“قد يكون صحيحًا أن القانون لا يمكن أن يجعل شخصًا يحبني، لكن بإمكانه منعه من إعدامي زورًا، وهذا في اعتقادي في غاية الأهمية”
هكذا يقول الزعيم الأمريكي الراحل مارتن لوثر كينج الذي لطالما بكى وهو طفل صغير جراء نبذ أصدقائه البيض له مع وقوفه عاجزًا عن تفسير لماذا لا تتركهم أمهاتهم يعلبون معه، وما أن بدأ الشاب اليافع يفهم العنصرية حتى اتخذها سبيلًا تجاه البيض كما كان الحال في الولايات المتحدة آنذاك.
عندما التحق بالجامعة أدرك مارتن لوثر كينج أن أمر العنصرية تجاه البيض ومواجهة عنصريتهم بعنصرية مضادة متطرفة لن يكون حلًا لأزمة مجتمعه، كما أدرك أن الأمر هو محض ظلم يجب أن يواجه كظلم فقط وليس أن يوضع على شخص بعينه دون أن تكون للدولة دور في رفع الظلم عن كافة المواطنين أيًا كان لونهم.
لاقى المواطنون ذوو البشرة السمراء في الولايات المتحدة كافة أشكال العنصرية من المجتمع بالتشارك مع الدولة حيث الاحتقار والإذلال، فكانت الأولوية للبيض في كافة الأمور، ففي وسائل النقل تخصص لهم أماكن معينة للجلوس، وفي باقي المعاملات الحياتية يقيدون بقوانين معينة لا يستطيع أحد منهم تجاوزها وإلا ألقي القبض عليه.
هذه الأوضاع لا تنذر إلا باشتعال عنف مسلح بين المواطنين على خلفية عنصرية “اللون” ، وهو ما لم يسلكه كينج بأية حال في هذا التوقيت بل حاول كبح جماح عنف الغاضبين من الأمريكيين الزنوج الذين يتعرضون لشتى أنواع التنكيل بالقانون، حتى رأى أن ثمة طرق تغيير يجب اعتمادها لمواجهة المجتمع والدول في آن واحد.
فأول الغيث كان مقاطعة شركات النقل التي تضع شروط في الحافلات وتخصص مقاعد على أساس عنصري، ما أدى إلى تكبد تلك الشركات حسائر فادحة جراء تفعيل دعوة مارتن لوثر كينج بمقاطعة هذه الشركات، حيث كان الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية يشكلون أكثر من 70% من ركاب هذه الشركات التي تمارس العنصرية ضدهم، ومن هنا سلك مارتن لوثر كينج طريقًا سلميًا أقنع به وبجدواه عدد كبير من الأتباع المشاركين معه في نفس القضية لانتزاع حقوق السود داخل الولايات المتحدة، إلى أن بدأ هذا النضال يثمر حين أصدرت محكمة أمريكية حكمًا تاريخيًا ينص على عدم قانونية هذه التفرقة العنصرية،حينها طلب كينج من أتباعه أن ينهوا المقاطعة ويعودوا إلى استخدام الحافلات بعدما تحقق غرضهم من المقاطعة .
استمر الرجل في هذا النهج متأثرًا بأفكار ووسائل غاندي في النضال السلمي الذي ذهب لزيارته بالفعل في الهند عام 1959، بعدها انتقل كينج إلى معركة أخرى ولكن هي الأشد شراسة لأنه عمد إلى الاشتباك مع الحكومة وسياسيها، حيث طالب بحق المواطنين الأمريكان من ذوي الأصول الإفريقية في الانتخاب، فقام بمهاجمة كل من الحزب الجمهوري والديمقراطي في إحدى خطاباته مطالبًا بحق السود الانتخابي، ونجح مارتن في إنجاز هذه الجولة أيضًا فتم تسجيل خمسة ملايين من الأمريكان الأفارقة في سجلات الناخبين في الجنوب، واستمر نضاله لاستراد بقية حقوق السود في المجتمع الأمريكي حتى تكلل نضاله عقب اغتياله في 4 إبريل عام 1968 بتوقيع الرئيس جونسون قانون الحقوق المدنية الذي نص على العدل والمساواة بين الأعراق والألوان والجنسين في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وألزم الإدارة الفيدرالية بتنفيذ بنود ذلك القانون.
هذا ما ناضل من أجله مارتن لوثر كينج منذ أكثر من 60 عامًا ودفع حياته ثمنًا له، وربما لو كان كينج حيًا بين الأمريكيين إلى هذا اليوم ورأى باراك أوباما الرئيس الأمريكي الحالي يصعد ليحتل منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية لغمرته السعادة لكون حلمه قد تحقق أخيرًا وتم القضاء على العنصرية، فها هو أمريكي إفريقي أسود يتولى رئاسة نفس الدولة التي وقف فيها مارتن لوثر مدافعًا عن حرية وحقوق المواطن الأسود، ولكن يبقى التساؤل هل كانت فرحة مارتن لوثر كينج لتكتمل مع استمرار العنصرية في عهد أول رئيس أسود للولايات المتحدة ؟!، وهل بالفعل ما دعى إليه كينج تحقق أم أن الرئيس الأسود ليس سوى تغيير شكلي أملاه التاريخ على بلد تدعي الحريات ؟! .
ميزوري، نيويورك، فلوريدا، لويزيانا جميعها ولايات أعادت مفهوم العنصرية إلى المجتمع الأميركي في عهد أوباما، عبر حوادث قتل واضطهاد لأكبر الأقليات العرقية في الولايات المتحدة؛ الأميركيين السود.
ففي عام 2012، أطلق رجل شرطة أبيض في ولاية “فلوريدا” النار على شاب أسود (17 عامًا) بينما كان في طريق العودة إلى منزله وذلك في نفس توقيت استعداد أوباما(الرئيس الأسود) في نظر بعض الأمريكيين، لتولي فترة رئاسية ثانية، تزايدت العنصرية ضد السود في الفترة الأخيرة إلى الحد الذي جعل المدعي العام في مدينة “ديترويت” التصريح بأن العلاقات العرقية أصبحت أكثر اضطرابًا من أي وقت مضى، مضيفًا : “أعتقد أنه عندما انتخب الرئيس باراك أوباما أصبحت العنصرية أكثر علنية”.
وقد اعترفت الدولة بهذا حين صرح وزير العدل “إريك هولدر” أن هناك انتهاك من قبل الشرطة والسلطات في ضاحية “فيرغسون” في مدينة “سانت لويس” بولاية “ميزوري” للحقوق الدستورية للسكان السود “بشكل روتيني وممنهج”، ما يعني وجود تمييزًا عنصريًا بحقهم، وذلك عقب احتجاجات لمواطنيين أمريكيين من أصل إفريقي لمقتل واحد منهم على يد شرطي أبيض.
الحقيقة أن ذوي البشرة السوداء في أمريكا يشعرون بالغضب ويرون أن الحديث عن المساواة هو أمر شكلي فقط أكثر منه واقعي، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى أزمة جديدة ستعيد إلى الأذهان كلمات مارتن لوثر كينج ونضاله من أجل حقوق المواطنين السود في الولايات المتحدة، وسيبقى التساؤل قائمًا هل تحققت المساواة التي دعا إلى لوثر كينج أم أن الأمر لم يتعدى الشكليات؟!.