في مارس الماضي، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى الرياض التقى فيها الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز في اجتماع مُغلَق يبدو وأنه قد مهّد الطريق لتقارب تركي سعودي، وهو تقارب أفصح عن نفسه أول مرة في عملية عاصفة الحزم التي تقودها السعودية في اليمن، حيث أعلنت تركيا عن دعمها للعملية وانتقدت سياسة التوسّع الإيرانية في المنطقة، وهو ما دفع البعض للتكهّن بأن أنقرة الآن قد دخلت بقوة إلى معادلة الصراع الطائفي لتضع ثقلها في “المعسكر السني” كما يُسمّى، وتقف بوجه الدور الإيراني.
قد يكون لتلك التكهّنات بالطبع دلائل على الأرض، لا سيما حدة الخطاب التركي تجاه إيران مؤخرًا وخاصة فيما يخص اليمن، بيد أن الاعتقاد بأن أنقرة ستبيع طهران لصالح الرياض هو تبسيط مُفرِط يتغافل عن الكثير من تفاصيل العلاقات التركية السعودية، وعن الأسباب الاستراتيجية التي دفعت تركيا إلى التقارب مع الرياض مؤخرًا.
بين أنقرة والرياض
منذ اندلاع الربيع العربي، اتسعت الهوة بين تركيا والسعودية بشكل كبير حيال ملفات عدة، أبرزها صعود الإسلاميين في المنطقة العربية، ودعم مطالب الربيع بشكل عام، والتي أعلن عنها وزير الخارجية آنذاك أحمد داوود أوغلو صراحة حين قال بأن سياسة تركيا في الشرق الأوسط ستكون “أخلاقية” بالأساس بعد الربيع العربي، و”ستدعم مطالب الديمقراطية والشرعية الشعبية”، وهاجم الأنظمة “العتيقة” الحاكمة لقمعها لمطالب شعوبها، بل ووصل به الأمر في ديسمبر الماضي إلى اتهام السعودية صراحة بوقوفها مع الغرب لتقويض الديمقراطية في الشرق الأوسط.
ازدادت الهوة مرة أخرى بعد وقوع الانقلاب في مصر في يوليو 2013، حيث انحازت أنقرة بقوة لصالح الإسلاميين بينما ظهرت الرياض كأبرز داعم للنظام الجديد، كما ظهرت اختلافات واضحة حيال الملف السوري رُغم اتفاق الطرفان على ضرورة سقوط بشار الأسد، إذ دعمت تركيا المجموعات الإسلامية مثل جبهة النصرة وأحرار الشام، في حين مالت السعودية لصالح المجموعات الثورية القومية مثل جبهة ثوار سوريا وحركة حزم في إطار استراتيجيتها الرافضة لصعود الإسلاميين.
بصعود الملك سلمان بعد وفاة الملك عبد الله، وقع التغيّر بالأساس في الموقف السعودي من ملفات عدة، وهو في الحقيقة السبب الرئيسي في التقارب التركي السعودي الحادث مؤخرًا، لا اقتراب تركيا كما يظن البعض، إذ يبدو من التحركات السعودية الأخيرة أنها منصبة بالأساس على احتواء الدور الإيراني، ولا تبالي بمواجهة الإسلاميين في هذه اللحظة، وكل ما هنالك أن تركيا قد اقتنصت تلك اللحظة السعودية لتعزيز الأواصر مع الرياض في سبيل ترسيخ ذلك التوجه الجديد الأقل انحيازًا لصالح النظام في مصر، والأكثر قبولًا للتعاون والحوار مع الإسلاميين في مصر وسوريا، لا سيما وأن حلفاء السعودية في الساحة السورية يتلقون ضربات موجهة من جبهة النصرة ستجعل الرهان السعودي عليهم خاسرًا في كل الأحوال.
بالنظر لكل ذلك، لا يبدو أن الاجتماع بين أردوغان وسلمان في الرياض كان تدشينًا لانضمام تركيا للمعسكر السني، كما تريده السعودية الآن، بل محاولة تركية في الواقع لدعم التوجهات الجديدة في الرياض لصالح الاستراتيجية التركية في المشرق ومصر، وهو ما يعني أن إعلان تركيا عن دعمها لعاصفة الحزم لم يكن سوى محاولة لكسب ود الرياض لن تتطور أبدًا إلى مشاركة تركية حقيقة بوجه إيران أو حلفائها، خاصة وأن وصول إيران إلى البحر الأحمر يُعَد مرفوضًا في أنقرة، وتجاوزًا للدور الإيراني التاريخي المعتاد في مساحاته المعروفة في المشرق.
