لم تكن موجة الربيع العربي لتأتي بذات السلوك ولتقطف نفس النتائج في مختلف الدول التي بلغها مداها (الموجة)، فبالإضافة للدول التي شهدت خلعًا لرؤوس الأنظمة الجاثمة فيها، تعاملت أنظمة أخرى بذكاء أكبر محاولة امتصاص هذه الموجة عبر بعض الإصلاحات أو الوعود.
في الجزائر مثلاً، تعهد الرئيس بوتفليقة بجملة من الوعود كان أبرزها تعديل الدستور لتتماشى مواده مع الوعي الجديد الذي شكّله الحراك العربي كما تعهد بأن يتم عرض التنقيحات على الاستفتاء حتى يحظى بالشرعية الشعبية، وبعد مرور أربع سنوات ونصف، بدأت الملامح الجديدة لدستور الجزائر بالتجلي رغم تباين مواقف الأطراف السياسية الجزائرية المختلفة حولها.
أشهر من المشاورات التي لم تشارك فيها المعارضة
انطلق الحراك الفعلي في علاقة بتحوير الدستور سنة 2014، ثلاثة سنوات بعد وعد بوتفليقة، عبر عدد من المشاورات واللقاءات التي أدارتها رئاسة الجمهورية الجزائرية، وقد تضمنت مقترحات التعديل 47 مادة تتعلق بالتداول الديموقراطى على السلطة ومبادئ السلم والمصالحة الوطنية وحماية الاقتصاد الوطنى والمساواة بين الرجل والمرأة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية الصحافة وتحديد الولاية الرئاسية إلى واحدة من خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط مع زيادة صلاحيات الوزير الأول (رئيس مجلس الوزراء) ومهامه، مع إبقاء قيادة القوات المسلحة ووزارة الدفاع ورسم السياسة الخارجية في يد الرئيس، فضلاً عن صلاحية أعضاء مجلس الأمة (مجلس النواب الجزائري) باقتراح مشاريع قوانين للأحكام الدستورية الجديدة، وشملت كذلك محاربة الرشوة والفساد ومنع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس دينى أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي.
واستجابة لدعوات الحقوقيين نصت المسودة على أن توقيف المشبوهين في مراكز الشرطة لا يمكن أن يتجاوز 48 ساعة.
ومن المقترحات الجديدة التي تصب في صالح أحزاب المعارضة تخصيص غرفتي البرلمان جلسة شهرية لمناقشة جدول الأعمال الذي تعرضه مجموعة برلمانية من المعارضة كما يخصص المجلس الشعبي الوطني جلسة في كل دورة لمراقبة أعمال الحكومة بحضور الوزير الأول وجوبًا.
ودعمت التعديلات المقترحة من صلاحية مجلس الأمة الذي كانت هناك دعوات لإلغائه، حيث صار يحق له اقتراح المبادرة بالقوانين إذا قدمها 20 عضوًا في المجلس، وأجمع المشاركون في المشاورات على ضرورة تبني النظام شبه الرئاسب وهو ما رفضته المعارضة التي نادت بنظام برلماني.
ورغم أن الهدف المعلن أن هذه المشاورات نُظِمت بغرض إشراك كافة شرائح المجتمع والوصول إلى توافق حول المسائل الجوهرية وضمان فعالية حقيقية للأحكام الدستورية الجديدة، إلا أنها دارت دون المعارضة التي رفضت أغلب أطيافها المشاركة فيها بدعوى أن “النظام يريد من خلالها تجاوز الأزمة الحالية وليس حلها”، فيما لبت أحزاب الموالاة وعدة شخصيات الدعوة للمشاركة.
كما أكد قادة المعارضة في عدة مناسبات أنهم غير معنيين بنتائج مشاورات الرئاسة حول تعديل الدستور.
