رغم أن تأسيسها يعود إلى سنة 1972 وأن الإعلان رسميًا عن نفسها يعود إلى سنة 1981، انتظرت حركة النهضة اندلاع الثورة التونسية لتحصل على اعتراف الدولة بها كحزب سياسي مدني، ولئن خاض هذا الحزب المحافظ معارك كبرى مع نظامي بورقيبة وبن علي لمدة تزيد عن الثلاثة عقود، مثلت فترة ما بعد الربيع العربي تحولاً هائلاً في تموقعها السياسي من قوة رفض للنظام الديكتاتوري إلى قوة حكم خاصة بعد قيادتها للائتلاف الحكومي الذي أفرزته انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011 ثم مشاركتها في الائتلاف الذي يحكم البلاد اليوم إثر انتخابات 2014.
تستعد الحركة لعقد مؤتمر عاشر خلال هذا الصيف بعد أن أقر مجلس شوراها أولويته على حساب مؤتمرات تجديد الهياكل المحلية والوسطى، مؤتمر أقره المؤتمر التاسع سنة 2012 ليحسم فيه العديد من المسائل التي رُحلت إليه والتي لم يقدر المؤتمر السابق على حسمها بالنظر للوضع الاستثنائي الذي كانت تمر به البلاد.
هل يستحق فعلاً كل هذا الاهتمام؟
بالرجوع إلى المؤتمرات السابقة التي عقدتها حركة النهضة التونسية، نجد أن ثمانية من أصل تسعة دارت مداولاتها في فترات صعبة تميزت بحالة الصدام مع السلطة وإن اختلفت حدتها من فترة إلى أخرى، ويكفيها قلقًا أنها مؤتمرات لحزب غير معترف به، وحتى المؤتمرات التي عُقدت في المهجر سنوات 1995 و2001 و2007 فقد جرت في جو عام سمته تقطع الأوصال بين آلاف في السجون وآخرين منتشرين في دول مختلفة.
ولئن مثّل المؤتمر التاسع أول المؤتمرات التي تعقدها بعد حصولها على التأشيرة، فإن هشاشة الوضع السياسي وهواجس نجاح أو فشل فترة الانتقال الديمقراطي ناهيك عن انعقاده في مرحلة يعتبرها النهضويون مرحلة بناء جديدة لحزب ظل طويلاً يعاني من تفرقة قسرية لمختلف مكوناته، كل هذا حال دون المضي في طرح المسائل العميقة والإحراجات التي فرضها الواقع الجديد واختيار ترحيلها لمؤتمر استثنائي (المؤتمرات العادية مرة كل أربع سنوات) ينعقد سنة 2014 قبل أن يتم تأجيله لهذه السنة اثر استفتاء داخلي.
ينعقد هذا المؤتمر الاستثنائي إذًا وفي جرابه عدة مسائل رُحلت إليه وأيضًا بعد أن تحسس المحافظون في تونس ولأول مرة دواليب الدولة من الداخل وبعد أن تحولت في علاقة بالسلطة من حركة رفض وصراع إلى حركة تقدم نفسها للحكم وهو ما يجب أن يكون قد غير نظرتها إليها وربما تعريفها لها، وهو مايطرح عليها جملة من المباحث الإضافية التي قد لا تعني كيانًا سياسيًا في المعارضة الدائمة.
من جهة أخرى وبالرجوع إلى السلوك السياسي المتقلب الذي انتهجته حركة النهضة، ويكفينا أن نقارن بين خطابها سنة 2011 وخطاب 2014، نستنتج بيسر أنها دخلت للسلطة وتموقعت في المشهد السياسي دون إستراتيجية واضحة (وقد يعود هذا إلى تقلب الأحداث وديناميكيتها)، وهو ما خلق حالة اضطراب كانت لها تداعياتها داخليًا وانتخابيًا في فترة لاحقة، الثابت أن هذا المؤتمر ومع حالة الاستقرار النسبي ووضوح نسبة هامة من المشهد السياسي التونسي، مُطالَب بأن يحدد موجهات عامة تضبط وفقها سياسات منسجمة.
على الصعيد الداخلي، شهدت حركة النهضة تباينًا في المواقف بين القيادة والقواعد في أكثر من مرة، وهو ما اعتبره البعض دلالة على غياب ذلك الوعي المشترك والأرضية الجامعة التي طالما مثلت نقطة قوة هذه الحركة، والأكيد أن هذا المؤتمر المضموني سيمثل فرصة حقيقية لإعادة إنتاج ذاك المشترك في الرؤية والوعي.
على صعيد آخر، وبالنظر إلى شبيهات حركة النهضة في باقي أقطار الوطن العربي والتي شملتها نسائم الربيع العربي، تعتبر الحركة التونسية الأكثر حظًا وتميزًا بأن حافظت على الحالة الديمقراطية في بلدها؛ ما منحها أريحية تغيب عن نظرائها لتُقلِب الملفات على مهل ولتمحص بهدف التقرير وسط تخفف تاريخي من الضغط الذي طالما رافقها.
حركة النهضة بمؤتمرها هذا لن تخوض في تجربتها وحسب، وإنما تحتاج لأن تستحضر في ذهنها أنها مطالبة بمجهود تجديد يحرج المسلمات والموروثات التي أثبتت التجربة فشلها، حتى تفرز منتجًا قابلاً للتصدير وقادرًا على إثراء تجارب أخرى غابت عنها قدرة الإبداع في سياقات لا تسمح به.
