات أخرى سيتم تقديمها لصالح النظام السوري، ومهما أنكر قادتنا ذلك، بيد أن هذه السياسة – للأسف – لن تخدم مصالح الشعب السوري.
قد يكون من المفيد أن نستذكر هنا أعداد السوريين الذين قضوا نتيجة للصراع، فوفقًا للإحصائيات الأخيرة التي نشرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي تعتبر أحد المراقبين الأكثر موثوقية واستقلالية على الأرض، أنه اعتبارًا من مارس عام 2015 قتل النظام 176.678 مدني سوري من ضمنهم 18.242 طفلًا، وبالمقابل قتل داعش 1540 مدنيًا من ضمنهم 145 طفلًا، وفي خضم هذه الأرقام المتزايدة لعدونا الجديد (داعش) يجب ألا ننس بؤرة الكوارث وأساسها؛ فالسوريون لم ينسوا بالتأكيد، وكما تقول الصحافية الفرنسية صوفيا عمارة في كتابها الأخير، السوريون يرددون شعارًا جديدًا بنكهة من الكوميديا السوداء الأزلية، حيث يظهر ناشطون في مقطع فيديو يسيرون ضمن الشوارع المدمرة ويرددون “ما تبقى من الشعب السوري يريد إسقاط النظام”.
لا شيء يدلل على انحدار الثورة السورية إلى الجحيم، أكثر من مصائر أصدقائنا الناشطين الحمصيين، فحلم الثورة السورية راود مخيلة الكثيرين، ولكن ماذا حدث لهم عندما استحال الحلم كابوسًا؟
أنا أتلقى أخبار أصدقائي الناشطين فقط من عروة نيربية، المخرج والمنتج السوري الذي يعيش حاليًا في المنفى ببرلين، والذي التقيت به لأول مرة في حي البياضة بحمص في منزل الشيخ الصوفي أبو إبراهيم، وهو يحظى باحترام كبير كناشط محلي، وعروة، على خلافي، لم يخسر اتصاله مع النشطاء الحمصيين، وكثير منهم مازالوا من أصدقائه الحميمين.
بطبيعة الحال الكثير من أصدقائنا الناشطين لقوا حتفهم، أبو حنين الناشط الإعلامي من بابا عمرو الذين سبب لي ولماني الكثير من المشاكل، قُتل مع صديقه ومنافسه أبو شام في إحدى معارك الخالدية في عام 2013، بلال الناشط الطبي الذي كان في استقبالنا في حي الخالدية مع صديقه زين، قُتل في يونيو 2013 أثناء محاولته تهريب إمدادات طبية إلى حمص المحاصرة، الشيخ أبو إبراهيم، وبعد أن نجا من حصار حمص الرهيب، توفي إثر حادث اصطدام سيارة عادي في يونيو من عام 2014 في مكان ما شمال المدينة.
البعض الآخر كان مصيره أفضل من السابقين، علي عثمان مثلًا، والمعروف باسم جدي، تم اعتقاله على يد المخابرات السورية، جنبًا إلى جنب مع أسامة الحبالي (المعروف باسم أسامة الحمصي)، والذي قام بتصوير أجزاء من فيلم العودة إلى حمص مع عروة، وعلى الرغم من أن علي وأسامة لم يمسكا بسلاح أشد خطورة من الكاميرا، إلا أنهما استفادا – على ما يبدو – من العفو الذي أعلنه بشار الأسد في يونيو 2014 إثر إعادة انتخابه على جميع السجناء “الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء”، أبو عدنان (اسمه الحقيقي قحطان حسون) الناشط من حي الخالدية، والذي أخذنا بجولات حول الأحياء المحاصرة في وسط المدينة، يكافح حاليًا في المنفى المر في تركيا، عمر تلاوي الناشط من حي باب سباع والمشهور بمقاطع الفيديو الحماسية التي يصورها لموقع يوتيوب أو للجزيرة، أُصيب في أكتوبر 2013، وابتعد عن الأنظار خلال الأشهر القليلة الماضية.
أما البعض المتبقي، فقد طغى عليهم كابوس الثورة، والتهم أحلامهم وأنساهم إياها، وأصبحوا الآن يغذون الكابوس بأفعالهم، فمثلًا أبو بكر الناشط ذو اللحية الحمراء الذي كان يذكرني بمجاهدي الشيشان والذي كان يُنظر إليه في جميع أنحاء الخالدية باعتباره شخص مغفل غير مؤذي، انضم إلى جبهة النصرة، وكسب هناك سمعة سيئة من خلال الإعدام وقطع الرؤوس، والمصير الأكثر مأساوية – بالنسبة لي على الأقل – هو مصير أبو بلال صديق عمر تلاوي المتحمس الذين أمسك بكاميرته بحماس فيما مضى ليهتف للحرية والديمقراطية في سوريا، ولكن بعد نهاية حصار حمص وإجلاء السكان من حمص القديمة، أعلن عن انضمامه رسميًا إلى الجماعة الجهادية الأكثر تطرفًا (داعش)، وأصبح الآن أحد المتحدثين الرسميين باسم التنظيم في منطقة إدلب.
حالة أبو بلال بالطبع ليست سوى حالة واحدة، فمازال هناك المئات من الناشطين في حلب وفي أماكن أخرى، ممن يحافظون على ثقتهم بالمثل العليا للثورة، وفي الواقع الكثير من هؤلاء نجا من اعتقال أو تنكيل المخابرات، ومن غدر قناصي النظام، ومن دناءة التفجيرات والبراميل، ليتم قتلهم على يد أصدقاء أبو بلال الجدد، وبالنظر إلى ما عانه وعايشه أبو بلال وأمثاله ربما قد نفهم سبب اختياره، أو ربما قد نفهم يأسه على الأقل، الذي قد يقود المرء إلى الجنون، ولكن الحزن على ما آلت إليه الأمور لن يضعف مهما كانت التبريرات.
هذا المقال مقتبس من المقدمة الإنجليزية لكتاب جوناثان ليتل “مذكرات سورية: داخل انتفاضة حمص“، المترجم من قبل شارلوت مانديل، والذي سيتم نشره من قبل دار نشر فيرسو في 21 أبريل.
المصدر: نيويورك ريفيو أوف بوكس