كيف ليبدو العالم بدون استخدام الوقود الأحفوري، والذي يشمل كافة أنواع الوقود الملوثّة مثل النفط والغاز والفحم؟ قد يبدو السؤال خياليًا، ولكن بالنظر لتصاعد خطر تغيّر المناخ، وتزايد رغبة الحكومات، خاصة الأمريكية والصينية، في تقليل الانبعاثات الكربونية التي تسبب الاحتباس الحراري وتهدد كافة النظم البيئية والحيوانية، يبدو أن البحث عن إجابة، أو بالأحرى سيناريو، لمسألة تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وآثارها على الاقتصاد العالمي، سيكون أمرًا ضروريًا خلال العقود المقبلة.
توسّع السوق
شهد العالم في العقود الثلاثة الأخيرة للقرن العشرين نموًا سريعًا في رقعة السوق العالمي بسبب تبني معظم دول العالم للسياسات الرأسمالية، لا سيما الصين والهند، بل ودول الاتحاد السوفيتي ذاته، وقد استفادت الدول المتقدمة من تلك الأسواق في نقل الكثير من مراحل الإنتاج فيها إلى الدول النامية ذات العمالة الرخيصة، ليزداد بالطبع الطلب على الطاقة في تلك البلدان، كما أدى نمو العولمة بقوة في نفس الفترة إلى تطلع الكثير من الطبقات الوسطى حول للعالم للتمتع بنفس مستوى المعيشة الموجود في أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما جعل النمو الاقتصادي المحرّك الرئيسي لخطط التنمية في دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعزز مرة أخرى من الطلب على الطاقة.
على سبيل المثال لا الحصر، تبني الصين كل أسبوعين محطة فحم جديدة لتوليد الطاقة، وهو ما يطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون وغيرها من غازات تساهم في حبس الحرارة داخل الغلاف الجوي الأرضي وبالتالي رفع متوسط درجة حرارة الكوكب، وهو اتجاه يحذر العلماء من مغبة الاستمرار فيه، حيث يعتبرون ارتفاع متوسط حرارة الأرض بدرجتين مئويتين خطًا أحمرًا سيهدد أشكال الحياة المختلفة بطرق غير مسبوقة، وهو خط أحمر سيتطلب ترك ما لا يقل عن 70٪ من احتياطي الغاز والنفط والفحم كما هو دون استخراجه واستخدامه، وهي بالطبع أنباء غير سارة لمن يملك تلك الثروة كدول الخليج وفنزويلا ونيجيريا وروسيا.
ماذا يحدث إذا تحقق هذا الهدف إذن وقرر المستثمرون في ليلة وضحاها العزوف عن الوقود الأحفوري؟ يخشى الاقتصاديون أن يؤدي هذا إلى صدمة للاقتصاد العالمي أسوأ من الأزمة المالية التي تعرّض لها عام 2008، وهو أمر جدي على ما يبدو بدرجة دفعت البنك المركزي الإنجليزي إلى البدء في دراسة عواقب الاستغناء عن الوقود الأحفوري اقتصاديًا، بيد أن التوقعات تشير إلى أن خطوات كهذه لن تحدث بالطبع فجأة، وستكون بالتوازي مع صعود مجالات أخرى للطاقة البديلة ستقلل كثيرًا من الآثار السلبية للاستغناء عن النفط والغاز، بل إن السيناريو لن يكون بهذا السوء إذا ما أخذنا في الاعتبار استمرار دول كثيرة لا تعبأ بمسألة البيئة، مثل روسيا وإيران، في استخراج وتصدير الوقود الأحفوري للدول الفقيرة.
مُعضلة النمو والتوازن البيئي
تُعتَبَر فكرة النمو الاقتصادي بشكل مستمر من الأفكار المسلّمة في عالم اليوم، فالحكومات تتحدث دومًا عن التنمية، والمواطنون في معظم بلدان العالم يتوقعون دومًا لأبنائهم أن يحصلوا على مستوى معيشي مثلهم أو أفضل منهم، كما توجد نفس الفكرة في عالم الأعمال، فالشركات التي لا تتوسع وتزيد من أرباحها يُنظَر لها دومًا باعتبارها فاشلة، إذ يجب على شركة يونيليفر أن تبيع كل عام منتجات النظافة الخاصة بها أكثر من سابقتها، وعلى أديداس أن تبيع من ملابسها وأحذيتها أكثر، وعلى شركات الاتصالات أن تحقق أرباحًا أكبر، وهكذا دواليك؛ “أكبر” و”أكثر” هما الكلمتان اللتان لا تختلفان عليهما أي نظرية اقتصادية.
