هجمات 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من غزو لأفغانستان ثم تحالف دولي لغزو العراق في 2003، كانت بداية لخامس فاصلة تاريخية مرت بالشرق الأوسط منذ فتح مكة وامتداد دولة الإسلام شرقًا وغربًا في القرن السابع الميلادي، التي كانت أول فاصلة تاريخية نقلته من عهد رومي فارسي إلى عهد آخر مختلف تمامًا، ثم كان الغزو المغولي في القرن الثالث عشر الميلادي الذي أسدل الستار على عهد السلاجقة وأنهى معه تحالفًا أمميًا تكون عبر التاريخ الإسلامي من أمم الترك والبربر والعرب والكرد والفرس وسكان بلاد ماوراء النهر.
لقد شكل الغزو المغولي ثاني فاصلة تاريخية نقلت الشرق الأوسط من نظام إلى آخر ومهدت لقيام الدولة العثمانية في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، حتى وقعت معركة جالديران في 23 أغسطس 1514 بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية الوليدة، حيث رسم النزاع الصفوي العثماني فاصلة تاريخية ثالثة في الشرق الأوسط، ترسم بمعاهدة قصر شيرين في 1639؛ إذ رسمت ملامح الشرق الأوسط وحدوده ودوره في النظام العالمي الذي بدا هو الآخر يتشكل بمعاهدة ويست فاليا في 1648، التي أنهت دور الكنيسة الغربية وأنشات نظامًا جديدًا يقوم على مبدأ الدولة – الأمة، وفتحت المجال لنظام دولي متعدد الاقطاب تشكل رسميًا بمؤتمر فينا في 1814.
ثم كانت الحرب العالمية الأولى التي نقلت الشرق الأوسط من نظام إمبراطوري صفوي عثماني إلى نظام الدولة الأمة ومثلت رابع فاصلة تاريخية له منذ عهد النبوة، ومما يجب ذكره هنا أن الدولة العثمانية التي تحولت إلى جمهورية تركيا تخلت عن ولاياتها السابقة في الشرق الأوسط واعترفت باستقلالها بمعاهدة لوزان في 1923، وتحكم بالشرق الأوسط نظام الدولة الأمة الذي رسمته له اتفاقية سايكس بيكو 1916، ونشأت في ظله إسرائيل، ورغم أن الحرب العالمية الثانية نقلت النظام العالمي من نظام متعدد الأقطاب إلى نظام ثنائي القطبية لأول مرة في التاريخ الحديث إلا أن الشرق الأوسط ظل على نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وانتهت الحرب الباردة في 1990 ومعها انتهى النظام ثنائي القطبية وتفردت – أو كادت تتفرد – الولايات المتحدة بزعامة العالم منذ ذلك الحين، ومع تفرد الولايات المتحدة بالزعامة – ولو عمليًا – جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في 2001 وما تلاها من غزو لأفغانستان والعراق لتمثل خامس فاصلة تاريخية مرت على الشرق الأوسط منذ عهد النبوة، إذ نقلته أو تكاد من نظام الدولة – الأمة إلى نظام آخر لم يستقر بعد على حال، وإن كانت مؤشراته تدل على أنه سيكون شرق أوسط فيدرالي أو كونفيدرالي يعيد إليه، كما يبدو ولأول مرة، تحالفاته – التركية العربية االكردية الأردية الفارسية – التي اندثرت منذ العهد المغولي.
لقد مثلت هجمات القاعدة في نيويورك 11 سبتمبر 2001 وأحداث نينوى 2014 وتحالفاتهما الدولية وما بينهما من اجتثات العراق دولة وجيشًا، بداية لانهيار نظام الدولة الأمة في الشرق الأوسط وانحراف العلاقات الدولية من علاقة دولة مع دولة إلى علاقات دولة مع فاعلين من غير الدول انتشرت في العراق والمنطقة منذ تجهزت للظهور مع قيام ثورة ايران في 1979.
فمن منظمة بدر في العراق ومنظمة حزب الله في لبنان التي نشأت في 1980 وكلاهما تابع لإيران الخميني، إلى الحوثيين في اليمن التي نشأت كحزب سياسي في 1990 وظهرت بصورة مليشيات احتلت صنعاء في 2014، ساد الشرق الأوسط شبكة من هذه العوامل سلبت الدولة الوطنية سيادتها وفجر مكوناتها ومنحت إيران نفوذًا امتد من العراق إلى لبنان منذ احتلال بغداد في 2003، ثم امتد إلى سوريا واليمن منذ انطلاق الربيع العربي بعد 2011.
