“انتهت باريس القديمة … إذ لا يستطيع قلب الإنسان أن يضاهي وجه المدينة في سرعة التحول”، تشارل بودليير.
في العام 1854 بدأ البارون هاوسمان في تنفيذ مخططه العملاق لإعادة بناء باريس تحت حكم الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، وربما يكون من الحكمة أن نلقي بعض الضوء على باريس التي وصل الإمبراطور إلى حكمها قبل أن نتحدث عن باريس التي بناها.
وصل الإمبراطور إلى الحكم عام 1848؛ أي بعد ستين عامًا على اندلاع الثورة الفرنسية من سجن الباستيل في قلب باريس، ولم يغادر الحكم إلا بعد أن أسرته الجيوش الألمانية في معركة سيدان، 18 عامًا من السيادة المطلقة على الأراضي الفرنسية، مع سيطرة كاملة على الأمن داخل العاصمة، هذه العاصمة لم تكن بمدينة مختلفة عن باريس التي تتابع على حكمها جمهوريتان وإمبراطورية ومملكتان في الستين عامًا التي سبقته فقط، وهي أيضًا ذات المدينة التي استغرقت قرابة المائة عام – بعد توليه حكمها – لتتمخض عن حركة شعبية قادرة على تغيير نظام الحكم مع الجمهورية الفرنسية الخامسة في خمسينيات القرن الماضي.
ما الذي حدث تحديدًا لهذه المدينة لتتحول من مقبرة لنظم الحكم المختلفة والمتتابعة إلى عاصمة مستقرة على مدى فترات طويلة، وإلى مدينة آمنة لا ترتج بهتافات الاعتراضات السياسية وأعمال العنف؟
من بين أسباب وتغيرات عدة مرت على هذه المدينة، أعتقد في محورية وفرادة خطة هاوسمان في إعادة الإعمار والبناء للمدينة وارتباطها الوثيق بتحول نوعي في طبيعة الممارسات السياسية للدولة على رعاياها.
اعتمدت خطة البارون على مجموعة واضحة وبسيطة من المبادئ والأهداف، إلا أن أثر هذه المبادئ لا يمكن وصفه بالبساطة بأي حال من الأحوال، كان الهدف الرئيسي هو تحويل المدينة ذات الأحياء المزدحمة والتي تختلف خصائصها وصفاتها من مكان لآخر إلى كلية واحدة شديدة الارتباط يسهل التنقل داخلها؛ ويتحقق ذلك عن طريق ربط كافة الأجزاء ببعضها عن طريق شبكة من الشوارع الواسعة التي يتفرع منها مجموعة من الشوارع الأقل اتساعًا بشكل هندسي واضح، كما توازى مع ذلك التأكيد على ربط المدينة بشبكة مركزية للصرف الصحي والمياه الجارية تصل إلى كل مكان، كل السابق مع وضع أكواد واضحة لطبيعة التصميمات المعمارية للمباني حول هذه الشبكات ولأماكن وطبيعة المساحات العامة التي يمكن للناس التجمع بها.
وثق البارون مجموعة من الأولويات في حديثه عن خطته وهي: تسهيل حركة البضائع وقوات الأمن ووصولها لأي مكان في المدينة بأسهل وأقصر الطرق الممكنة، ضمان وصول المياه الجارية بشكل مستمر لأكبر مساحة ممكنة من المدينة لضمان الصحة العامة وعدم انتشار الأوبئة، وترتب على ذلك بالضرورة أن المساحات العامة كانت بالضرورة متقاطعة مع مسارات حركة قوات الأمن وسلطة الدولة بشكل رئيسي وسلس.
طرح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو رؤية جديدة للسلطة (أو القوة بشكل أكثر دقة) في عصر الحداثة مشبهًا إياها بالدماء، أي أنها تسري وتتدفق بشكل مستمر في جسد المجتمع ضابطة أداءه وأفعاله وفقًا لحدود المقبول من السلطات، كل هذا بدون الحاجة إلى ممارسة السلطة من قِبل هيئة معينة على قمة المجتمع، بهذا الشكل تستطيع كافة مكونات المجتمع من أفراد وجماعات وحتى المدينة ذاتها أن تضبط أداءها وفقًا لقواعد السلطة المتغلغلة في شرايين وجودها بشكل تلقائي يعلم أن لا مفر من الأعين التي تراقبه وإن لم تكن هناك.
