عاود العلماء تشغيل أكبر وأقوة جهاز علمي في العالم بعد حوالي عامين من التوقف، حيث بدأ بالأمس إطلاق البروتونات في مصادم الهادرونات الكبير LHC التابع لـ”بسِرن” Cern، منظمة البحوث النووية الأوروبية، وهو مصادم الجُسيَمات الواقع تحت الأرض على الحدود بين سويسرا في فرنسا، ويبلغ طوله 27 كيلومتر.
بدأ العلماء بإطلاق شعاعين من الجسيمات بطاقات بسيطة في الصباح الباكر، ليحصلا على إشارة اكتمال دوران أحدهما في حلقة المصادم بعد حوالي ساعة، والآخر بعد ثلاث ساعات، وهو ما أكّد جاهزية المصادم للاستخدام عند طاقات أعلى في الأشهر القادمة كما يطمح العلماء، والذين يريدون أن يصلوا بطاقات الآشعة إلى 13 تريليون إلكترونفولت (وحدة قياس طاقة الجسيمات).
“لقد انطلق الشعاع بشكل سلس عبر الجهاز بأكمله، إنه أمر رائع أن نشاهد عودة المصادم بعد عامين،” هكذا قال المدير العام بمركز التحكّم في سِرن بالعاصمة السويسرية جنيف، حيث تجمّع العلماء في انتظار إشارات نجاح التجارب الأولية، عاقدين العزم على إجراء تجارب أكبر لتحقيق المزيد من الاكتشافات الكبرى، كما حدث منذ عامين حين تأكد اكتشاف جسيم هيجز المسؤول عن الكتلة، مما أدى إلى حصول منظرّيه على جائزة نوبل للفيزياء بعد أكثر من 40 عامًا على تنبؤهم بوجوده.
الآن، يضع العلماء أعينهم صوب نظريات أخرى لاختبارها، خاصة مسألة المادة المظلمة، التي تشكل أكثر من 80٪ من المادة في الكون، وتؤثر على حركة المجرات، ولا يدري عنها العلماء الكثير نظرًا لعدم تفاعلها مع المادة العادية، بيد أن بعض النظريات تشير إلى أنه يمكن التقاط آشعة الطاقة العالية لجسيماتها، وهي تجربة من المنتظر أن تغيّر الكثير من قواعد نظرياتنا عن الفيزياء والكون.
“سيتم تشغيل مصادم الهادرونات صباحًا ومساءً حتى نتمكن من الحصول على النتائج، وسيكون مهمًا لنا أن ندفع بالجهاز نحو طاقات لم يعمل عندها من قبل،” هكذا صرّح أرنو مارسوييه، أحد أعضاء سِرن، “إذا ما بدأ يظهر لنا أمر مثير فإنه سيظهر على هذه الشاشات، وقد يستغرق ذلك حوالي شهرين أو ربما سنتين، لا نعرف على وجه اليقين، فلنكن صبورين.”
كان المصادم قد تأخر في العودة إلى العمل بضعف طاقته بعد تطويره على مدار عامين، نتيجة لعطل فني، وبينما تخوّف الكثيرون من تأخره أكثر من ذلك، وجد المهندسون والتقنيون قطعة معدنية صغيرة في إحدى الدوائر الكهربية كانت تتسبب في العطل، ليخرجوها ببساطة وبلدأ التشغيل دون مزيد تأخير.
بين التناظر الفائق والمادة المظلمة
تنصب اهتمامات العلماء حاليًا على النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات وإمكانية تجاوزه، وهو الذي يشرح مكوّنات المادة الأساسية في الكون عن طريق 17 جسيمًا دون الذرة؛ 12 منها تكوّن المادة و5 منها تحمل القوى التي تشكل التفاعلات الفيزيائية، والتي كان جسيم الهيجز بوزون واحدًا منها.
“في كل مرة نشغل تجربة بهذا الشكل نتوقع اكتشافًا كبيرًا لم نكن ندري عنه شيئًا في السابق، ونحن الآن بحاجة إلى ذلك أكثر من أي وقت مضى لأن الهيجز بوزون كان آخر شيء تنبأت به النظريات التقليدية، وهو ما يعني ضرورة الاتجاه نحو نظريات جديدة لشرح الظواهر التي لا نجد لها تفسيرًا حتى الآن،” هكذا قالت تارا شيرز، الأستاذ بجامعة ليفربول، والمشاركة في تجارب المصادم.