لقد تميز نفوذ إيران في الشرق الأوسط منذ احتلال العراق بظهور عوامل فاعلة من غير الدول، سواء منها تلك العابرة للحدود والفوق وطنية مثل القاعدة وداعش أو تلك العوامل الطائفية التحت وطنية مثل مليشيات بدر وحزب الله والحوثيين؛ وكلاهما فجر مكونات الشعوب وهدد السلم والأمن المحلي والإقليمي والدولي، ونقض نظام الدولة الأمة واستدعى تحالفات دولية وأخرى إقليمية كان آخرها تحالف ضد داعش في العراق وسوريا تحت مظلة مجلس الأمن الدولي في أغسطس 2014، وتحالف عاصفة الحزم في اليمن ضد الحوثيين بقيادة المملكة السعودية وعدد من الدول الخليجية والإقليمية مثل تركيا وباكستان والأردن والمغرب، التي قد تتكرر في سوريا وبقية دول المنطقة لتشابه المعضلة هنا وهناك.
لقد ترافق مع هذه الفاصلة والمواجهة والدوامة التاريخية الخامسة للشرق الأوسط انتفاضات شعوب تاريخية وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، في خطوط متوازية أو متقاطعة بعضها مع بعض، ففي الوقت الذي انتقلت فيه تركيا من عهد أتاتورك إلى عهد أردوغان، وقامت هناك مصالحة تاريخية بين الكرد والترك ومثل تحالف عاصفة الحزم اندماجًا بين العرب والترك وباكستان، يكاد الغرب ينتهي أيضًا مع إيران إلى معاهدة لوزان ثانية في 2015 تندمج فيها إيران في النظام الإقليمي والدولي، وربما وكما أتوقع تتخلى فيه إيران – رغبة أو رهبة – ليس عن سلاحها النووي فقط بل عن فاعليها من غير الدول أيضًا في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، وتحترم سيادة الدول التي هيمنت من خلال عواملها عليها خلال الـ 15 سنة الماضية وتنتقل من الثورة إلى الدولة.
إذن نحن أمام شرق أوسط جديد ونظام جديد يكاد يُولد ويُولد معه ربما تحالف عربي تركي أردي كردي وفارسي أيضًا إن انتقلت إيران من عهد ولاية الفقيه الذي بدأ في 1979 إلى عهد آخر أقرب للدولة منه للثورة بسبب ارتدادات إقليمية ودولية على الداخل الايراني تترافق مع اتفاق لوزان المتوقع بين 5+1.
مثل هذ الانتقال الإيراني الداخلي وارد مع استمرار هبوط أسعار النفط والاستنزاف الإيراني الإقليمي وقرب رحيل خامنائي، وإن تم فإنه سينهي العزلة الإيرانية وينقلها إلى اندماج إقليمي وتنتهي دوامة الشرق الأوسط في بضع سنين، ويعيد للشرق الأوسط تحالفات عهد السلاجقة من جديد بشكل فيدرالي ليس فيه أثر للمركزية أو القومية أو الدين، ولا يتبقى في الشرق الأوسط إلا معضلة إسرائيل التي قد يفتح اندماج العرب والأتراك والإيرانيين مع باكستان ضغطًا إقليميًا يترافق مع ضغط دولي، يتمثل باعترافات دولية متتابعة بفلسطين ودعوة الأمم المتحدة والولايات المتحدة إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وقد يفتح الاتفاق النووي مع إيران فرصة يُمهد بها لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي، ويفتح بابًا لنزع سلاح إسرائيل النووي ويمهد لانقراض جيوسياسي آخر لإسرائيل يضاف لانقراض سايكس بيكو الجيوسياسي الذي بدأ في 2003.
وختامًا فإن الشرق الأوسط – وربما في غضون سنوات – سيرتبط بالنظام الدولي أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا كما أُريد له منذ احتلال العراق، من خلال منظمة أمن وتعاون إقليمي دولي على غرار حلف بغداد 1955، لكنه سيشمل هذه المرة كل الدول من باكستان إلى إيران إلى السعودية وتركيا وبقية دول المنطقة برعاية الناتو وضمن مبادرة إسطنبول، وربما تنشأ منظمة أمن وتعاون إقليمي دولي على غرار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي تنتهي معها دور الجامعة العربية بل حتى مجلس التعاون الخليجي .