محاور الإحراج ومباحث الاهتمام
عديدة هي المسائل التي ينتظر النهضويون (وغيرهم بالمناسبة) أن يجيب عنها المؤتمر العاشر، فبالإضافة إلى تقييم كل ما سبق خاصة مرحلة المحنة والصدام مع السلطة وإنتاج رواية معتمدة وموحدة للتاريخ القريب، تجد النهضة نفسها أمام ضرورة إيجاد إجابات فكرية وهيكلية لأسئلة عميقة قد تطرحها هي بنفسها وقد يطرحها من يتفاعل معها في محيطها الوطني والإقليمي الدولي.
ففي علاقة بالمسألة الفكرية، تعتبر وثيقة “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي” لحركة النهضة والتي تعود إلى سنة 1986 آخر مرجعية متفق عليها في الداخل النهضوي، وبالنظر إلى عتاقتها فإنها لم تواكب المراجعات والاجتهادات النوعية التي أفرزها منظرو الحركة منذ تلك الفترة وهو ما طالما اعتمد عليه خصومها لإحراجها والتشكيك في تطورها الحاصل على الأرض ويبدو أن مراجعة هذه الوثيقة ستكون من اهتمامات هذا المؤتمر، فحسب آخر الأخبار المتداولة في الكواليس، سيتم حذف فقرات وإضافة أخرى بهدف التعصير كما قد يُطرح الاستغناء عنها أصلاً باعتبار أنه من الغريب، بحسب البعض، أن يرتكز حزب سياسي مدني على وثيقة تحتاجها جماعة دعوية من ضمن ما فيها ما يشبه الفتاوى الشرعية.
من جهة أخرى، لطالما وردت في أدبيات حركة النهضة مفردات “المشروع” و”سبل تصريف المشروع”، وقد يحتاج المؤتمر إلى تعريف هذه المفردات قبل الخوض في آليات تحقيقها حتى تتوحد رؤى المنضوين داخلها، “أسلمة الدولة” تهمة طالما ارتبطت، بحق أو جزافًا، بالحركات الإسلامية والحركات المحافظة، وإن كان السلوك السياسي للنهضة يوحي بابتعاد فكرها عن هذه المورثات البالية التي قوضت تجارب حركات سياسية أخرى، فمن المهم أن يؤكد المؤتمر عبر لوائحه نهجها الإصلاحي المدني حتى يفند ما قد تتهم به وحتى يضمن تملك جسمها الضخم هذا النهج.
وعلى عكس ما يعتقده البعض بأن المؤتمر سيحدد الوصل أو الفصل بين دعوي وحزبي، من المنتظر أن يخوض النهضويون في مسألة الفصل بين الحركة الاجتماعية وبين الحزب السياسي، فالنهضة بسلوكها بعد الثورة لم تكن، ويبدو أنها لم تطرح على نفسها أن تكون أبدًا حركة دعوية، فأمام مجتمع مسلم بالفطرة (رغم حملات تجفيف المنابع التطرف اللائكي أحيانًا) ما قد يقبل من حزب هو إنتاج تصورات في علاقة بالتثقيف الديني الوسطي خاصة أمام تعاظم خطر انتشار الفكر المتطرف وهو مايبدو أنها استوعبته، وبحسب بعض المحللين، من المستبعد أن يفضي المؤتمر إلى فصل بين الوظيفتين باعتبارهما من صميم رسالة أي حزب من سياسة للناس واهتمام بشؤونهم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، كما أن السفن لا تحسن شق عباب البحر وعلى سطحها أكثر من قبطان.
وبالنظر إلى الامتداد الشعبي الهام لهذه الحركة وطموحها للحكم كوسيلة للإصلاح، ستحتاج حركة النهضة أن تبحث في مسائل الإدارة الذكية للرصيد البشري الذي تتمتع به بطريقة تستثمر عبرها ما هو متوفر لها من طاقات بشرية لتوجهها نحو جهود البناء التي تحتاجها تونس لتحقيق الهدف الاجتماعي لثورة 17 ديسمبر – 14 يناير التي عجزت عن تحقيقه حتى الآن، كما ستحتاج إلى تحديد موقف واضح من مسألة الانفتاح بما تقتضيه من تأقلم هيكلي ذهني، فالحزب الذي يريد أن يحكم تونس يجب أن يكون حزب التونسيين وليس فئة منهم فقط، وحتى تصبح حركة النهضة قادرة على هذا، فهي مطالبة بثورة هيكلية تنظيمية ذهنية قد يصعب استساغتها رغم ضرورتها.
ومن المنتظر أيضًا أن يكون ملف الشباب والتشبيب من بين محاور البحث في المؤتمر العاشر لحركة النهضة، فعزوف الشباب التونسي عن الانخراط في الشأن العام عمومًا والشأن السياسي خصوصًا، يفرض على كل الأحزاب دراسته كظاهرة اجتماعية بهدف إيجاد حلول حقيقية، فتونس تحتاج انخراط شبابها في حمل ثقل الهم الوطني، وحركة النهضة التي تجاوزت عقدها الرابع تحتاج أن تؤسس لنظام توريث طبيعي لهويتها الحزبية والاجتماعية، جدية تعاطي حركة النهضة قد تظهر من خلال افراد هذه الفئة بلائحة خاصة بها وببعض القرارت في علاقة بتشجيع الشباب ليكونوا في الصفوف الأولى.
المؤتمر العاشر لحركة النهضة استثنائي في عنوانه حتى الآن، ويبقى انعكاس العنوان على الجوهر رهينة الجهد والجرأة الذين سيبذلان في المسألة المضمونية التنظيرية، فالمسائل المطروحة، وإن لم نأت عليها كلها في هذا المقال، تحتاج وعيًا بتفاصيل اللحظة التاريخية ومقتضياتها في عالم يقود فيه القوي الضعيف وسيظل.