بأخذ السابق في عين الاعتبار، يمكن تفهم هوس البارون بضرورة شبكات الطرق والصرف في الخطة، فوجود هذه الشبكات يعني بالضرورة وجود السلطة بشكل مستمر ودائم وإن لم يظهر ممثليها في كافة أنحاء المدينة، يعني هذا بالضرورة أن المساحات العامة من أسواق وميادين وحدائق حيث كان يمكن للمجال العام والرأي الجمعي أن يتشكل بشكل ملموس خارج أحاديث الناس وأفكارهم وصحفهم في صورة نقاشات مباشرة وتظاهرات، قد أصبحت على نقاط تقاطع هذه الشبكات، أي بين فكي السلطة في كلمات أخرى.
“لقد تمكنت من بقر بطن باريس القديمة، الجانب العصي والثائر من المدينة”، البارون هاوسمان متحدثًا عن جادة سابستوبول في مذكراته.
عادة ما يستخدم العاملون في مجال الدراسات العمرانية مصطلح “النسيج العمراني” في محاولة لوصف كلية المكونات البشرية والجمادات في منطقة عمرانية ما كمدينة أو حي، ما يميز هذا المصطلح عن غيره هو قدرته على التعبير عن خصوصية وتعقيد الواقع العمراني بشكل وافي، فالظاهرة العمرانية تتميز عن باقي الظواهر الاجتماعية بتقاطع البُعد المادي من مباني وطرق ومدن وخطط مع البُعد الاجتماعي من بشر وجماعات، وتقاطع كل مكون من كل من الأبعاد السابقة مع الآخر يعني تكون نسيج بالغ التعقيد والفرادة يشبه السجاد اليدوي الصنع، وتفرض شدة تعقيد وفرادة كل نسيج عمراني عن الآخر على الدارس أخذ عدد لانهائي من المعطيات في الاعتبار أثناء دراسة أي حالة، كالثقافات المحلية والطبيعة الجغرافية .. إلخ.
هذه الطبيعة شديدة التعقيد والتراكب للنسيج العمراني تمتاز بقدرتها على إظهار طبيعة أولويات أي مخطط عمراني بوضوح بمجرد النظر إلى مقترحه أو خطته لمكان معين؛ فالعدد الضخم للغاية لمكونات النسيج يفرض بالضرورة عملية اختيار لمجموعة من الأولويات، وتخير المخطط لبعض المكونات كالتجارة أو الاقتصاد على حساب غيرها كالتراث الثقافي أو دعم التضامن الاجتماعي وتقليل الفروق الطبقية الواضحة، هو بالأساس ما يحدد توجهات وتحيزات المخطط، وهو أيضًا ما يحدد ما ستكون عليه طبيعة المدينة المخططة إلى حد ليس بقليل بعد تنفيذها.
التخطيط العمراني (في صورته الحالية كعلم وممارسة) هو منتج حداثي بامتياز، عملية منهجية لمحاولة ترتيب المعرفة المتراكمة عن مدينة أو حي معين بشكل واضح يمكن عليه أن يتم البدء في حل مشاكل المكان واحدة تلو الأخرى في صورة خطة متكاملة، إلا أن كونه حداثي يعني بالضرورة استبطانه لمجموعة القيم الحداثية فيما يخص التقدم اللانهائي وأولوية النمو الاقتصادي والمادي على أي من الاعتبارات الثقافية والاجتماعية، بالطبع نحن لا نتحدث بشكل ينفي الجهود المستمرة لإدراج هذه الاعتبارات كأولويات في عمليات التصميم، من قِبل أسطول المخططين والمعماريين من كافة المدارس التي تعارض مثل هذا التوجه الحداثي البحت على مدار المائة عام الأخيرة، إلا أن الحديث هنا عن صفة متأصلة ومستبطنة في التخطيط والتصميم كعلم بالأساس، وخير مثال على السابق ذكره ما تبع النمو الاقتصادي والعمراني المخطط في كافة الدول من تحلل لأدوار الجماعات الوسيطة والمجتمع بكافة مكوناته في مقابل أدوار الدولة ورأس المال.
