يخطئ كثيرون حين يعتقدون أن داعش مجرد فصيل إسلامي صِرف، ظهر وتمدد بنشاطه المتطرف وقدرته على جلب الجهاديين من شتى أنحاء العالم، كما يخطئ أيضًا من يعتقد أن هذا التوسع السريع للتنظيم لحظة انتصار للإرهاب بالفعل، بينما الواقع هو أن ظاهرة داعش غطاء لعودة قوية وغاضبة وشديدة التركيب للقوة العربية السنية التي أقصيت من الهلال الخصيب بشكل شبه كامل، بهيمنة الشيعة في العراق، ونظام الأسد في سوريا، وحزب الله في جنوب لبنان، مع تواجد هش للقوة السنية، العلمانية بشكل كبير في لبنان، ليختفي سياسيًا الوجود الأصيل والتاريخي للعرب السنة.
عراقيّو داعش المجهولون
حين اتجه أبو حمزة، أحد ثوار سوريا، إلى صفوف الدولة الإسلامية، كان يعتقد أنه على موعد مع تنظيم إسلامي صِرف يعج بآلاف الجهاديين القادمين من شتى أنحاء العالم، ولكنه وجد نفسه في النهاية تحت إشراف أمير عراقي، ليتلقى الأوامر من مجموعة عراقيين لم يفصحوا عن هوياتهم، وحين اختلف معهم ورفض تنفيذ أوامرهم، تم اعتقاله ووضعه تحت مراقبة رجل عراقي ملثم.
طوال فترة وجوده في داعش، والتي حكم فيها قرية سورية صغيرة، لم ينجح أبو حمزة في التعرف على هويات العراقيين، والذين عملوا بأسامي مزيفة في أحيان كثيرة، ولكنه عرف عمن عمل معهم أنهم، وبلا استثناء، ضباط عراقيون سابقون خدموا تحت حكم صدام حسين، وحتى العراقي الملثم الذي قبض عليه كان موظفًا لدى جهاز الاستخبارات العراقي السابق.
لم تكن رواية أبو حمزة، الذي فر إلى تركيا منذ أشهر، حالة خاصة، بل إن الكثيرين غيره يشيرون لنفس الواقع على الأرض، وهو أن غالبية، إن لم تكن كل، قيادات داعش، بما في ذلك اللجان القتالية والأمنية ومن يُعرَفون بالأمراء، هم ضباط عراقيون سابقون، وهم من يجلبون للتنظيم الخبرة العسكرية والتخطيط الذي سمح لداعش بالتمدد السريع خلال العام الماضي، وكذلك خبرات الالتفاف على العقوبات الدولية في زمن صدام لتشغيل شبكات تجارة النفط التي تجلب منها داعش رأس مالها.
في سوريا، على سبيل المثال، هناك نائب عراقي لأي أمير سوري، وعادة ما يكون مضطلعًا بالمهام الفعلية على الأرض تحت مظلة حكم الأمير الشكلي، طبقًا لما يقوله أبو حمزة “كل صناع القرار عراقيون ومعظمهم ضباط سابقون، وهم من يخططون للمعارك على الأرض ويضعون التكتيكات، ولكنهم لا يحاربون بل يضعون المقاتلين الأجانب المستجلبين من الخارج في الصفوف الأولى في المعارك”، هكذا قال أبو حمزة.
اجتثاث البعث وجذور داعش
في عام 2003، أشرف بول برِمر على قانون اجتثات البعث، والذي تم بموجبه منع 400.000 عضو بالجيش العراقي القديم من العمل بأي جهة حكومية أو الحصول على معاشات، مع قدرتهم على الاحتفاظ بسلاحهم، وهو ما يعني بالطبع أنهم كانوا ليلعبوا دورًا في أي تمرد أو انتفاضة ضد الحكام الجدد، لاسيما في السنوات الأخيرة التي ازدادت فيها هيمنة الشيعة على مؤسسات الدولة والجيش وإقصاء السنة بشكل شبه كامل من كعكة العراق السياسية والاقتصادية.
لم تكن خبرات هؤلاء البعثيين خافية على أحد، وقد ظهرت بقوة أثناء تمرد تنظيم القاعدة في العراق حيث قدموا الدعم له، قبل أن ينجح الأمريكيون عن طريق الصحوات في احتوائه وضرب القاعدة، وهو ما اعتقدوا معه أن قوة البعثيين قد انتهت لصالح اندماج العرب السنة في النظام الجديد، بيد أن سياسات المالكي بعد رحيل الأمريكيين واندلاع الثورة السورية من ناحية أخرى، قد فتحا آفاقًا أكبر للعرب السنة لاستعادة وضعهم السابق بشكل جعل اللعبة السياسية العراقية غير ذات جدوى.
