“حرق طيار أردني في سوريا قرب نهر الفرات يؤدي لقصف طائرات مصرية لدرنة الليبية على ساحل البحر المتوسط”.
هكذا تبدو إحدى تطبيقات “تأثير الفراشة” لدى داعش ما بين حرق الكساسبة، وذبح الأقباط، واقتحام اليرموك، ومع أن داعش – على تشوهها – ليست إلا “الفراشة” الطبيعية لشرنقة الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعالمية التي ضمّت الشباب في العالم العربي خلال عقود، إلا أن “رفّة جناحها” لم تكن طبيعية ولا عفوية ولا أليفة بطبيعة الحال، بل سعت داعش بكل استطاعتها لأن تصنع بهذه الرفة طوفانًا يأكل الأخضر واليابس من بعدها، كما سعى النظام العالمي ابن نوح وسط هذا الطوفان بكل استطاعته لتوجيهه، عل ذلك يعصمه من الماء، أما الطيبون؛ فلا سفينة لهم!
وليس المقال هنا للمساهمة بالجدال البيزنطي حول كون داعش صنيعة استخباراتية، أو لتقدير حجم اختراقها استخباراتيًا، فهي من حيث النشأة مولود “طبيعي” للظروف الموضوعية التي أدت لظهورها من القمع وانسداد الأفق السياسي، والاضطهاد الاجتماعي، والبطالة، والفقر، والاصطفاف الطائفي، والعنف المفرط للحداثة بيد الأنظمة العربية أو العالمية على السواء، من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي تتقاطع مع الأهداف الموضوعية للغرب وتحققها له بأقل تكلفة، وذلك بتفتيت الدول التي تتواجد بها، وتوفير ذريعة للتدخل العنيف من خلال عنفها المفرط، والأهم: إنهاء المشاريع الحقيقية الثورية والإسلامية وذات الرؤى، إما بقتل وذبح واستنزاف شبابها بمعارك إضافية ضدها، أو باستقطابهم في معارك عدمية دون كيشوتية في صفوفها.
وبالرجوع لفوضى داعش، وتطبيقه على نموذج الكساسبة والأقباط، فنحن نتحدث عن ثلاثة عناصر: “فراشة” داعش وطوفانها الذي غزا الدول العربية، وابن نوح العالمي والعربي، والطيبون بلا سفينة.
فراشة داعش والطوفان
(أ) و(ب) دولتان حدوديتان: (أ) ممزقة بالحرب الأهلية والتدخلات الإقليمية والعالمية، و(ب) ذات مجتمع متشنج مصطف اجتماعيًا أو سياسيًا ومنهك اقتصاديًا، ونظام حاكم مطلق متدخل بـ (أ) ضد داعش التي اختارت ضحيتها من شريحة محددة في (ب) واستهدافه في (أ) بأسوأ طريقة ممكنة، ليرتفع صوت الإدرينالين على صوت المنطق، ووجع الهوية على وجع القضية، فيطالب مجتمع (ب) نظامه وحاكمه المطلق، ومن ورائه تحالفه العالمي للتدخل في (أ)، لتتسع الهوة بين نظام (أ) ومجتمعه من جهة على المدى الطويل بين الدخول بالحرب لآخرها أو الخروج منها لآخرها، وبين مجتمع (أ) المنهك من الحرب، ومجتمع (ب) الذي تأثر عن طريق الحرب في (أ).
لا يحتاج الأمر كثيرا من الفطنة لإدراك أن (أ): ليبيا أو سوريا، و(ب): مصر أو الأردن، وأن الكساسبة المحروق ابن عشيرة والمصريين المذبوحين أقباط واليرموك مخيم للفلسطينيين وسط سوريا، وأن النظام الأردني الملكي والمصري العسكري – المطلقين – مشاركان في التحالف ضد داعش، بينما يملك النظام السوري – المطلق كذلك – وداعش علاقة غريبة تجمعها مصلحة إنهاء الثورة، وتفرقها معارك النظام مع داعش، التي استطاعت إدخال أكبر عدد من الأفراد والمجتمعات والدول في دوامة وطوفان العنف – المادي والرمزي – والفوضى.
هي فراشة واحدة، “تمدّد أجنحتها”، ويتضح ذلك من تنسيق الإنتاج الإعلامي وآلية العمل العسكري والخطاب، إذ نشرت داعش مقاطعها الدعائية بنفس مؤسساتها الإعلامية المركزية – وقد كانت في حالة ذبح الأقباط مؤسسة الحياة التي أنتجت مقاطع ذبح الرهائن الغربيين باللغة الإنجليزية كذلك بنفس الطريقة -، مما يدل على تنسيق بين المؤسسات الإعلامية، وإدراك وهضم للأيدولوجيا المتطرفة، وتبنٍ للتكتيكات العنيفة، وتوحيد نمط وتخطيط التحركات.
تستفيد داعش من ذلك – بجانب الرسائل الأخرى التي ترسلها إعلاميًا نحو أهداف وشرائح محددة – بأنها تستنزف بذلك جميع أعدائها الذين سعت لصناعتهم، ثم تهيئة البيئة المناسبة لتمددها على الأرض – خصوصا في دول ليس بها حكومات مركزية كليبيا وسوريا -، لتعبر عن نفسها كدولة حقيقية، بمؤسسات وقوانين وجيش وسلاح، تسعى لأن تكون صوت السنة المضطهدين ذات الشوكة أمام استبداد الأنظمة المحلية وعنف وتدخل النظام العالمي.
