في ليلة من ليالي يوليو من العام 2013، وقف رئيس وزراء قطر آنذاك الشيخ حمد بن جاسم الثاني مع عُمدة لندن بوريس جونسون، ليفتتحا معًا مبنى الـ”شارد” Shard، بينما انطلقت الأروكسترا الإنجليزية في لندن ليبدأ عرض افتتاح أطول مبنى في أوروبا الغربية، والذي يبلغ طوله أكثر من 300 متر، ويملك جهاز قطر للاستثمار 95٪ منه.
لم تكن تلك سوى واحدة من تجليات النفوذ القطري المالي في بريطانيا، والذي وصل إلى الاستحواذ على منطقة كناري وارف المالية، قلب لندن الاقتصادي والمالي إلى جانب لندن القديمة، والتي تضم مقرات أكبر البنوك والشركات الإعلامية، حيث قام جهاز قطر للاستثمار مع شريك كندي بشراء المنطقة مقابل 2.6 مليار إسترليني في مطلع هذا العام.
أموال قطر بين بريطانيا وأوروبا
أنفقت شركة قطر القابضة وجهاز قطر للاستثمار أكثر من 13 مليار إسترليني في السنوات الأخيرة لشراء ممتكلات عدة في بريطانيا، أبرزها ثكنات تشيلسي المعروفة في لندن وهارودز والقرية الأولمبية، بالإضافة إلى استحواذها على أكبر نصيب من الأسهم في بنك باركليز، وكذلك في بنك كرديت سويس وملكية مطار هيثرو، كما ستحصل على السفارة الأمريكية التي سيتم إخلائها قريبًا في لندن.
بطبيعة الحال، استغلت قطر أزمة اليورو في أوروبا لتخلق لنفسها موطئ قدم في الاقتصاد الأوروبي، حيث استثمرت في البنية التحتية والأعمال والإعلام والبتروكيماويات والمؤسسات المالية خلال الفترة الماضية ببلدان مختلفة بأوروبا، وقد نجحت في خلق علاقات شخصية وطيدة مع النُخب السياسية والاقتصادية، لا سيما في بريطانيا وفرنسا، لتعزيز تواجدها في هذين الاقتصادين، وخاصة بريطانيا التي تحصل على حوالي نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي من قطر.
برج الـ”شارد” في لندن
قطر القابضة هي الذراع الأساسية لجهاز قطر للاستثمار، وهي تملك حوالي 12.7٪ من بنك باركليز، و17٪ من مجموعة فولكس فاجن، كما أنها جزء من مجموعة تسمّى فيلميارد اشترت شركة الإنتاج السينمائية المعروفة ميراماكس عام 2010، أضف إلى ذلك استحواذها على مقر بنك كرديت سويس في لندن، والذي تمتلك منه 6٪، واستثمارها لخمسة مليارات في مشاريع بتروكيماوية في ماليزيا، وهي خطوة قال كثيرون أنها ستعزز من قوة ماليزيا في هذا المجال بمواجهة منافستها سنغافورة.
تهتم فرنسا بشكل خاص برأس المال القطري، وقد عرضت عليه إعفاءه من الضرائب فيما يخص استثماراته العقارية، خاصة وأنه يستثمر بالأساس في الضواحي التي تسكنها الأقليات العربية والمسلمة، والتي ستميل بالطبع إلى تنمية جهة عربية لتلك المناطق، في حين ستجني فرنسا ثمار تحسين أوضاع تلك الأقليات عبر جهة عربية مسلمة هي الأخرى، على العكس من محاولات الإدماج الفرنسية التي لم تُثمر كثيرًا.
علاوة على كل ذلك، يلعب بنك قطر الوطني، المؤسسة المالية الأبرز لدولة قطر، دورًا كبيرًا الآن باعتباره المُقرِض الأول في الشرق الأوسط، وأقوى بنك في العالم طبقًا لتقييم قامت به شركة بلومبرج للسنة المالية 2012، ليحل بذلك محل بنوك سنغافورة وكندا التي تربعت على قمة قائمة أقوى البنوك في الأعوام السابقة، وقد حقق البنك تلك القفزة باستحواذه على أسهم عدة في أكثر من 25 بلدًا بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ليتجاوز إجمالي أرصدته 100 مليار دولار.
