أصدرت السلطات في تركيا قرارًا بحظر 166 موقعًا إلكترونيًا، من بينها مواقع التواصل الاجتماعي تويتر ويوتيوب، وذلك على خلفية نشر صور المدعي العام محمد سليم كيراز الثلاثاء الماضي أثناء عملية احتجازه من قبل مسلحين ينتميان لحزب جبهة التحرر الشعبي الثوري، والتي انتهت بمقتل المدعي العام والمهاجمَين، وقد بدأ بالفعل عدد من مزودي خدمة الإنترنت بتنفيذ القرار اعتبارًا من بعد ظهر اليوم الإثنين، كما فتحت النيابة العامة بإسطنبول تحقيقًا مع عدد من وسائل الإعلام التركية بتهمة الإرهاب والجريمة المنظمة لنشر الصور، ووصفها دَاوُدَ أوغلو بالعمل”غير الأخلاقي”، واتهم وسائل الإعلام بنشر دعاية سياسية إرهابية، كما منعها من تغطية مراسم تشييع المدعي العام، ويبدو أن ذلك ما هو إلا استكمال للحملة الأمنية التي بدأتها الحكومة قبل أشهر والتي طالت عدد من وسائل الإعلام والصحافيين ورؤساء التحرير والتي كان آخرها الحكم بالسجن 11 شهرًا على رساميّ كاريكاتير يعملان في المجلة الأسبوعية Penguen بتهمة الإساءة لرئيس الجمهورية.
من جهة أخرى، وقّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 3 من أبريل الجاري على قانون أمني جديد، أطلق عليه حزب الحرية والعدالة الحاكم اسم “الحزمة القانونية لحماية الحريات”، القانون الذي يتضمن 69 بندًا قوبل بمعارضة شديدة من قِبل الأحزاب القومية واليسارية خلال مناقشته في البرلمان التركي في شهر فبراير الماضي، انتهت بعراكٍ بالأيدي، وقد تم التصويت لصالح القانون في 27 من شهر مارس المنصرم.
وبحسب القانون الجديد، يحق للشرطة توقيف الأشخاص المشتبه بهم 48 ساعة عوضًا عن 24 ساعة دون المثول أمام قاضٍ، وتملك الشرطة صلاحية التفتيش دون الحصول على أمرٍ من قبل قاضٍ أو مدعي عام، كما يتيح القانون للشرطة صلاحية استخدام الأسلحة النارية ضد من يستخدم أو يحاول استخدام قنابل المولوتوف أو المتفجرات أو المواد القابلة للاشتعال وغيرها، ويصنف القانون الجديد المقاليع والكريات الحديدية والمفرقعات النارية على أنها أسلحة، ما يجعل استخدامها خلال التظاهرات جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن لمدة تصل إلى 4 سنوات، ويعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 3 سنوات كل من يشارك في تظاهرة تحمل شعار أو لافتة أو زي أي من الأحزاب المحظورة في تركيا، أما إخفاء الوجه بشكل جزئي أو كلي خلال التظاهرات فيعرض صاحبه بحسب القانون الجديد للسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، ويمنح القانون الأمني الشرطة صلاحية التنصت على المكالمات الهاتفية دون إذن من المحكمة، ويتيح نقل بعض صلاحيات المدّعين إلى الرؤساء الإداريين المعيّنين من قبل الحكومة، كالمحافظين.
وفي هذا الإطار، تقول الحكومة التركية برئاسة أحمد داود أوغلو إنها تسعى إلى توسيع صلاحيات الشرطة قبل موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في 7 من شهر يونيو المقبل من أجل الحفاظ على النظام العام وسلامة المواطنين، أما المعارضين للقانون فيرون بأنه يحدّ من الحريات العامة ويمنح الشرطة صلاحيات واسعة النطاق لتبرير القمع والاعتداء على التظاهرات المعارضة للسلطة.
وكانت تركيا شهدت العام الماضي تظاهرات حاشدة بدعوة أطلقها حزب الشعوب الديمقراطي HDP المناصر للقضية الكوردية، وذلك على إثر اتهام الحكومة التركية بحصار بلدة كوباني (عين العرب) على الحدود مع سوريا، التي شهدت معارك عنيفة بين القوات الكردية وتنظيم داعش، وبإغلاق الحدود أمام المقاتلين الكرد وعدم السماح لهم بالمشاركة في قتال داعش والدفاع عن كوباني، وقد أدت المواجهات مع الشرطة التي طالت مختلف المدن التركية إلى مقتل العشرات من المتظاهرين الكرد، ويتخوف الكرد في تركيا من تكرار المشهد نفسه اليوم، خاصة وأن محادثات السلام التي تجريها الحكومة التركية منذ أواخر عام 2012 مع القائد الكردي عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكوردستاني المعتقل في السجون التركية منذ عام 1999، لاتزال تراوح مكانها دون أي تقدم ملموس، ناهيك عن أن أحداث حديقة غزي التي بدأت بتظاهرات لمناصري الطبيعة في عام 2013 رفضًا لبيع الأملاك العامة وخصخصتها وليس انتهاءً بمقتل عدد من المتظاهرين وإلقاء القبض على العشرات منهم وفضائح الفساد التي طالت أردوغان ونجله وعدد من الوزراء في حكومته السابقة، لاتزال تلقي بظلالها على المشهدين الأمني والسياسي في البلاد، إذ شهدت تركيا في 30 من مارس والأول من أبرسل أحداثًا أمنية متنقلة خضّت الشارع التركي.
