أقل من دقيقة واحدة أذاعتها قناة فرانس 24 حوّلت مشهد مقتل محمد الدرة إلى أيقونة لانتفاضة الأقصى، فرُفعت صوره في التظاهرات، وعُلّقت صوره على السيارات وأبواب المحال التجارية. واستدعى الغضب العارم دعاوى قضائية رُفعت على الحكومة الإسرائيلية، فأُرغمت على الإقرار بمسؤوليتها، وأبدت أسفها على مقتل الدرّة ووالده.
رغم أن وسائل الإعلام لم تكن بالانتشار الذي هي عليه الآن، ورغم أن شبكة الانترنت لم تكن موجودة حينذاك، إلا أن النذر اليسير من الصور والمعلومات التي كانت تصلنا كانت كافية لتجييش النفوس، وتنظيم تظاهرات مليونية غاضبة، والإعلان عن جلسات طارئة لمجلس الأمن الدولي، والتوافق على إدانة جرائم الاحتلال الإسرائيلي الذي لايعترض طريقه سوى الفيتو الأميركي.
الحاصل في أيامنا هذه، أن وسائل الإعلام والشبكة العنكبوتية تدفق علينا كل يوم بمئات الصور ومقاطع الفيديو ومعلومات أكثر مأساوية ودموية وبشاعة من صور اغتيال محمد الدرة، لكن المفارقة أنها تزور ذاكرتنا دقائق معدودة، لاتلبث أن تغادرها سريعاً. فالعاميْن الماضييْن حفِلا بمشاهد مروّعة لعمليات قتل وتعذيب وحرق ارتكبها النظام السوري بحق شعبه. والشهريْن الماضييْن حفِلا كذلك بمشاهد قتل بشعة ارتكبها جيش الانقلاب المصري في ميدانيْ رابعة العدوية والنهضة، لكنها جميعاً ذهبت طيْ النسيان.
فمشهد الطفلة في الغوطة الشرقية وهي تسأل الجالس قربها “عمّو أنا عايشة؟” لم يحرك ضميراً، ومشهد الأم التي عثرت على طفلها بين جثث الأطفال وحضنته إلى صدرها لم يستدعِ تنظيم تظاهرة واحدة، ومشهد الوالد الذي يهزّ جسد طفله رافضاً تصديق خبر وفاته وهو يردد “بابا يلاّ قوم” امتنعت وسائل الإعلام عن عرضه تجنّباً لتعكير مزاج المشاهد. وفي مصر لم نشاهد الجرافة التي جرفت جثامين عشرات الشهداء الذين قُتلوا برصاص الجيش والشرطة إلا على شاشة الجزيرة، لأن وسائل الإعلام الأخرى اعتبرت أنه سيؤدي للتعاطف مع الإخوان المسلمين، وهذا ما يستحيل أن تساهم فيه..
في الماضي كانت الصور تأتينا بالأبيض والأسود غير واضحة المعالم مشوّشة الصوت، لكنها كانت كافية لتحريك الشعوب ورفع صوتهم واستيقاظ ضمائر بعض الحكام. في حين أن صور اليوم نشاهدها “Full HD “، والصوت يصل آذاننا “Round System ” فينقلنا بنقاوته إلى قلب الحدث، رغم كل ذلك، لاتستهلك هذه المشاهد من ذاكرتنا سوى لحظات، نعود بعدها لمتابعة برامجنا المقررة.
كثيرة هي الأسباب التي يمكن تقديمها كمبررات لهذا البرود العاطفي والجفاء الإنساني والبلادة الإعلامية. فالمشاغل والهموم تزاديت عما كانت عليه في السابق، كما أن الصور والأحداث باتت تنهمر على وسائل الإعلام ومنها إلى المشاهد كالمطر. فلا تكاد وسائل الإعلام تُفرد مساحة لخبر حتى يأتيها خبر أكثر أهمية، والمُشاهد ضائع في بحر الأخبار والصور، فلا يكاد يتأثر بخبر حتى يطمسه آخر، وهكذا..
إلا أن عاملاً جديداً يمكن أن يكون سبباً إضافياً في حالة الاسترخاء التي وصلنا إليها، وهو وسائل التواصل الاجتماعي. فالمواضيع والتعليقات المنشورة على موقعيْ الفايسبوك والتويتر تشي بأن الأمة العربية والإسلامية بألف خير. ومن يتابع هذه الوسائل يشهد حميّة عارمة، واحتقاناً كبيراً، وغضباً مشتعلاً في النفوس، ينتظر فرصة كي يتفجر. كما يلحظ أن وعي المشاركين مرتفع، وأفكارهم نيّرة، وإبداعهم واضح، وسعيهم للتقدم والصدارة لايحتاج دليل. لكن الواضح كذلك أن هذا الوعي والإبداع والحميّة والغيرة يبقى محصوراً بشاشة الكومبيوتر أو الهاتف الذكي، في عالم افتراضي لايجد أي انعكاس له على الأرض. فإذا ما تمّت الدعوة إلى تظاهرة أو اعتصام أو تحرك لمناسبة ما، تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي في الدعوة والحشد إليه، فإذا ما وصلت إلى التظاهرة لم تجد واحداً ممن كان يدعو إليها، ووجدت أناساً آخرين، ربما لايملكون حساباً على الفايسبوك.
أن تشكل وسائل التواصل الاجتماعي “تنفيسة” للمشاركين فيها يفرّجون من خلالها عن غضبهم فهي مشكلة، لكن المشكلة تصبح أكبر إذا اعتقد “مجاهدو الفايسبوك” أن فرض الكفاية تجاه أمتهم لايتعدى مشاركاتهم الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.