ولكن هذه الفلسفة، مع تزايد كبير في تعداد الأرض السكاني، خلقت مشكلات لم تواجهها البشرية من قبل، ولم تكن على بال أثناء الثورة الصناعية، والتي قامت حين كان تعداد سكان الأرض أقل من مليار شخص، أما اليوم، وعلى أرض وموارد طبيعية محدودة، فإن حاجات المليارات السبع لاستهلاك الطاقة قد تضاعفت ست مرات في السنوات الخمسين الماضية، وهي حاجات يلبي 90٪ منها الوقود الأحفوري، مما أدى إلى ارتفاع متوسط حرارة الأرض بدرجة واحدة مئوية مقارنة بما قبل الثورة الصناعية، كما زاد من وتيرة الكوارث الطبيعية كما تشي الأعاصير وموجات التسونامي المتنامية في العقود الأخيرة.
يقول الكثير من نشطاء البيئة في أوروبا أن النمو في الحقيقة ليس بلا نهاية، ولكنه يصل لنقطة معيّنة يصبح معها مستوى المعيشة مرتفع بما يكفي ليتباطئ بشكل كبير، كما هو الحال في البلدان المتقدمة، مما يجعل الالتفات إلى البيئة والوعي بها ممكنًا، وبالتالي صياغة سياسات تحد من التغير المناخي، ولكن المشكلة تكمن هنا في أن الانبعاثات في العقود المقبلة ستأتي في الأغلب من بلدان لا تزال في مرحلة النمو، مثل الصين والهند، وهي مجتمعات لم تحقق طموحاتها بعد، وهي في تعدادها أضعاف التعداد الأوروبي، مما يعني أن الوقت سيكون متأخرًا جدًا لوقف تغيّر المناخ حين تصل تلك البلدان إلى مستوى المعيشة الأوروبي، هذا إن وصلت إليه أصلًا بتزايد سكانها، وأن الغرب كله إن استغنى عن الوقود الأحفوري لن يدير وحده دفة ملف البيئة.
بين العالم المتقدم والعالم النامي
في ظل تلك المعضلة، يظهر لنا بصيص أمل في واحدة من أبرع الحلول للتعاون الدولي وتعزيز الطاقة البديلة على حساب الوقود الأحفوري، وهي تقديم الدول المتقدمة اقتصاديًا للدعم المادي لصالح الدول النامية والفقيرة لتتمكن من الاعتماد على الطاقة البديلة في نموها بدلًا من الوقود الأحفوري الرخيص، وهو اتجاه ستعززه اتجاهات موجودة بالفعل لدى بعض من تلك الدول التي بدأت تشهد مشكلة التلوث بشكل كبير، مثل الهند، والتي أعلنت عن خطط طموحة لزيادة حصتها من الإنتاج العالمي للطاقة الشمسية نظرًا لزيادة التلوث بشكل خطير في دلهي ومومباي وغيرها من المدن المركزية الصاعدة.
على مستوى أوسع، سيكون مفيدًا طرح فكرة إطار دولي متجاوز للحكومات يضم منظمات ومؤسسات دولية مختلفة، ويتمتع بصندوق مالي مستقل، للقيام بهذه المهمة، حيث يقوم بحساب ما توفّر البلدان النامية من انبعاثات بعزوفها عن الوقود الأحفوري، وتقديم دعم توازي قيمته ما قدمه هذا البلد للبيئة، أضف إلى ذلك إمكانية وضع جزء من المعونات الخارجية التي تقدمها البلدان المتقدمة لتكون مخصصة لتدعيم تلك السياسات البيئية في الدول النامية.
بينما ينعقد في باريس مؤتمر المناخ في أواخر هذا العام، يتوقع البعض أن يتم اتخاذ خطوات ملموسة، ووضع أهداف واضحة، لتقليل الانبعاثات، وهو تفاءل تعززه الخطوة الأمريكية الصينية التي أعلنها كل من الرئيسين باراك أوباما وشي جينبينغ في اتفاق تاريخي يخص البيئة رحّب به الجميع بالنظر لكونهما الاقتصادين الأكبر في العالم، والأكثر تلويثًا للبيئة بطبيعة الحال، وسيكون المؤتمر فرصة لترى البلدان النامية ما إذا كان الغرب جادًا بالفعل في مساعدتها على سلك طريق “أخضر” لنموها.