وكان الأتراك قد استيقظوا نهار الثلاثاء الماضي على انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي طال كافة أنحاء البلاد ودام حتى الساعات الأولى من المساء، وفي الأثناء، بدأت أولى الأحداث الأمنية مع انتشار أنباء عن احتجاز المدعي العام في إسطنبول محمد سليم كيراز على يد مسلحين ينتميين لحزب جبهة التحرر الشعبي الثوري المحظور، هما شفق ياليا وباهتيار دورويول، على خلفية مقتل الطفل بركين إلفان (15 عامًا) على يد الشرطة خلال أحداث حديقة غزي، وكانت أبرز مطالب المسلحَين الكشف عن أسماء عناصر الشرطة الثلاث المتورطين في مقتل إلفان وتقديمهم اعترافًا علنيًا ومحاكمتهم في “محكمة الشعب” وتبرئة كافة المشاركين في مسيرات تضامنية مع إلفان، إضافة إلى تأمين ممر آمن لهما للخروج من المحكمة، وقد انتهت عملية الاحتجاز، التي وصفها أردوغان وداود أوغلو بالعملية “الناجحة”بمقتل المدعي العام والمسلحين، الأمر الذي أثار انتقادات واسعة من قبل المعارضة بسبب مقتل المدعي العام عوضًا عن تحريره.
الفتى باركين إلفان توفى في 11 من مارس عام 2014 بعد 269 يوم على دخوله في غيبوبة جراء إصابته بقنبلة مسيلة للدموع أثناء خروجه لشراء الخبز خلال تظاهرات حديقة غزي، وقد عُيِّن كيراز كمدعٍ عام في القضية قبل حوالي ستة أشهر، أما حزب جبهة التحرر الشعبي الثوري فهو حزب ماركسي تأسس في نهاية السبعينات يؤمن بالعمل الثوري المسلح من أجل تحرير تركيا من سيطرة الإمبريالية والرأسمالية العالمية المتمثّلة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو مصنف على لائحة الإرهاب من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ولم يكد الشارع التركي يستفيق من ذلك الحادث حتى توالت في اليوم التالي حوادث أمنية أخرى، عندما قام مسلحان باقتحام أحد المكاتب التابعة لحزب العدالة والتنمية بإسطنبول بعد إخلاء المبنى، ورفعا علمًا تركيًا يظهر عليه سيف، وقد تمكنت الشرطة التركية من إلقاء القبض على المنفذين دون وقوع إصابات، وبعد ساعات قليلة، وقع هجوم مسلح على المركز الرئيسي للأمن العام في إسطنبول من قِبل انتحارية يشتبه بانتمائها لحزب جبهة التحرير الشعبي الثوري، إلا أن الشرطة تصدت للهجوم وأردتها قتيلة، كما ألقت بالقبض على شخص آخر كان برفقتها أثناء محاولته الفرار.
تأتي هذه الأحداث قبل أسابيع قليلة على موعد الانتخابات النيابية المقررة في السابع من شهر يونيو المقبل، حيث يسعى الرئيس التركي إلى حصد الأغلبية النيابية التي تمكنه من المضي قدمًا في تعديل دستوري يمنحه صلاحيات تنفيذية كرئيسٍ للجمهورية، ومع اقتراب موعد الانتخابات، يبدو أن الأوضاع الأمنية والسياسة في البلاد تتجه نحو مزيدٍ من التوتر والتصعيد، وفي الأثناء، تحاول الأطراف السياسية المتخاصمة توظيف تلك الأحداث لأغراض انتخابية بهدف التأثير على قرارات الناخبين، ففي حين استغلت الحكومة التركية الأحداث للقول إن هناك مؤامرة خارجية بأدوات محلية لزعزعة أمن البلاد، اتهمت المعارضة الحكومة بالتقصير وبعدم الإمساك بزمام الأمور في البلاد.
وعقب تلك الحوادث، قال أردوغان إن احتجاز المدعي العام واقعة ليست بسيطة ويجب الوقوف عليها وتحليلها جيدًا وأخذ العبر منها، كما أعلن أنه يتعين على الحكومة استبدال حراس الأمن التابعين للشركات الخاصة بعناصر من الشرطة في العديد من المؤسسات كالمحاكم والمستشفيات وملاعب كرة القدم، أما داود أوغلو، فاعتبر أن عملية احتجاز المدعي العام هي هجوم على القضاء والديمقراطية في البلاد وعلى الشعب التركي بأكمله وتوقع بأن تشهد تركيا أعمال تحريض في الفترة المقبلة قبل الانتخابات، وتعهد بأن حكومته لن تظهر أي تسامح حيال التظاهرات غير المرخصة أيًا كانت وأيًا كان المقصد منها.
وبالفعل، تشن الشرطة التركية منذ حصول عملية الاحتجاز حملة أمنية واسعة ألقت خلالها بالقبض على العشرات من الشبان للاشتباه بارتباطهم بحزب جبهة التحرر الشعبي الثوري، فيما كل التوقعات تشير إلى أن تركيا سوف تشهد خلال الأسابيع القليلة المقبلة هجومًا شرسًا على المعارضين للسلطة وعلى الحريات العامة تحت ذريعة الحفاظ على الأمن في البلاد.