تراجع عن الاستفتاء: المعارضة تستنكر والموالاة تبرر
بحسب الأخبار الواردة من الجزائر، يبدو أن النسخة النهائية أصبحت جاهزة وأهم ما فيها الرجوع إلى مرحلة ما قبل تعديل 2008 (الذي اعتبر غير دستوري نظرًا لعدم تمريره على الاستفتاء رغم شمول التغيير نقطة هامة وهي السماح بولاية ثالثة)، وبالتالي سيسمح للرئيس الجزائري مستقبلاً أن يعيد ترشحه لمرة واحدة.
وعلى عكس ما وعد به بوتفليقة، لن تمرر هذه النسخة على الاستفتاء وسيتم الاكتفاء بمصادقة الغرفتين البرلمانيتين التي يسيطر النظام عليها، ويبدو أن بوتفليقة ينتظر إيجاد مخرج قانوني يشرعن به هذا النكوص.
وبحسب محللين، يعود تراجع بوتفليقة عن الاستفتاء إلى تنامي دور المعارضة السياسية في الشارع الجزائري، خاصة بعد التلاحم المسجل منذ أسابيع في الجنوب بين قيادات تنسيقية الانتقال الديمقراطي المعارضة، وبين نشطاء المجتمع المدني الرافض لمشروع الغاز الصخري، بالإضافة إلى خشية بوتفليقة وهو مقبل على التعديل الدستوري الثالث، بعد 2002 و2008، أن يشهد الاستفتاء عزوفًا شعبيًا بسبب البرودة التي ميَزت تعامل الناخبين مع الاستحقاقات الماضية، فيحرم من “المصداقية” التي يريدها.
وكما كان متوقعًا، نددت المعارضة بهذا التمشي حيث شككت حركة النهضة في جدوى تعديل الدستور إن كان سيمرر عبر أروقة البرلمان، انتقد أمين عام حركة النهضة محمد ذويبي الطريقة التي يتم بها تحضير مسودة الدستور الجديد، والتي لا تتماشى حسب رأيه مع الوضع العام للبلاد، وما يطلبه المواطن من حاجات يومية، مؤكدًا، بأن حركة النهضة، ترفض طريقة تعديل الدستور، ولا تزكيه بأي شكل من الأشكال، خاصة وأنه سيعرض على البرلمان، الذي لا يتمتع بالشرعية.
من جهتها، انتقدت الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون شرعية البرلمان الحالي، واعتبرته غير مفوض للبث في قضايا حاسمة بحجم تعديل الدستور الذي يجب إرجاع الكلمة فيه للشعب، وطالبت بضرورة جعل الهيئة التشريعية أقوى من التنفيذية، وجعل الحكومة مسؤولة أمام النائب في الدستور القادم.
من جهة أخرى، قال رئيس أمل تجمع الجزائر، عمار غول، إن مشروع تعديل الدستور الذي سيطرحه الرئيس على الأمة، سيكون في مستوى تطلعات من وصفهم بـ “الخائفين” منه، حيث ذكر أنه سيتضمن تعزيز للحريات الديمقراطية والفصل بين السلطات والتوجه نحو اقتصاد متنوع.
وأبدى غول تفاؤل حزبه من المقترحات التي سيتضمنها مشروع الدستور المقبل، حيث أكد أنه سيكون في مستوى تطلعات من وصفهم غول بـ”الخائفين” منه – أي مستودة الدستور – في وقت طالب الممانعين عن المشاركة للتدارك وتعزيز ما سيطرح من مقترحات، حيث واصل قوله في هذا الشأن “لما تقدم مسودة تعديل الدستور أي طرف كان بإمكانه تقديم مقترحاته وتدعيم ما هو مقترح”.
بات في حكم المؤكد أن بوتفليقة مصمم على تجنب تمرير مشروع التعديلات على الاستفتاء الشعبي، وبالنظر إلى المواقف منها، يبدو أن هذه التغييرات التي طال انتظارها لن تحقق المرجو منها من خلق حالة من الإجماع الوطني ليكون دستورًا تأخرت ولادته ليولد ميتًا.