ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
قبل اندلاع أولى الأحداث في اليرموك كان الفلسطينيون المقيمون في المخيمات الأخرى قد تأثروا سلفًا بالاحتجاجات وكانوا يتعرضون للقمع الذي يمارسه النظام، ففي درعا تم الزج بالفلسطينيين في الصراع بسبب قرب مخيمهم من المكان الذي دارت فيه أولى المظاهرات السلمية، ومنذ الأيام الأولى سارع النظام إلى توجيه أصابع الاتهام نحو الفلسطينيين القاطنين في هذه المدينة في جنوب سوريا واتهمهم بزرع بذور الفتنة في البلاد، وهي مناورة أراد النظام من ورائها التقليل من أهمية الحراك الشعبي من خلال تحميل المسؤولية للأجانب والظهور بمظهر الضحية لمؤامرة أجنبية رغم أن المشاركة الفلسطينية في المراحل الأولى للثورة السورية كانت محدودة جدًا ولم تكتس صبغة جدية إلا بعد محاصرة النظام لمدينة درعا في أبريل 2011.
في تلك الفترة بدأ الفلسطينيون يتحركون وينظمون أنفسهم للتمكن من إدخال الغذاء والدواء للأحياء التي يحاصرها جيش النظام، ثم في مارس من سنة 2012 بدأت العمليات العسكرية النوعية في محافظة درعا، حيث قرر الفلسطينيون النسج على منوال الثوار السوريين الذين تحولوا من النضال السلمي للنضال المسلح، فشكلوا وحدات مسلحة محدودة القدرات لعبت دورًا صغيرًا ورمزيًا في الصراع الدائرعلى غرار كتائب الشهيد طاهر أبو صياصنة التي سُميت تيمنًا بأول فلسطيني من مخيم درعا يسقط برصاص النظام، كما حصلت انشقاقات في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتبع للجيش السوري وأهمها انشقاق العقيد قحطان طباشة في شهر يوليو 2012 الذي قتل بعد ذلك في الأول من أكتوبر التالي أثناء محاولته مساعدة مدنيين على المرور للأردن للفرار من ويلات الحرب.
وفي اللاذقية أيضًا تم جر الفلسطينيين للصراع رغمًا عنهم مثلما حصل في درعا، فأولى المظاهرات التي شهدتها هذه المدينة الساحلية حصلت في منطقة متاخمة لمخيم الرمل الذي يعيش فيه اللاجؤون الفلسطينيون، وعندما قرر النظام قصف الأحياء التي اندلعت فيها المظاهرات سارع الفلسطينيون بالمغادرة مخافة أن يتم اتهامهم بشكل عشوائي بالمشاركة في الاضطرابات ويصبحوا معرضين لقصف منازلهم.
ومع الوقت أصبح موقفهم مع الثورة السورية أكثر التزامًا وعلنية، ففي مخيم اليرموك أصبحت المظاهرات ضد النظام تنظم بشكل يومي وتضم الآلاف من المشاركين الذين يرددون شعارات الثورة السورية، وتبعًا لذلك زادت حدة قمع النظام السوري ضدهم خاصة مع سيطرة الثوار على الأحياء المحيطة بالمخيم واحدًا تلو الآخر على غرار حجر الأسود والتضامن والقدم والميدان.
وفي النهاية مع شهر يوليو 2012 تمكنت مجموعات مسلحة من الدخول للمخيم والتمركز فيه؛ مما دفع بالنظام للاعتماد على الطيران وتوجيه قصف عنيف للمخيم دون تفرقة بين المسلحين والمدنيين الذين كانوا يعدون بمئات الآلاف، وخلال صيف وخريف سنة 2012 حاولت منظمة التحرير الفلسطينية (القيادة العامة) مساعدة الجيش السوري على طرد الثوار من المخيم، ولكن هذا الدور سبب نتائج عكسية فقد دفعت هذه الهجمات ساكني المخيم لتشكيل مجموعة مسلحة تحت تسمية لواء العاصفة، ثم في شهرديسمبر تم طرد عناصر الجبهة الشعبية خارج مخيم اليرموك وتكبدت هذه المنظمة التي تمثل أداة في يد النظام هزيمة مذلة بعد أن عانىت في الماضي من الانقسامات الداخلية والانشقاقات وتكبدت خسائر بشرية هامة.
