لطالما كانت جماعة الإخوان المسلمين حديث الشارع، منذ بداية تأسيسها وحتى الآن، ودائمًا ما تجد فريقين: أحدهما مؤيدًا للجماعة معجبًا بفكرتها، والآخر معارضًا عنيفًا لها، يرفضها ويرفض سياساتها وأفكارها ويرى أنها خذلت الفكرة التي دعا إليها مؤسسها الإمام حسن البنا، وفي الآونة الاخيرة تصدرت الجماعة أغلفة الصحف الرسمية في الأردن، معلنة عن أكبر نزاع وانشقاق يحصل بين صفوفها منذ بداية عملها السياسي في الأردن، ورأينا فريقين أو بالأحرى ثلاثة فرق؛ أحدها مؤيد للقيادة والمركز العام، والآخر مناكف للأول، والثالث وقف على الحياد متجنبًا صداع الصراع ومنتظرًا النتيجة كي يعتنقها وانتهى.
بداية الخلاف بدأت عندما قررت مجموعة من القيادات داخل الجماعة تسجيلها ضمن سجلات الحكومة بشكل رسمي، وترخيصها لتصبح هيئة أردنية معترف بها رسميًا في الدولة، وقابل هذا الفريق المركز العام وعلى رأسهم المراقب العام للجماعة في الأردن، الدكتور همام سعيد، الذي ارتأى بهذه الخطوة إخضاع الجماعة رسميًا للدولة وقوانينها، وكما يعلم المتابع الأردني للجماعة أنها تنقسم داخليًا إلى فريقين بينهما عدة أطياف من اللون الرمادي؛ فريق راديكالي في حله لأزمات الجماعة الداخلية واختلافات أعضائها في وجهات النظر، يتجنب الحلول المشتركة مع الدولة والسلطة والحكومة ويؤمن بسرية التنظيم وعلانية الدعوة إيمانًا أصيلًا، وهو الذي اُصطلح على تسميته بفريق الصقور، أما الثاني فهو يتصف باللين نسبيًا على عكس نظيره الآخر في حل نزاعات الجماعة ومشاكلها الداخلية، أكثر انفتاحًا على مؤسسات الدولة والتيارات الحزبية والسياسات الأخرى، وبات مؤخرًا يؤمن بأن سرية التنظيم ما هي إلا إرث وجدت عليه الجماعة أباءها، ويعرف هؤلاء بالحمائم.
يرى معظم المحللين والمفكرين السياسيين والمتابعين للساحة الإخوانية الأردنية أن أزمة الإخوان الحقيقية ابتدأت عندما قامت الحمائم، منذ شهرين تقريبًا، بالإغارة على سياسة الصقور، والتقدم بطلب من الحكومة الأردنية بتسجيل الجماعة رسميًا ضمن سجلات الحكومة وترخيصها، لكن الاختلاف الحقيقي بدأ يظهر على السطح بصورة جلية، عندما بادرت مجموعة من قيادات الإخوان المحسوبة على تيار الحمائم منذ عام ونصف بإطلاق المبادرة الأردنية للبناء (زمزم) من رحم الجماعة، مترجمين بذلك إيمانهم بضرورة اعتبار الجماعة، أو على الأقل ممثلة بأفرادها، هيئة أردنية ملفها الأولّي هو الدولة الأردنية وقضاياها الداخلية وهموم شعبها، مشركين بذلك أطياف عديدة غير محسوبة على الجماعة، مخالفين بذلك الصبغة العامة التي صبغ الصقور بها الجماعة، ممثلين بالمراقب العام وعدد من القيادات الملتفة حوله، مما أدى إلى تجلّي السياسة الإقصائية لدى هذا الفصيل من الجماعة؛ بقيامهم بفصل مجموعة من القيادات و”المحاربين القدامى” ضمن صفوف الحمائم فصلاً تعسفيًا، وفرض الحظر الفكري على آخرين بحجة الحفاظ على تماسك الصفوف ووحدتها، ولكن صقور الإخوان لم يعتقدوا أن هذه الخطوة سوف تؤجج غضب الكثيرين من المطالبين بالإصلاح داخل الجماعة لهذه الدرجة، حتى قام القيادي المعروف بالذنيبات مع مجموعة من رفاقه، بضرب أوامر المركز العام وسياساته بعرض الحائط، والتقدم إلى الحكومة الأردنية الحالية بطلب ترخيص الجماعة رسميًا.
الناظر بلمحة خاطفة إلى تاريخ الجماعة عالميًا وخصوصًا في مصر، يرى أن ثقافة السرية والحس الأمني العالي لدى الجماعة وأفرادها بدأ ببداية التناوش بينها وبين مؤسسات الدولة ممثلة بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وبقي هذا النهج مبررًا في مصر والبلدان الأخرى التي تفرعت فيها الجماعة.
وبنقل العدسة إلى الدولة الأردنية، نرى أن الآية قد قُلبت في نهايات القرن السابق، عندما هب الشعب الأردني هبة أبريل 1989، والتي على إثرها حازت الجماعة على كمية لا بأس بها من مقاعد مجلس النواب، وأصبحت العلاقة بين الجماعة والحكومة أقل حدة عما سبق، حتى فُتحت مراكز الجماعة الرسمية علنًا على مصراعيها ولم تعد السرية هنا مبررة إلا أنها بقيت السمت الطاغي على الجماعة حتى بعد حلول الربيع العربي، كاشفًا أوراق الحكومات والأحزاب معًا على العلن، وبقيت الجماعة تدرب أفرادها وقياداتها على الحس الأمني العالي، مما أدى إلى طفو علامات التساؤل حول أجندة الجماعة الحقيقية.
هذه الخلفية السرية والمنغلقة بعض الشيء، أعطت انطباعًا لدى المقربين من الجماعة بأنها تمتلك حلولاً حقيقية إصلاحية لإشكالات الحياة السياسية والفساد المتوارث بين الحكومات المتعاقبة، إلا إن أفراد الجماعة، وبالأخص القدامى منهم يعلمون أن هنالك تخبطات في الرؤى الإصلاحية لدى القيادات بين وضع الملف الأردني كأولوية على أجندة الجماعة، وبين إحياء شعارات الجماعة القديمة من نصرة الأمة والتركيز على القضية الفلسطينية كمحور أساسي لنشاطات الجماعة.
وقد تجلى ذلك في تنظيم الجماعة لتظاهرات تندد بالفساد السياسي والاقتصادي، يقابلها على نحو أكثر بكثير المهرجانات الخطابية الشكلية بعض الشيء لنصرة القضية الفلسطينية والفارغة نسبيًا من الحلول العملية، بررها العديد من المحللين السياسيين بتدخل حركة حماس أو ما اصطلح على تسميته بـ “التنظيم الدولي ” في رؤى وسياسات فروع الجماعة، الأمر الذي دفع تيار الصقور على وجه الخصوص لبذل جهود فوق المعتادة في نفي ذلك.
في ظل كل هذه الأحداث التي عصفت بجماعة الإخوان المسلمين مؤخرًا في الأردن، نرى أن هناك العديد من الأسئلة التي يجب أن تُطرح وإيجاد إجاباتها في القريب العاجل، فالأفراد ينتظرون من قياداتهم توضيح الصورة أكثر، وإنهاء هذا الخلاف الذي جعل الفرد الإخواني يذهب إلى المركز العام للجماعة القابع في العبدلي، مارًا بـ “جمعية جماعة الإخوان المسلمين” قرب نفق الصحافة.