رئيس الوزراء القطري السابق مع ولفجانج بورش، أحد ملاك شركة بورش، بعد شراء بلاده لـ10٪ من مجموعة فولكس فاجن، والتي تضم أودي وبورش ولامبورجيني وسيات وشكودا
قطر وعالم الرياضة
لقطر طموح خاص في عالم الرياضة وصل بها إلى ملكية الأندية الأوروبية وأكاديميات التدريب والقنوات الرياضية، حيث تُعد شبكة بي إن سبورتس الآن شبكة عالمية بحقوق بث لبطولات كرة القدم وغيرها من رياضات في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا، كما تجري أخبار هذه الأيام عن نيتها الحصول على نصيب في شركة ميديا سِت الإيطالية المملوكة لرئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني، والتي تمتلك بدورها 41٪ من حقوق بث مباريات المنتخب الوطني في إسبانيا.
يرأس شبكة قنوات بي إن القطري ناصر الخليفي، وهو يطمح إلى وضعها في مصاف الشبكات الكبرى المعروفة مثل إي إس بي إن وستار سبورتس، وهي تقوم بالفعل حاليًا ببث معظم بطولات الدوري الأوروبي وكأس العالم والألعاب الأولمبية وبطولات التنس المعروفة وغيرها في الشرق الأوسط كافة، وتنفق الملايين لإنتاج محتواها الخاص كما تُظهِر برامجها الوثائقية الرياضية.
ناصر الخليفي
فيما يخص الأندية، تمتلك قطر علاقة خاصة مع نادي برشلونة كما يبدو من قمصان لاعبيه، والذي كان يرفض أن ترعاه أي جهة مالية قبل أن تنجح في ذلك مؤسسة قطر ثم الخطوط الجوية القطرية، والتي وُضِع اسمها على مقاعد استاد برشلونة وعلى بوابته في إشارة للشراكة الخاصة بين الطرفين.
في عام 2011، أبرمت شركة استثمارات قطر الرياضية المملوكة للدولة صفقة شراء نادي باريس سان جِرمان الفرنسي، أعرق أندية فرنسا، وكان للعلاقة الوطيدة بين الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وولي العهد حينئذ تميم بن حمد دور كبير في إتمام الصفقة التي بلغت قيمتها 130 مليون دولار، ليؤول النادي الآن إلى رئيسه القطري، وهو أيضًا ناصر الخليفي، ويبدأ في حملة موسعة لشراء أسماء كبيرة في عالم الكرة مثل زلاتان إبراهيموفيتش وديفيد بيكهام في إطار تطوير النادي، “في خمس سنوات، نود أن نكون واحدة من أفضل أندية أوروبا وأن نحصل على دوري الأبطال، وأن تكون قيمة النادي مليار يورو” هكذا صرّح الخليفي.
طموح سياسي أم فريضة استراتيجية؟
لطالما تسائل كثيرون عن أهمية كل ذلك النفوذ والإعلام الذي تتمتع به قطر عالميًا، لا سيما وهي بلد صغير لا يتعدى تعداد سكانه العرب نصف مليون، وبينما يعزو البعض هذه التوجهات إلى “عُقدة نقص” تحاول بها قطر رفع صوتها بين بلدان الخليج الأكبر منها، لا سيما السعودية، وغريمها الإماراتي، فإن واقع ثروة قطر الطبيعية يفرض عليها نوعًا ما هذا الدور.
تُعَد قطر، على عكس بقية دول الخليج، قوة معروفة بإنتاج الغاز بشكل أساسي، لا النفط، وهو ما يعني أنها يمكن أن تصبح ذراعًا لدول الخليج في عالم الدول المصدرة للغاز، الذي يضم بالأساس روسيا وإيران، إذا ما رضت بموقعها الضئيل في مجلس التعاون الذي تقوده السعودية، مما يحتم عليها دومًا، دونًا عن أي بلد خليجي آخر، أن تحاول الاستقلال في قرارها ونفوذها قدر الإمكان عن الرياض.
يعني هذا ببساطة أن سياسة الصوت العالي ليست خيارًا سياسيًا على عكس ما نظن، أو مجرد رغبة قطرية في خلق دور أكبر من حجمها لذاته، بل فريضة استراتيجية وجيوسياسية نتيجة لموقع قطر كقوة من أبرز ثلاث قوى مصدّرة للغاز، وهو اتجاه يعززه بالطبع طموح قطر في لعب دور عربي ودولي، مثلها مثل الإمارات، ولكنه ما كان وحده ليفسّر دور قطر المتنامي في المنطقة والعالم، إعلاميًا وماليًا.