استيقظت هناء سلطان من سريرها قبل الفجر، قامت بإطعام طفلها، أجابت على رسائل البريد الإلكتروني، ومن ثم ذهبت إلى صالة الألعاب الرياضية، وحينما قاربت على دخول منزلها الواقع في فولز تشيرش فيرجينيا، اتصل بها أحد العاملين في مجال حقوق الإنسان؛ “لديه جلسة أمام المحكمة غداً” قالت سلطان للمتصل وهي تدخل المنزل، وأضافت “إنه يخطط للتحدث مع القاضي”.
شكلياً، وبالنسبة للذين لا يعرفونها، تبدو سلطان أمّاً أمريكية نموذجية، فهي تضطلع بالكثير من الأعمال دفعة واحدة، وتعتني بطفلين وأم مريضة، وأيضاً بإخوتها الصغار الذين يحتاجون إلى رعايتها، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن هناء المبتسمة دائماً والبالغة من العمر 29 عاماً، تعمل الآن –بحكم الواقع- كقائد فعلي لإنقاذ عائلتها المهددة بالموت.
والد سلطان هو سياسي معارض مصري من الإخوان المسلمين، تم اعتقاله في مصر قبل عام ونصف العام وحُكم عليه بالاعدام الشهر الماضي، وفي ذات الوقت، يقبع شقيقها محمد، وهو مواطن أميركي يبلغ من العمر 27 عاماً وخريج من جامعة ولاية أوهايو، في ذات السجن المصري، وحياته مهددة نتيجة لإضرابه عن الطعام، وباعتبارها أكبر أشقائها الخمسة، تولّت سلطان دور القيادة لإنقاذ عائلتها، حيث تعمل على كتابة البيانات الصحفية، ومتابعة محاكمات شقيقها ووالدها، والضغط على حكومة الولايات المتحدة سعياً لإعادة لمّ شمل العائلة.
تشير سلطان أن أصدقائها ومعارفها- أغلبهم من العرب أو المسلمين- يدعمون سعيها وتوجهاتها، ورغم أن أغلب المهاجرين يدركون معنى أن تكون العائلة بعيدة عنهم، ولكن قلة فقط اختبروا شعور أن تكون عائلاتهم تواجه الموت في سجن أجنبي بعيداً عنهم.
تقول سلطان “من الطريف رؤية الأشخاص المتعاطفين وهم يتحايلون لإيجاد طريقة لإظهار هذا التعاطف” وأضافت “الناس يسعون لإبداء مشاعرهم، ولكنهم يتحاشون إثارة هذا الموضوع في كل مرة، كونهم يعتقدون أنه يجعلني مستاءة”، ولكن في الحقيقة هذا الأمر لا يسوؤها، كون سلطان -الأخصائية الاجتماعية السابقة- تصف نفسها بقولها “أنا إنسانة عملية” وتضيف ضاحكة “العاطفة ليست جزء من حياتي، لأن عليّ القيام بمهامي، والاستمرار بالتركيز بشكل دائم”.
تعمل سلطان بمثابة همزة وصل ما بين المحامين وأفراد الأسرة والمسؤولين والناشطين في مصر والولايات المتحدة، حيث تقوم بترجمة الأخبار والمعلومات وتمررها إلى القانونيين على جانبي المحيط الأطلسي، وإلى أصدقاء شقيقها محمد الذين تطوعوا لإدارة صفحة “حرروا سلطان” على فيسبوك وتويتر، وفي واشنطن، تعمد إلى مساعدة المحامين لفهم النظام المبهم –والفاسد غالباً- للقضاء المصري.
مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية
تشير وزارة الخارجية الأمريكية أنها ناشدت مصر على أعلى مستوى، داعية لإطلاق سراح محمد سلطان لأسباب إنسانية، ولكن البعض، مثل روبرت مكاو من مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية -مجموعة دفاع عن حقوق المسلمين مقرها واشنطن-، يقولون أن الحكومة الأمريكية لا تبذل جهوداً كافية تجاه محمد سلطان كونه مسلم و يتمتع بجنسيتين (الأمريكية والمصرية).
