ترجمة وتحرير نون بوست
أولئك الذين ليس لديهم أقارب في مخيمات لجوء الفلسطينيين في سوريا، يمكنهم مشاهدة الفظائع التي تجري هناك على نشرات الأخبار من بعيد، كما لو كانت فيلم رعب في هوليوود، فيلم يسبب رعبًا وألمًا لساعات فقط، أما هؤلاء الذين يقطن أقاربهم في شارع حيفا، وهو الشارع الرئيسي في مخيم اليرموك للاجئين بدمشق، أو أولئك الذين يحصلون على صورة لشخص يبدو مشابهًا لأحد معارفهم، تبدو لهم الأخبار القادمة من سوريا شديدة العمق، ولا تغادرهم إلا بعد أن تترك ندبة يكاد يكون من المستحيل التعامل معها.
والديّ، واللذان ولدا بعد أن تم تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، قاما بتنشأتنا على قصص اللاجئين وطرد الفلسطينيين وبقايا قريتنا في الجليل التي تقف مثل النصب التذكاري، بدون صور ولا أسماء وبدون حتى السكان الذين كانوا يقطنونها يوما ما، كنا نعلم أن معظم أفراد عائلتنا يقطنون هناك في سوريا ولبنان، وأننا هنا الآن، ومع ذلك، فإن الأمور قد تغيرت خلال السنوات القليلة الماضية بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، لم أكن الوحيدة التي تكتشف هؤلاء الذين كان يُفترض أن أكبر بجوارهم، لقد تعرفت على أشخاص يشبهون والدي، وجدت واحدًا يفسر لي لماذا يبدو أنفي بهذا الشكل، ولماذا أمتلك شعر عمي الراحل، كنا متحمسين بينما نتحدث عبر “سكايب” مع أشخاص يخبروننا النميمة والقصص التي تدور هناك، علمنا من تزوج ممن، ومن وجد سورية ترضى بالزواج من لاجئ فلسطيني، من يطبخ بشكل جيد، ومن درس الطب، ومن صار مهندسًا بارعًا، لقد عرفنا أن قريتنا في الجليل لاتزال حية في قلب سوريا، تقريبًا كل قرية فلسطينية تم تدميرها عام 1948 لديها مجموعة فيسبوك خاصة بها، تتم تسمية الشوارع في مخيمات العائدين واليرموك بأسماء المدن والقرى التي كانت سكن هؤلاء اللاجئين: طبريا، حيفا، عكا، لوبيا، الجورة، وغير ذلك الكثير، نساء قريتنا كن يمتلكن صفحتهن الخاصة على فيسبوك.
بدأت الحرب في سوريا في الوقت ذاته الذي بدأنا فيه إنشاء قريتنا الافتراضية، وحلمنا بالعودة، احتدمت المعارك المروعة على مدار أربع سنوات، أربع سنوات من القتل والخطف، أربع سنوات من شبيحة الأسد المجرمين ومعارضيهم، أربع سنوات من الدم السوري الذي لايزال يراق؛ عامان منهم كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين قادرة على الحفاظ على حيادها، فهي ليست جزءًا من معركة السوريين، لقد قيل لنا إن الثوار يختبئون في المخيم في بعض الأحيان من فرط هدوئه وأمانه، لكن مع الوقت، تحول الفيسبوك للون الأسود وبدأ الناس يختفون من شاشاتنا، لقد تعقبنا بلهفة الصغار الذين اختفوا قبل أن نعرف أنهم تعرضوا للتعذيب وأحيانًا للموت، بعضهم عاد وبعضهم لم نعرف عنه شيئًا، البعض هرب من المخيم بعد أن باع أهلهم كل ما يملكون لإنقاذ أبنائهم وانتظروا حتى يظهر شخص ما من مكان ما من العالم ليخبرهم أن أبناءهم صاروا بأمان.
بينما فر من سوريا في واحد من قوارب الموت التي كان يفترض أن تأخذه إلى اليونان، وجد أحد أبناء عمومتي نفسه يسبح نحو شاطئ بلد غير معروف! تم القبض عليه من قِبل عصابة صربية سرقوا أمواله وملابسه، سرقوا حتى حذائه، لقد أخبرنا بذلك بينما كان يبكي على الهاتف في مخفر الشرطة، كان يسألنا أن نرسل له بضع دولارات من شأنها أن تبقيه على قيد الحياة، هذه القصص يمكن أن تعتبر “قصص نجاح” لكنها ليست شيئًا مقارنة بصور الضحايا والجنائز، وصور تلك الحرب الفظيعة التي لا تبدو لها نهاية في الأفق.
أصعب ما وُصف به الوضع في مخيم اليرموك يرويه أحد الناجين الذين يتم تعريفهم على أنهم سوريون فلسطينيون، يقول “شعوري بالعجز يشبه ما يحدث إذا أرسل لك أحدهم شريط فيديو يصور أختك يتم اغتصابها بشكل جماعي، وأنت تصر على المشاهدة حتى النهاية، ربما سيحدث شيء غير متوقع يقلب الموازين في النهاية، ربما ينمو لأختك جناحان وتتحول إلى تنين يقضي على مغتصبيها، هذا ما تعرفه عن نفسك، أنت الفلسطيني الأسطورة، شعب الجبارين، هذا ما عرفناه منذ أن كنا أطفالاً، دومًا ما نراهن على أننا سوف نتحول إلى وحوش شجعان ندمر أعداءنا ومغتصبينا، لكن يبدو أن الوقت قد حان لنمحو ذلك الخيار من أذهاننا”.
هذا ما أشعر به اليوم، كفلسطينية كنت أعارض في السابق وصف الاحتلال بالاغتصاب، وتشبيه فلسطين بالأنثى، اليوم، ليس هناك وصف أفضل بينما يتم اغتصاب نساء فلسطين وسوريا كل يوم بواسطة عناصر داعش وغيرهم، بينما يتم تدمير اليرموك وحصاره من قِبل الجميع.
بعد أن تجاوزت فلسطين احتلالها عام 1948 من قِبل جيش وحشي، انتشر الفلسطينيون بين الدول المجاورة، لقد استطعنا النجاة من مجزرة تلو المجزرة: أيلول الأسود في الأردن، صبرا وشاتيلا في لبنان، مخيم نهر البارد، بلاطة، غزة، جنين، والآن اليرموك في سوريا، لا يهم كل ذلك بعد الآن، لا يهم على من يقع اللوم، أو من بدأ العدوان، وكل ذلك يتم تمويله إما من طرف الولايات المتحدة أو من طرف إيران.
في هذه الأوقات الصعبة، أتذكر كيف أرسل لي ساجارا، الفنان والنحات من قريتنا، صورة لنحت خشبي، كان النحت يصور امرأة فلسطينية جميلة مجوفة من الداخل، “كل واحد قضم قطعة، لقد انتهت تمامًا”، شرح لي وعيناه مغرورقتان بالدموع، وعندما أرسلت له رسالة أقول فيها “أريد هذا التمثال”، رد عليّ برسالة أخرى “إنه الآن تحت أنقاض المخيم، عندما نتحرر ونعود إلى قريتنا، سأنحت واحدًا آخر من أجلك يا سماح، هذا وعد!”
ولم أسمع شيئًا آخر منه منذ ذلك الحين.
المصدر: مجلة 972+