تُعَد نظرية التناظر الفائق Supersymmetry، واحدة من النظريات المتوقع لها أن تكمّل النموذج القياسي، وهي تتنبأ بوجود زوج لكل جسيم موجود بالنموذج، مما يعني مجموعة لا بأس بها من الجسيمات ليتم اختبارها في مصادمات الجهاز، والتي يأمل أنصار النظرية أن يجدوا إحداها وإلا بدأ التوجه نحو نظريات أخرى.
بالإضافة إلى ذلك، ستكون المادة المظلمة على قائمة أولويات المصادم، وإذا ما نجح الجهاز في التقاط أي جسيم من جسيمات المادة المظلمة تلك، فسيكون ربما اكتشافًا يهز عالم الفيزياء أكثر من اكتشاف هيجز، وعلى عكس هيجز الذي وضع آخر حجر في النموذج القياسي، سيفتح لنا اكتشاف المادة المظلمة بابًا جديدًا في علوم الفيزياء والكون، لا سيما وأنها مكوّنة من جسيمات لا نعرف عنها شيئًا، على عكس النموذج القياسي الذي طالما عرفنا مكوّناته.
بين هاذين المجالين الفيزيائيّين قد تتقاطع التجارب، إذ تتنبأ نظرية التناظر الفائق بوجود جسيم للمادة المظلمة، وهو جسيم ثقيل جدًا كما يعتقد الفيزيائيون وسيحتاج إلى تصادمات قوية لم تكن متاحة من قبل في مصادم الهادرونات، كما أن تفاعلها ضعيف مع المادة من حولها، مما يعني صعوبة اكتشافها، ولكنه إذا حدث سيكون بمثابة ضرب عصفورين بحجر.
المادة المضادة Antimatter أيضًا موجودة كأولولية في تجارب الباحثين، وهي المكوّنة من نظير مضاد لكل جسيم موجود في المادة العادية، حيث تقول النظريات أن التقاء جسيم بالجسيم المضاد الخاص به يؤدي إلى إبادتهما لبعضهما البعض، بيد أن تلك النظرية تثير تساؤلات كثيرين، كما يقول الفيزيائي جوناثان باترزوورث المشارك في التجارب عن كلية لندن الملكية، “إذا كان الانفجار الكبير قد خلق لنا نفس الكمية من المادة والمادة المضادة كما يقولون، ألا يعني هذا أن الكون كان ليكون قد دمّر نفسه بنفسه في وقت مبكّر جدًا؟ من الواضح لي أن هناك كمية أكبر من المادة مقارنة بالمادة المضادة، ولكننا حتى الآن نجهل السبب.”
الجاذبية هي الأخرى ستكون على أجندة العلماء، خاصة وأنها لا تتوافق مع النموذج القياسي، وتُعَد مجالًا عصيًا على الكثيرين فهمه وصياغة نظرية واضحة له منذ آخر محاولة ناجحة قام بها أينشتاين قبل قرن بنظرية النسبية العامة، وذلك لأن الجاذبية لا يوجد لها جسيم خاص من بين الجسيمات التي نعرفها، وهو ما دفع البعض للتنبؤ بوجود جسيم خاص لها باسم “جرافيتون” Graviton، والذي لم يتم اكتشافه بعد، ويطمح العلماء إلى إجراء تجارب في المصادم لاكتشافه.
على الناحية الأخرى، يقول بعض الفيزيائيون أن الجاذبية في الكون لا تحصر في الأبعاد الثلاثة التي نعرفها، ولكنها تتمدد إلى الأبعاد الإضافية التي لا يمكننا رؤيتها، مما يعني أن أشباه الثقوب السوداء الضئيلة جدًا التي تنشأ لثوان ثم تختفي أثناء تجارب المصادم يمكن أن تعطينا معلومات عن الجاذبية أكثر من غيرها، بالنظر لكون الثقوب السوداء الحقيقية في الكون هي حقول التجارب الأساسية لدراسة الجاذبية.
في كل الأحوال، سنحتاج إلى الانتظار بضعة أشهر قبل أن تأتينا أخبار سارة كأخبار هيجز وتقلب عالم الفيزياء رأسًا على عقب، ولكن الجميع على يقين بأن قطار اكتشافات مصادم الهادرونات الكبير لن يتوقف عند هيجز، كما يقول ديفيد تشارلتون، الفيزيائي من جامعة برمنغهام ورئيس مجموعة كشّاف أطلس، وهو جزء من الجهاز، “نحن بصدد الدخول إلى عالم مجهول لم تطأه قدم من قبل، وسندشن بذلك عصرًا جديدًا للعلوم.”