بين أنقرة وطهران
أردوغان مع نظيره الإيراني حسن روحاني أثناء زيارته لطهران الأسبوع الماضي بعد إعلان الاتفاق النووي مع الغرب
على عكس ما قد يظن كثيرون في تلك اللحظة، لطالما نظرت تركيا لإيران بشكل مختلف تمامًا عن السعودية، فرُغم العداوة التاريخية بين البلدين والتي امتدت على مدار قرون الحكم العثماني في تركيا والصفوي في إيران، إلا أن الموقف التركي الذي تبنته أنقرة منذ بدء حُكم العدالة والتنمية كان براجماتيًا، ولم يلتفت على الإطلاق لأي اختلافات طائفية أو أيديولوجية بين البلدين، بل عمّق الروابط التجارية بشكل لافت سبب أحيانًا المشاكل لتركيا مع الولايات المتحدة التي ضغطت كثيرًا ليلتزم الأتراك بالعقوبات الدولية على إيران.
تُدرِك تركيا أن الجغرافيا والتاريخ يمنحان لإيران دورًا كبيرًا في المنطقة مثلما يمنحانها، وهي لا تحاول أن تقوّضه أو تحتويه، ولكن أن تخلق توازنًا يسمح لكل طرف بلعب دوره دون أن يطغى على الآخر، وهو ما جاء بوضوح في كتاب العُمق الاستراتيجي لرئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو، والذي وصف مصر وإيران وتركيا بـ”المُثلث الإقليمي” للشرق الأوسط الذي يجب أن يضم بين ثناياه كافة الدول الأضعف للنهوض بالمنطقة، فتركيا بموقعها تستطيع لعب دور في سوريا وشمال العراق، وإيران في منطقة الرافدين وجنوب العراق، ومصر في شمال أفريقيا وبقية الشام.
يعني هذا أن تركيا تنظر لإيران كما ينظر الألمان للروس؛ لاعب طبيعي يجب التعامل معه والسماح له بلعب دوره بالتوازي مع توطيد الشراكة السياسية والاقتصادية معه لامتلاك القدرة على التأثير عليه، لا مواجهته بشكل مفتوح دبلوماسيًا و/أو عسكريًا، وهي النظرة التي ينظر بها الأمريكيون للروس، وكذلك السعوديون للإيرانيين، وهو السبب الرئيسي في عدم وجود أي قلق في تركيا من البرنامج النووي الإيراني، إذ تُبدي المواقف الرسمية التركية تعاطفًا مع حق إيران في التخصيب في إطار مبدأ عام بحق أي بلد في الحصول على التكنولوجيا النووية، خاصة وأن تركيا تريد لنفسها هذا الحق أيضًا.
لذلك، وبينما تبدو السعودية الآن أبعد عن الموقف الأمريكي جراء اقترابه من إيران وإبرام الاتفاق النووي معها، والذي تتحفظ عليه الرياض مثلها مثل إسرائيل، تجد تركيا في الاتفاق فرصة كبيرة لتعزيز انفتاح إيران على الغرب واقتصاداته، وهو انفتاح طالما أرادته، أولًا نتيجة اعتمادها على الغاز الإيراني، والذي يشكل 20٪ من احتياجاتها، و90٪ من صادرات الغاز الإيرانية، وثانيًا لرغبة تركيا، وقدرتها، على الدخول بقوة في السوق الإيراني، تمامًا كما فعل الألمان في السنوات العشر الأخيرة مع الاقتصاد الروسي.
***
في المُجمَل، يبدو مستبعدًا أن تدخل تركيا إلى اللعبة الطائفية التي تحاول الخطوات السعودية الأخيرة تأجيجها لضرب الدور الإيراني، لا سيما بعد التوصل للاتفاق النووي بين إيران والغرب والذي تعتبره تركيا فرصة كبيرة لتوطيد شراكتها مع طهران، وهو ما دفع الرئيس التركي إلى زيارة طهران مباشرة فور الإعلان عن الاتفاق، أما التقارب مع السعودية فهو مرهون بالأساس باستمرار التوجهات الجديدة في الرياض الأكثر قبولًا، ولو مؤقتًا، للإسلاميين، والتي تحاول تركيا تعزيزها لاستخدام الدور السعودي في تحقيق أهدافها.
يستتبع هذا بالطبع أن تستخدم الرياض أنقرة لتحقيق أهدافها هي الأخرى، بيد أن لذلك حدود كما رأينا في اليمن، فالأتراك وإن دعموا بشكل رسمي العملية السعودية، إلا أنهم لم ولن يشاركوا أبدًا بوجه إيران على الأرض، وهو ما دفع السعودية للبحث عن شريك إقليمي أكثر قبولًا لمواجهة إيران هو باكستان، وأكثر رغبة في الدخول إلى تلك اللعبة الطائفية لتعزيز صورته كقوة إسلامية سنية، أما تركيا فهي لا ترى نفسها إلا كقوة إسلامية، مثلها مثل إيران، وبالتالي تعتبر طهران شريكًا أحيانًا وندًا أحيانًا أخرى، ولكن ليس عدوًا، وتُدرِك جيدًا أن آفاق الشراكة مع إيران أكبر وأهم بكثير لتركيا على المدى البعيد من الشراكة مع السعودية الضرورية لسياساتها على المدى القصير فقط ليس إلا.