هي أشبه بمدينة خيالية على كوكب آخر كما تخيّلها كتاب الخيال العلمي في ستينيات القرن الماضي، لاسيما وأن اسمها بالإنجليزية يملك وقعًا غريبًا على آذان الأجانب، ممن لا يعرفون التركية، يوحي وكأنها مدينة فضائية، وهي ربما كذلك بالفعل، إذ يبدو للناظر لها لأول وهلة وكأنه أمام مدينة ملاهي كارتونية شديدة الغرابة، قبل أن يُدرِك أنه في الواقع أمام العاصمة الكازاخستانية “أستانة”، دبي كازاخستان كما تُعرَف، والتي أنشئت من العدم بقرار جمهوري مثلها مثل أنقرة وواشنطن دي سي وبرازيليا.
إلى الغرب من مجموعة متفرقة من المباني السوفيتية، تظهر مباني الحداثة أو ما بعد الحداثة، سمّها كما شئت، الزجاجية، والتي تضم هرمًا ملونًا، هو مركز السلام والمصالحة الذي طلبه الرئيس خصيصًا بهذا الشكل، وخيمة كبيرة شفافة تضم مركزًا للتسوق، وقصر الرئاسة المطابق للبيت الأبيض، باستثناء قبته الزرقاء في محاولة ربما لإضفاء طابع قازاقي خاص، ودار الأوبرا المطابقة لمسرح البولشوي في روسيا، ومباني “الأضواء الشمالية” السكنية.
على الضفة اليمنى تقع منطقة تسِلينوغراد التي بناها السوفييت في إطار محاولات جلب النشاط الزراعي والصناعي للمدينة، والتي تضم مبانٍ مشابهة لبعضها البعض في تخطيط بسيط ورتيب معتاد مكون من خطوط متوازية من المباني السكنية والمنشآت الصناعية، وهي للمفارقة المنطقة التي لاتزال تضم معظم سكان المدينة رُغم انطلاق قلب أستانة الحداثي الجديد، لأنهم ببساطة لا يملكون السكن في أستانة الجديدة باهظة الأسعار، ولكن يكتفون بزيارة حدائقها العامة والنظر إلى مبانيها العجيبة.
مدينة المستقبل
خيمة خان شاتير
في عام 1997 قرر الرئيس الكازاخستاني نورسلطان نزارباييف نقل عاصمة بلاده من ألماطي إلى مدينة أقمولا، والتي تغيّر اسمها إلى أستانة (وتعني العاصمة بالتُركية)، لتبدأ عملية إنشاء مدينة كاملة من لا شيء، حيث كانت أستانة مجرد قطعة أرض خالية، باستثناء المواقع التي استخدمها السوفييت لسجن زوجات كل من اتُهِم بالخيانة، ليقبعن تحت نير العمالة القسرية في مدينة تتراوح درجات الحرارة فيها بين -40 في الشتاء و30 في الصيف في واحدة من أكثر مدن العالم برودة، وأشدها قسوة من ناحية تقلبات الحرارة بين الفصول.
فور الإعلان عنها، نجح المعماري الياباني كيشو كوروكاوا في الحصول على حقوق تخطيط المدينة، لتصبح حقل تجارب لأفكاره عن العمارة الحديثة المستقبلية، والتي انتمت لحركة “ميتابوليست” المعمارية، التي حاولت البناء وفق نموذج يحاكي الطبيعة في نموها العضوي، وكأن مبانيها جزء من العالم الطبيعي بشكل حرفي، وهي واحدة من مدارس العمارة ما بعد الحداثية.
وفق هذه الفلسفة، تم بناء الخيمة الأكبر في العالم، المستوحاة من الحياة البدوية البسيطة لأتراك مرتفعات أسيا الوسطى، وهي مستوحاة من حياتهم فقط من الخارج، إذ تضم تلك الخيمة الشفافة مركزًا تسويقيًا وترفيهيًا باسم “خان شاتير” (ومعناها السرادق الملكي) يتمتع فيه القازاق بالتسوق بمعزل عن طقس مدينتهم القاسي، وقد صمم ذلك المبنى المعماري البريطاني لورد فوستر المعروف بتصميماته الحداثية عالية التكنولوجيا (عمارة الهاي تِك)، التي تعتمد كما هو واضح على جذب الأنظار أكثر منها على تقديم تصميم قابل للاستخدام بيُسر أو العيش فيه.
بالإضافة إلى ذلك، يقع في منطقة قلب المدينة الجديد برج “بايتِرِك” (الشجرة الحورية)، وهو عبارة عن برج حديدي بما يشبه البيضة في أعلاه في إشارة إلى أسطورة الطائر سمروق الذي يضع بيضة له كل عام على “شجرة الحياة”” وهو أيضًا مبنى صممه نزارباييف بنفسه وطلب بناءه من لورد فوستر، وبين البرج وقصر الرئاسة تقع مجموعة مباني الوزارات، والتي تضم برجين ذهبيَّين.
