ترجمة المظفر قطز تاج الدين
كم من الصعب أن تكتب عن مدينة تعرفها بالكاد، ولكن كان لها أثر عظيم عليك، الأخطار في ذلك كثيرة؛ أن نقفز إلى الاستنتاجات، أن نتناول ما رأيناه بشكل رومانسي، الظن بأننا قد فهمنا شيئًا ما .. إلخ.
عوضًا عن ذلك، ما يسمح لنا به السفر حقًا هو أن نعرف ما لم يسبق لنا معرفته بشكل جوهري، أن نصقل ونهذب جهلنا بشكل أو بآخر.
أود أن أشكر الأشخاص الذين تفضلوا عليّ بوقتهم بالحديث إلي؛ فاتحين عيني على السياقات الهامة الواجب النظر إليها، أود أن أشكر مي الإبراشي، بيث سترايكر، عمر نجاتي، منار مرسي، ديفيد بويج، أحمد برهام، عزة عزت، عبدالرحمن التلياوي، نرمين عصام الشريف، سلمى بلال، هبة رؤوف عزت، عبدالرحمن حجازي، رامي زيد، رينيه بور، وبالطبع محمد الشاهد.
أعيش حاليًا في باريس، مدينة يبدو عليها أنها لا تنشغل سوى بتأطير خواء شوارعها، على صعيد آخر، تظهر القاهرة كمدينة تمتلئ بالأشياء، أيًا كانت أحجامها، كل من هذه الأشياء تروى حكاية لكل من لديه استعداد لأن يستمع، من ضمن هذه الأشياء: طاولات تنس الطاولة والبلياردو التي يلقاها المرء بشكل دوري في شوارع القاهرة القديمة الأصغر حجمًا، تبدو وكأنها من أوضح الأمثلة.
كرس كل من ديفيد بويج ومنار مرسي بحثهم عن أشياء من نوع آخر؛ مختلف أنواع كراسي الشوارع في المدينة، بالنظر إلى ما جمعاه في جعبتهم بعناية فائقة يمكن لنا ملاحظة التعديلات والتصليحات الحذقة مجتمعة مع بساطة الكراسي البلاستيكية المكونة من قطعة واحدة وغيرها من الطرز المألوفة، ولكن يمكن لنا أيضًا أن نتخطى المادية البسيطة للجماد ذاته لنصل إلى ما يسمح به من ممارسات في المدينة، كما وصفت منار، تحولت ممارسة كالجلوس إلى ممارسة غير بريئة على المستوى السياسي؛ فقط لكونها أنثى منفردة تتنقل في مساحة يحرسها رجال “بانوبتيكويين”، ومن الصعب عدم ملاحظة أن أكثر الجالسين في شوارع القاهرة رجال، وأن المجتمع الموصوف أعلاه غالبًا ما يميل لكونه مجتمعًا ذكوريًا أحادي النوع، وبهذا الشكل يصبح فعل ببساطة الجلوس مساويًا لمحاولة حيازة السلطة على الأجساد الأخرى المتنقلة في المدينة.
وليس على بعد كبير من الكراسي تقع أشياء أخرى يجري صنعها وتحويلها، هنا يمكن لك أن تحصي الكثير من ورش الحرفيين التي تصنع العدسات الزجاجية، وليس ببعيد يستخدم بعض الناس القش في حشو وسائد الأرائك، وعلى بعد ليس بكبير تنتشر ورش تصليح السيارات في كل مكان، تسري تيارات الأشياء بلا نهاية في هذه الشوارع الصغيرة، تدخل المواد الخام إلى الورش بينما تخرج منها المنتجات النهائية.
في الداخل، الجماد مجرد مادة لينة قابلة للتشكيل إلى منتج نهائي متبلور، ويمكن لبعض هذه الجمادات أن تروى تفاصيل تصنيعها، بينما يبقى البعض الآخر على غموضه، وعلى الرغم من استحالة عبور عتبة الورشة ببراءة، إلا أن أبوابها مفتوحة لتسمح أحيانًا بانتقال النشاط الحرفي إلى مساحة الشارع ذاته، بابتسامة مناسبة سيريك الحرفي ما يفعله، خاطًا بابتسامته تلك طبقات من السرديات على الجمادات التي ستملأ أركان المدينة عن قريب.