حدد المؤرخ رالف تيرنر أربعة صفات تميز التجمعات المدنية الصناعية الحديثة عن غيرها: تفكيك الانتماءات المحلية والتراث، ثقافة تقديس التشابه والانتظام لا الاختلاف والتميز، التنوع الشديد لنشاطات الفريد، وإعادة تشكيل حقوق الملكية.
كل السابق يعني بكلمات أكثر بساطة تفتيت التجمعات السكانية المبنية على مجموعة من الانتماءات المباشرة كالقرابة أو النسب وتراث يحكم حياتها اليومية بشكل كبير، وتحويل الفتات الناتج عن عدد كبير من هذه التجمعات إلى كيان أكبر يقدس ويؤمن بمجموعة من القيم المنتظمة التي لا تختلف من مكان لآخر داخل التجمع قدر الإمكان، وفي هذا السياق تصبح قيم التعاقد والتبادل الاقتصادي والتقدم (المعروفة بالجيزيلشافت) هي مجموعة القيم الحاكمة نتيجة لتفتيت التجمعات التراحمية (الجيماينشافت) المتنوعة والمتعددة وتحويلها إلى صرح واحد ضخم مضبوط الأداء والإيقاع والسرعة.
استطاع البارون أن يبقر بطن باريس القديمة باستخدام شبكة شوارعه الهندسية، وبهذا الشكل تحديدًا انتهت قدرة باريس الثورة على توليد المقاومة والصرخات التي طالما غيرت أنظمة، كل هذا لم يحدث عن طريق قمع عسكري بجيش ضخم، وإنما بخلق إمكانية لتواجد هذا الجيش في عمق ظهير المقاومة في أي لحظة، بالتوازي مع تفريغ هذا الظهير من خصوصيته وخصوصية ساكنيه في حوض باريس الجديدة المنتصرة على أهلها قبل أعدائها.
وبهذا الشكل تحديدًا مازالت الديكتاتوريات العربية المحلية تحاول ضبط أداء سكان مدنها بتغيير الملامح العمرانية لها، وإن كانت نتيجة مثل هذه المحاولات تتفاوت في نجاحها وفشلها، وفي منهجيتها وفوضاها، وقد يبدو كل من هدم الحكومة البحرينية لدوار اللؤلؤة في محاولة لقتل الاعتراض من أكثر هذه المحاولات رمزية وضوحًا، تمامًا كما محاولات السلطات العسكرية سابقًا لخنق الثورة في ميدان التحرير ببناء الأسوار الخرسانية العالية في مداخله.
بينما يحتاج الوصول للمحاولات الأكثر نجاحًا ومنهجية العودة إلى الوراء قليلاً واعتبار سياسات بناء الجامعات في مدن الأقاليم المصرية في عهد عبدالناصر، ودور ذلك في خلق طبقة وسطى متعددة المستويات تقتات بالأساس على فشل الدولة وتضخمها تحت حكم شبه عسكري، حكم لا يحتمل تواجد مجتمع متماسك يستطيع أن يدافع عن نفسه وحرياته ضد الدولة المترهلة.
وهذه الدولة العسكرية المترهلة وعقليتها التي تقتات على جحافل من أشباه الأكاديميين والتكنوقراط هي وحدها من قد يجد في بناء عاصمة سياسية محاطة بتجمعات سكنية مرفهة لرجال الدولة وأصدقائهم من رجال الأعمال حلاً، حتى وإن كان هذا الحل مجرد حل لما تواجهه من عناء في قهر مواطنيها، ولكن هذا موضوع أكبر بكثير سيناقش في مقال منفصل.