بالفعل، وبصعود أبي بكر البغدادي وتنظيمه الجديد، وجد البعثيون ساحة خصبة للعودة، في نفس الوقت الذي دشن فيه البغدادي سياسة اجتذاب كل الضباط العراقيين السابقين للانضمام له، ليزودوه بخبرات الإدارة اليومية والإستراتيجية العسكرية التقليدية التي يفتقدها، بينما يزودهم هو بغطاء الإسلام الجهادي الذي سيجلب لهم أعتى مقاتلي الحروب غير الموازية الذين يمكن لهم الوقوف بوجه ميليشيات الشيعة، وهي الحروب التي لا قِبَل للبعثيين بها.
“رأيته آخر مرة عام 2009، وكان يعاني ماديًا بشدة فأعطيته بعض الأموال، لو أن أحدًا قد احتواه حينها وأعطاه وظيفة وراتبًا لما ذهب إلى داعش”، هكذا يقول الدليمي، “هناك المئات والآلاف مثله من أفضل ما أنجب الجيش العراقي، وهم يقودون العمليات العسكرية الآن لصالح داعش على الأرض، ولذلك يُظهِر التنظيم تفوقًا عسكريًا واستخباراتيًا”.
من يستخدم من؟
بينما يقول البعض إن البعثيين يستخدمون داعش، يبدو أن هناك مخاوف من أن الواقع يشير إلى العكس، إذ تُظهِر الأحداث حتى الآن قدرة داعش على التخّلص من بعض العناصر البعثية التي اعتمدت عليها بعد أن استفادت منها، في إشارة إلى احتمالية توسع التنظيم الجهادي في المستقبل دون الحاجة إليه، والذي تدرك قيادات التنظيم قدرته على على قلب الموازين في أي لحظة وتعمل لخبرته الاستخباراتية ألف حساب حتى رغم تحالفهم الحالي معه.
“ضباط الاستخبارات السابقون هم أعين وآذان داعش، ويتمتعون بقوة كبيرة، ولا يتفاعلون مباشرة مع المقاتلين الأجانب، بل عن طريق شبكات دقيقة من الوسطاء مُشكلة من موظفي الاستخبارات الذين تم تهميشهم بعد غزو العراق، وهم في الحقيقة غير مهتمين بأيديولوجيا داعش نهائيًا، ويعملون بنفس العقلية البعثية السرية والتنظيمية لاستعادة قوتهم السابقة ليس إلا”، هكذا يقول أبو حمزة.
قد يكون هذا بالفعل مخيفًا لداعش، كما يقول أحد الجنرالات، والذي شارك في غزو الكويت عام 1990، وانضم لداعش قبل أن يهرب إلى أربيل بعد محاولات إقصاء البعثيين من داعش تدريجيًا كما يقول، وقد كانت أولى بوادر هذا التوجه ما جرى مع جيش رجال الطريقة النقشبندية الذي رحب بصعود داعش ونسق معها، ثم تم إقصاء قوته بعد وقوع الخلافات بينهما لاحقًا، أضف لذلك الأنباء التي انتشرت عن مقتل أبي مسلم التركماني وأبي أيمن العراقي، أبرز معاوني أبو بكر البغدادي، وهم ضابطان سابقان بالجيش، ويُقال إنه تم التخلص منهما في إطار حملة تخفيف قبضة البعثيين على التنظيم.
ما إذا كانت داعش ستنجح في التخلص من البعثيين أم سينجحون هم مع الوقت في تثبيت سلطانهم السياسي هو أمر ستكشف عنه السنوات المقبلة، بيد أن ما جرى في الموصل حين انهارت الإدارة اليومية للمدينة إثر دخول داعش، ثم عادت للحياة مع سيطرة البعثيين على مؤسساتها يشي بأن الضباط العراقيين لا بديل عنهم، وأن المقاتلين الأجانب مهما بلغت قوتهم سيظلون غريبين عن الأرض وأهلها، وأن قوة داعش مرهونة فقط بلحظات المواجهة مع سلطان الشيعة في العراق أو سلطان الأسد في سوريا، أما على المدى البعيد، فالموازين ستميل لصالح قوة العرب السنة السابقة الممثلة في قيادات البعث، والتي ستفضلها على الأرجح قبائل العرب السنة كما فضلت احتواء الأمريكيين على القاعدة.