مسجد نور أستانة
بالقرب من هذه المنطقة يقع مسجد نور أستانة، الذي بُني بمنحة قطرية، وهو ثاني أكبر مسجد بالمدينة، وعلى مسافة بضعة كيلومترات يجري بناء تجمّع أبو ظبي بلازا برأسمال مليار دولار، وهو المشروع الإماراتي الذي سيجلب المزيد من ناطحات السحاب لأستانة، بما فيها أطول برج في أسيا الوسطى، في مؤشر واضح على وصول المنافسة الحادة بين قطر والإمارات إلى تلك المدينة البعيدة الباردة.
مدينة الرئيس
من المعروف للكثيرين أن أستانة هي مشروع نزارباييف الخاص الذي أشرف بنفسه على الكثير من مبانيه، بل وصمم بعضه كما ذكرنا آنفًا، فقاعة المؤتمرات المواجهة لقصر الرئاسة، والتي تحاكي في شكلها وريقات زهرة وهي تنفتح، بنيت تحت إشراف نزارباييف مباشرة كما قال مصممها الإيطالي مانفريدي نيكوليتّي ذات مرة، “كل شيء هنا تحت نظري؛ أنتم وتنفيذ المبنى”، هكذا كان يقول الرئيس مازحًا لمنفّذي المشروع.
“نزارباييف لم يعط المدينة جهده وتصميماته فقط، بل أعطاها روحه”، كذا قال مرة الرئيس الروسي السابق مدفِديف، والحقيقة أن مدن كهذه غالبًا ما تقف خلفها إرادة رجل واحد، ومثلها مثل أنقرة التي تضم متحفًا خاصًا لمؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، وبرازيليا التي تضم متحفًا لمؤسسها كوبيتشك، يوجد في أستانة متحفًا للرئيس نزارباييف، والذي نجح في تحقيق حلم مدينته المستقبلية بفضل عوائد البترول، بل ووضع لك عزيزي الزائر نسخة من التخطيط الأوليّ الذي خطه بيده أعلى برج بايتِرِك لتطلع عليه.
عدا مدينته الخاصة، والتي تجذب بعض المعماريين الغربيين حداثيي النزعة، لا يبدو أن شيئًا آخر يجذب الكثيرين حيال الرئيس نزارباييف، والذي تقع بلاده في المرتبة 142 فيما يخص حرية الصحافة، وفي المركز 120 على قائمة الدول الفاسدة (حيث تقبع الدولة الأقل فسادًا في المركز الأول)، كما أنه يحصل عادة على أكثر من 90% من أصوات الناخبين منذ استقلت بلاده عن الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات، بيد أن بضعة من صناع القرار المحافظين في الغرب يشهدون له – كالعادة – بقدرته على جلب الاستقرار إلى البلاد.
الرئيس القازاقي نورسلطان نزارباييف
بشكل عام، لا يبدو أن أستانة قد جذبت الكثيرين من شتى أنحاء كازاخستان، إذ لم يتجاوز تعدادها المليون بعد في بلد يضم أكثر من 15 مليون شخص، في حين تضم العاصمة القديمة ألماطي ما لا يقل عن ضعف السكان، وهو ما يجعل المباني الضخمة في وسط المدينة هنا، مثل استاد أستانة أرينا الذي يسع لـ30،000 شخص، أي حوالي 3% من سكان المدينة، وقاعة الاحتفالات الكبيرة التي تسع لثلاثة آلاف، وكأنها محاولة لخلق حجم أكبر لتلك المدينة الفضائية الصغيرة.
***
في ساعات ما بعد الظهيرة، وبينما يجلس القازاق في الساحات العامة، تحاوطهم تلك المباني العملاقة من كل اتجاه، في إشارة لهيمنة الدولة والسوق، وبالطبع قبضة نزارباييف، تُطلِق خيمة خان شاتير العنان لأضوائها التي تلون سماء أستانة في المساء، إلى جانب أضواء مبنى السلام الهرمي، وكذلك أضواء الأشجارة الاصطناعية المصنوعة من الحديد، والنوافير التي تنطلق في كل مكان في عروض مُحكَمة، أما عدا ذلك العرض المبهر الذي يحاول أن يجذب أنظار ساكني المدينة وزوارها، لا يبدو أن أستانة كمدينة تحتوي على حياة حقيقة، مثل حانات باريس أو مسارح لندن أو مهرجانات برلين أو عروض الشوارع في ريو دي جانيرو أو أسواق فاس، بل ولربما لم تنجح حتى أن تصبح حيوية مثل دبي، إذ يبدو أن القازاق، على عكس عرب الخليج، غير متأقلمين مع فوضى وضوضاء السوق، وهم القادمون من ماضٍ سوفيتي رتيب لايزال يُلقي بظلاله ويغرس قيمه عبر التعليم الروسي، سبقته قرون طويلة من الحياة البدوية البسيطة والهادئة، وهو ربما سبب آخر لبقاء البعض في مقاطعة تسِلينوغراد السوفيتية بشرق أستانة.