معضلة مخيم اليرموك
مع نهاية سنة 2012 شهدت وضعية المدنيين الذين بقوا في مخيم اليرموك تدهورًا كبيرًا، فالدخول والخروج أصبح يتم عبر بوابة واحدة يسيطر عليها الجيش السوري وخلال الأوقات القليلة التي تكون فيها هذه البوابة مفتوحة تكون المراقبة صارمة والتفتيش دقيقًا ويتم تعطيل دخول الأغذية والأدوية تحت كل الذرائع، ويريد النظام من خلال هذه السياسة تجويع الساكنين والمسلحين الموجودين في المخيم لإجبارهم على الاستسلام.
كما كان المخيم هدفًا للقصف العشوائي الذي يوقع الضحايا في صفوف المدنيين أكثر من المسلحين، ففي يوم واحد في 16 ديسمبر 2012 تعرضت أربع مدارس للتدمير بسبب سقوط الصواريخ: منها مدرستان تأويان عائلات مشردة، وقد أوقع هذا الهجوم القتلى من الرجال والنساء والأطفال، وخلال الأسابيع التالية غادر حوالي 140 ألف مدني المخيم ولم يبق فيه سوى 20 ألف ساكن لم يتمكنوا من المغادرة لأسباب متنوعة منها أن البعض يخشون القبض عليهم من قِبل النظام السوري بسبب أنشطتهم السياسية والآخرون كانوا فقراء أو مسننين لا يستطيعون السفر وتحمل مصاريف السكن في مكان آخر.
وقد خلقت التضييقات المفروضة على إدخال الغذاء والدواء وتوفير الماء والكهرباء حالة إنسانية مأساوية يعيشها من بقوا في المخيم؛ فمراكز تقديم العلاج أغلقت أبوابها واحدًا تلو الآخر تاركة السكان ليواجهوا مصيرهم وحدهم وسط ظروف صحية وأمنية متردية، واستمر الوضع هكذا لأكثر من سنة قبل أن تحصل الأونروا على تصريح بالدخول للمخيم في يناير 2014 لتوزيع المساعدات، وقد تم توزيع هذه المساعدات في ظروف فوضوية ولم تكن كافية لتغطية الحاجيات الماسة لسكان المخيم فكميات الغذاء لم تكف العائلات الموجودة لأكثر من أسبوع، وتحت ضغط السكان انسحبت المجموعات المسلحة لخارج المخيم ولم يؤثر ذلك بالإيجاب على الظروف المعيشية فقد تواصل شح الإمدادات وارتباطها بأهواء عناصر النظام والميليشيات الأخرى التي تساعدها في محاصرة المخيم على غرار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ولواء أبو الفضل العباس وقوة الدفاع الوطني.
واليوم في الثامن من أبريل 2015 يكون المخيم قد دخل يومه رقم 646 من الحصار الشامل ومرور 844 يوم منذ انطلاق الحصار الجزئي.
ولم يحن الوقت لتحديد الحصيلة الكاملة لخسائر الفلسطينيين في سوريا ولكن الأرقام الأولية التي أصدرتها الأونروا تشير إلى أن نصف اللاجئين أي أكثر من 250 ألف تم تهجيرهم داخل سوريا فيما تمكن 80 ألف من اللجوء في البلدان المجاورة في مأساة تعيد للأذهان ذكرى النكبة التي عانى منها الفلسطينيون بعد أكثر من نصف قرن، وقد رحل أغلب هؤلاء نحو لبنان الذي اضطر أمام التدفق الهائل لطالبي اللجوء لتشديد شروط قبول اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، وذهب جزء آخر من الفلسطينيين للأردن ومصر والبعض نحو غزة، وإجمالا تقدر الأونروا بأن 95 بالمائة من الفلسطينيين في سوريا يعتمدون اليوم كليًا على المساعدات الإنسانية بعد أن كانت النسبة 6 بالمائة فقط مع بداية الثورة السورية.