من السهل تحويل الجمادات إلى أسلحة، ولا أحد أقدر على ذلك من الجيش، وخير مثال على ذلك هو تلك الحواجز الخراسانية التي تحاول أن تسمح للأشخاص المصرح لهم فقط بالتواجد في الأحياء الحكومية، لا يمكن أن تتحقق عسكرة المدينة عبر تواجد وظهور الجسد العسكري فحسب، بل يتطلب الأمر أن يفرض نفسه على كيان من الجمادات ليتحكم بالوظائف اليومية للمدينة، السلك الشائك وحواجز الطرق والأسوار المتحركة والثابتة ومكعبات الخرسانة والحوائط المصمتة ليست إلا أمثلة على هذا الكيان المعسكر لمساحة المدينة، كل منها يكرس وجوده العنيف لترتيب الأجساد في مساحاتها فحسب عارضة حمايتها على عدد قليل من الأجساد بينما تعرض وجهها الآخر للغالبية الباقية، وجه الاقصاء.
في هذا النطاق المعسكر يتحول جماد آخر إلى سلاح، أو على الأقل يمكن اعتباره كذلك، وهو الكاميرا؛ هذا الجماد المحمول الذي لا يمتاز بانفتاحه على الخارج، جماد لا يقذف بشيء في أي اتجاه إلا أنه يصوب ويستهدف ويلتقط، ولذلك يعتبر مصدرًا للخطر من قِبل قوات الأمن الخائفة على الدوام، إذ لا يمكن الحصول على صورة لأي شيء يمكن للعين أن تراه أن يمر بغير عقاب، وفى أفضل الأحوال سيتم إرغامك على مسح الصور.
قوات الأمن وثنية بامتياز؛ تتشرب قوة إعادة العرض والتمثيل، وتخشى قدرتها على سرد القصص وعلى إبراز نقاط ضعفها، ولذلك ترفض المدينة المعسكرة أن يعاد تمثيلها وتقديمها، فكما اكتسبت الخطط المعمارية التي صممتها صفة الأسرار السيادية، فإن أي محاولة لإعادة تقديم المدينة ذات قدرة على بلورة تصور عنها، تعتبر تهديدًا مباشرًا لسلامتها، وفي هذا السياق يبزغ هذا الجماد التافه الآتي من عصر السياحة المسمى بالكاميرا مكشرًا عن صفاته كسلاح.
تحب القاهرة أيضًا أن تعمر أسطح مبانيها بأشياء فريدة: مساكن غير رسمية، أطلال وقمامة، أطباق وهوائيات، إعلانات، أرائك، نباتات، أحبال للغسيل، مآذن وما يماثلها من أبراج أجراس، سقالات دباغة الجلود وغيات الحمام .. إلخ، كان أحد أنشطتي المفضلة أثناء إقامتى القصيرة بالمدينة أن أدخل أي مبنى وأعتلى درجات السلم حتى أصل للسطح ، وقد توجب عليّ استخدام بعض الخطوات الأكروباتية في بعض الأحيان، إذ نتخذ مكاننا في أعلى المبنى، قد نستغرب أن “الأرض” الحقيقية للمدينة ليست هي هذه الأسطح، حيث تصبح الشوارع بالأسفل مجرد وديان حفرها السكان، تبدو غية الحمام الهشة التي تميز القاهرة وكأنها البيوت البدائية لهذه الأرض، والتي بني من داخلها باقي المدينة.
مثل هذه الفكرة تدلنا على أننا يجب أن نتوخى الحذر من رفع القصص التي تتلوها الجمادات إلى مقام الحقيقة، إلا أننا نبني فهمنا للمدينة وممارساتها من خلال هذه السرديات، وهذا الفهم بدوره يشكل ممارساتنا نحن للمدينة، في حالة القاهرة تحديدًا فإن وفرة الجمادات التي تسكن المدينة، أكثر بكثير من أي مدينة غربية، تجعل من فهمنا شيئًا أكثر تعقيدًا في تركيبه بلا شك، إلا أنها وبالرغم من ذلك تضفي عليها شيئًا من الغنى، عبر العدد اللامتناهي من السرديات التي يمكن التنقيب عنها في سطح هذه الجمادات وتفاعلها مع الأجساد من حولها.
المصدر: مُشاهد القاهرة