كما تمنح بعثرة داعش المفاجئة للأوراق القدرة على إعادة ترتيبها، ويعطيها زمام المبادرة، والأفضلية والقوة السياسية، مما قد يغري من حولها بالاصطفاف وراءها، كما حصل مع أفراد جبهة النصرة في مخيم اليرموك الذين اصطفوا وراءها، للمصلحة السياسية والعسكرية، بحكم أنها أصبحت الأقوى بين فصائل الثورة وفصائل النظام.
ابن نوح النظام العالمي والعربي
من قمة جبله الذي يراهن على أن يعصمه من الماء، يشاهد الغرب العالم العربي غارقًا في الطوفان والفوضى، ومستمتعًا بالمشهد لديه من الأقمار الصناعية والـF16 والطائرات بدون طيار.
يعمل الغرب على تحقيق أهدافه التكتيكية والإستراتيجية في المنطقة، بأقل الخسائر الممكنة، إما بتنفيذها عبر وكلاء رهنوا أنفسهم كأكباش فداء، أو عبر تهيئة الظروف وتجهيزها بحيث يسير الأطراف نحو النتائج المرجوة، أو عبر الاختراق المباشر أو غير المباشر لأطراف الصراع.
فبالنظر إلى حالة كوباني مثلاً، استخدم الغرب وحدات الحماية الشعبية الكردية والبيشمركة كوكلاء في حربه ضد داعش، ووفر لها غطاءً جويًا متواضعًا عمل على الحفاظ على توازن القوى أكثر مما عمل على تحقيق انتصارات حقيقة.
ومن ناحية أخرى، فإن التنسيق الإلكتروني المذكور أعلاه لداعش، والذي يبنى عليه كثير من تحركاتها الإعلامية والسياسية وحتى العسكرية، يتم بشكل كبير عبر الإنترنت الذي يسيطر عليه الغرب، مع استحالة التشفير الكامل ومرور المعلومات من الرقة إلى سرت دون رقيب أو حسيب، إلا إذا كان سعيدًا بتمريرها، أو متواطئًا ومتساهلاً.
وبهذه الطرق، يسعى الغرب للتخلص من الثورات التي سعت للحرية والعدالة والتي يعلم أنهما أساس النهضة، والتي قد يتبعها تحرر اقتصادي قد يغير صفقات النفط، أو سياسي يعني تغييرًا في البنية الجيوسياسية، ويسعى للتخلص من كل الإرهابيين المحتملين بسفرهم إلى الدول الإسلامية وولاياته الممتدة من أفغانستان حتى بنغازي ومنعهم فقط من العودة قانونيًا، وبتخلصها من الدول العربية لعشرات السنين للأمام، بتفتيت مجتمعاتها أو سلطاتها أو إنهاء بنيتها التحتية، مقامرًا ببناء سد بينه وبين عودة الجهاديين، أو عاصمًا له من الماء الذي يراهن أنه لن يصل إليه بذلك، خصوصًا أن داعش – بعكس القاعدة – لا تستهدف الغرب بقدر ما تسعى لتثبيت نفسها كدولة، في الوقت الراهن على الأقل.
وبتصغير هذه الدائرة قليلاً إلى المساحة الجغرافية والسياسية المحيطة بداعش، نجد أنفسنا محاطين بمجموعة من الأنظمة التي تجيد اصطناع الفوضى وإدارتها، ولعل أبرزها وأوضحها – وهو ما خلق داعش وأوصلها حتى هذه المرحلة -: النظام السوري؛ الذي رفع منذ بدء الثورة شعار “الأسد أو نحرق البلد”، فحرق المنطقة كلها معه.
ولم تكن حالة الكساسبة واليرموك والأقباط استثناء لهذه الظاهرة، من خلال أنظمة ثلاث من أقدم الأنظمة العربية (السوري والمصري والأردني) تجذرًا ودراسة لشعوبها وللمنطقة.
ففي حالة الكساسبة، لم يكن الأردن يمتلك فقط أوراق الضغط على داعش من خلال اعتقال رموز – الذين كان أبرزهم ساجدة الريشاوي التي طلبتها داعش بالاسم – وفاعلين تابعين له وعشرات الشباب الذين اعتقلوا بعد عودتهم من سوريا، بل كان بالإضافة لذلك يمتلك الاختراق العالي للتنظيم، وقدرته على استباق الأمور من خلال معرفة الأحداث، ولعل هذا ما بدا واضحًا عندما أعلن التلفزيون الأردني معرفة الجيش بإعدام الكساسبة قبل نشر وإعلان إعدامه من قبل داعش.
أما في سوريا، فإن داعش على الامتداد السوري تعمل ضمن تقاطع موضوعي مع مصالح النظام، من خلال العداء المشترك للثورة والتبرير الأيديولوجي لذلك – بأن الثوار “مرتدون” لعمل بعضهم مع الغرب، أو خروجهم على الخلافة، أما النظام فهو كافر وعدو مؤجل يمكن أن ينتظر -، وضمن تقاطع مادي مصلحي حقيقي من خلال التبادل الاقتصادي للنفط ما بين النظام وداعش – لأن كليهما لا يستطيع التعامل بالنفط خارج البلاد -، وتجلى بالتحركات العسكرية والسياسية من خلال السماح لداعش بـ “كسر حصار” مخيم اليرموك، لاختراقه، والتوغل فيه، دون أن يتبادل كلاهما رصاصة، إذ صنع النظام جوع المخيم الكافر، وجاءت داعش لتقتل الكفار!