وتصدر المنظمة غير الحكومية مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا تقارير دورية حول أوضاع اللاجئين، وقد أظهر أحد التقارير المنشورة حديثًا العدد الإجمالي للضحايا الفلسطينيين من سنة 2011، وقد وثّقت هذه المجموعة حتى الساعة اسم ومكان وفاة وسبب وفاة 2783 فلسطيني قضوا في الصراع الدائر، سقط أغلبهم في العاصمة دمشق في مخيم اليرموك بسبب صواريخ النظام، كما سقط البعض الآخر بالطلق الناري وهناك من توفي تحت بالتعذيب أو برصاص القناصة أو بالإعدام، كما توفي حوالي 40 فلسطينيًا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط في قوارب الموت بحثًا عن الحلم الأوروبي، وتوفي حوالي 30 شخصًا متأثرين بالقصف الذي استعمل فيه النظام قنابل تحتوي غازات قاتلة، ويبقى مصير مئات آخرين مجهولاً حتى اليوم كما هو الحال بالنسبة لثمانمائة موقوف يقبعون في سجون النظام.
ويعد الجانب الأكثر ترويعًا في هذه المأساة هو سياسة العقاب الجماعي التي يتعرض لها اللاجؤون، ففي مخيم اليرموك كما في باقي أنحاء سوريا لا يستهدف القصف الجوي والحصار المجموعات المسلحة بقدر ما يستهدف المدنيين حيث تصبح أحياء بكاملها هدفًا مشروعًا في نظر النظام وجيشه بمجرد وجود مسلحين فيها، إذ لا يريد النظام أن يرى أحد أن المناطق الخارجة عن سيطرته تعيش حياة عادية وتتمتع بالخدمات الأساسية، ولهذا يعتمد سياسة العقاب الجماعي ضد جهات بأكملها ومدن وأحياء محررة، ولم تكن اليرموك استثناءً في هذا السياق فهي تتعرض للحصار ومنع الدخول والخروج وقصف المستشفيات والمدارس والحرمان من الحق في الحياة وقطع الكهرباء والماء وتعطيل دخول الدواء، بهدف معاقبة هؤلاء السكان الذين وقفوا ضد النظام وسمحوا بوجود المجموعات المسلحة داخل مخيمهم.
ويلخص أحد مساندي بشار الأسد الخيارات المطروحة أمام الفلسطينيين بشعار “الجوع أو الركوع”.
وهذه الكلمات ليست مجرد شعار بل هي إستراتيجية ترهيب متكاملة يعتمدها النظام بشكل منظم، وهي لا تختلف عن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة التي تتعرض بدورها للعقاب الجماعي، ومنذ بداية الحصار على مخيم اليرموك أحصت مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا وفاة 158 مدني بسبب الجوع وغياب الدواء والمضاعفات المباشرة الأخرى للحصار، فالضحايا الحقيقيون في هذه الوضعية ليسوا المسلحين بل ضعاف الحال من أطفال ومسنين، وقد تم في الفترة الماضية نشر صور صادمة لإيقاظ ضمير العالم وحثه على التحرك لإنهاء المأساة ولكن الأغلبية تجاهلوا هذه الحقائق.
أي مستقبل للفلسطينيين في سوريا؟
اليوم أصبحت الوضعية الجيدة نسبيًا التي كان اللاجؤون الفلسطينيون يتمتعون بها قبيل اندلاع الثورة السورية مجرد ذكرى، ورغم محاولة الكثيرين منهم البقاء على الحياد فإنهم وجدوا أنفسهم مقحمين في الصراع رغم أنفهم، وقد حصل هذا نتيجة تلاعب النظام السوري بالفصائل الفلسطينية، فقد وصل أغلب اللاجئين إلى سوريا قبل وصول حزب البعث للسلطة في 1963 وآلاف العائلات الفلسطينية تعيش هناك منذ أكثر من 67 سنة ورغم أنهم يتعرضون للتهميش القانوني والسياسي فإنهم يعيشون في تناغم مع السكان المحليين ويشكلون جزءًا من النسيج الاجتماعي السوري، ولهذا فمن الطبيعي أن يقف اللاجؤون مع ثورة الشعب السوري ويرفضوا موقف بعض الفصائل المساندة للنظام، كما أن الأوضاع ازدادت تدهورًا في مخيم اليرموك بسبب التحركات المتسرعة لبعض المجموعات المسلحة التي أطلقت هجمات على الجيش من داخل المخيم رغم أن الساكنين لم يكونوا مستعدين لتحمل تبعات هذه العمليات وبذلك تحول المخيم لساحة مواجهة مع النظام المعروف بعدم اكتراثه بحياة المدنيين، وبالتالي أحدث كل هذا شرخًا عميقًا بين المدنيين الفلسطينيين من جهة والفصائل الفلسطينية والمجموعات المسلحة من جهة أخرى.
وهذا يثير تساؤلات عديدة حول كيفية إدارة السلطات السورية للملف الفلسطيني على مدى العقود الماضية، فقد فرض النظام على اللاجئين الفلسطينيين أوضاعًا معينة عند استقبالهم على أرض سوريا منها اختياره للفصائل التي يسمح لها بالتواجد في سوريا، وبتحكمه في هذه الفصائل الممثلة للاجئين الفلسطينيين جرّد النظام هذا الشعب من سلاح مهم في نضاله من أجل القضية الفلسطينية وهو الاستقلالية وحرية تقرير المصير، ولهذا لم يعد هؤلاء قادرين على التأثير في مسار القضية والدفاع عن حقوقهم المغتصبة منذ عشرات السنين، فقد دمر النظام قدرتهم على التنظم والتحرك من خلال إقصاء الممثلين الشرعيين للفلسطينيين وفرض ممثلين آخرين يدينون بالولاء له لخدمة مصالحه الإقليمية.
ولكن مازال البعض يعتقد أن بشار الأسد هو الزعيم السياسي الوحيد الذي يقاوم الطموحات الإسرائيلية في المنطقة لأنهم في الواقع يتأثرون بخطاباته ولا يلاحظون تصرفاته، وحتى لو كان هذا صحيحًا فإنه لا يعطيه الحق في التحكم في الخيارات السياسية والإستراتيجية للفلسطينيين، ولهذا فإن وقوف اللاجئين في صف الثورة يحمل في طياته رفضًا منهم لتسلط النظام عليهم وعلى الشعب السوري ورغبة منهم في حق تقرير المصير لهم ولهذا الشعب.
ومع تعرضهم للقمع والعنف واضطرار أغلبهم للإاتقال مجددًا لمخيمات أخرى؛ يقف الفلسطينيون في حيرة من أمرهم أمام ازدياد تعقد الأمور، إذ سيكون من الصعب على سوريا في المستقبل استعادة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي سمحت لها في السابق باستقبال اللاجئين الفلسطينيين وتمكينهم من وضعية مريحة نسبيًا، واليوم يأتي ظهور تنظيم الدولة في مخيم اليرموك لينذر بفصول جديدة في هذه المأساة التي سيكون ضحيتها آخر الفلسطينيين الذين بقوا في المخيم والذين على غرار الشعب السوري لا يطلبون شيئًا سوى العيش بسلام، وهذا الظهور سيقدم للنظام فرصة جديدة ليقدم نفسه في ثوب المدافع عن الفلسطينيين رغم أنه زج بهم في الصراع وأذاقهم الويلات منذ سنة 2011.
المصدر: لوموند الفرنسية