ويقول مكاو شارحاً “وفقاً لمسح أجرته مؤسسة بيو في عام 2014، فإن الرأي العام الأمريكي يصنف قتلى المسلمين في المرتبة الأخيرة تحت قتلى باقي الأديان أو الملحدين، وهذا بالطبع قد يؤثر سلباً على سياستنا الخارجية، وإلى أي مدى نحن على استعداد للدفاع عن المسلمين المعتقلين في الخارج”.
ما يعرقل مهمة هناء ويجعلها أكثر صعوبة هو أن مصر هي حليف أساسي للولايات المتحدة، وجماعة الإخوان المسلمين، هي جماعة سياسية محظورة هناك، كما أنها لا تتمتع سوى بعدد قليل فقط من الأصدقاء في واشنطن.
وفي خضم هذا السعي السياسي المحموم، وبغية إضافة مظاهر الحياة الطبيعية إلى حياة الأسرة، تعمد سلطان وزوجها وليد نصار، إلى إشغال طفليهما -الأول بعمر الـ3 سنوات والآخر بعمر الـ9 أشهر- باللعب المستمر، كما تخرج العائلة لتناول العشاء بشكل دوري،ويجري دوماً الترتيب لالتقاط صور للعائلة.
سلطان تعمل كل يوم تقريباً بلا إجازات أو استراحات، وتشير إلى هذا العمل على أنه جزء من الجهود المتضافرة لتخسيس بعض الوزن الزائد الذي اكتسبته بعد ولادة طفلها، حيث تواظب على عملها الاستشاري مع الشركات والمنظمات المحلية والدولية، وتقدم أعمال اجتماعية واستشارية بشكل تطوعي للأئمة المحليين في سعيهم الدائم نحو نبذ العنف الأسري في المجتمع المسلم.
ولكن هذه المسؤوليات يمكن أن تكون مرهقة للغاية، فمثلاً في صباح أحد الأيام، ذعرت سلطان من المسؤوليات الكثيرة التي يجب عليها أن تتعامل معها في ذات الوقت، حيث كان عليها التعامل مع الوصول الوشيك لأهل زوجها، وأخذ الأطفال لحلاقة شعرهم، والاتجاه فوراً للإلتقاء مع موظف من البيت الأبيض من أجل قضية شقيقها، وحول هذا تقول سلطان “لم أكن لأتخيل نفسي قادرة على إدارة كل هذه الأمور، سابقاً كنت عاملة اجتماعية مكتبية مختصة بمجال الحضانة، وهذا كان مساري الوظيفي فقط”.
المسؤوليات والصعوبات
سلطان دائمة الابتسام، حتى عندما تناقش مسؤولياتها والصعوبات التي تجثم على كاهلها، وتشير ضاحكة أن طفلها الصغير يعتبر اللغة العربية على أنها “لعبة أطفال” لأن جدته فقط هي من تتحدث معه بهذه اللغة، وتتغير شكل ابتسامتها لتصبح ساخرة عندما تتحدث عن تدفق الدعم إلى أخيها من أناس لم تلتقِ بهم قط.
هناء سلطان وأشقاؤها نشؤوا في أسرة مترابطة بكل وثيق ومحافظة دينياً، غادر والداها مع العائلة من مصر إلى الولايات المتحدة عندما كان الأطفال صغاراً، متنقلين بين عدة ولايات من ماساشوسيتس إلى كانساس إلى ميشيغان وأوهايو، ويشير نصار الذي التقى زوجته هناء في الجامعة، أن والدها صلاح سلطان، هو داعية إسلامي وزعيم اجتماعي بارز ولطالما جلب عمله معه إلى المنزل، حيث كان منزل الأسرة مكاناً لمناقشة القضايا الاجتماعية والدينية علناً وبوجود الأطفال، وبناء عليه يقول نصار “هناء اختبرت الضغوطات الاجتماعية في عائلتها في سن مبكرة، وأعتقد أن هذا رسّخ لديها معرفة دائمة بالطريقة التي يجب أن تتصرف بها عندما تسوء الأمور”.
وفعلاً كانت الأمور تسوء أحياناً، ففي إحدى المناسبات اتهمت جماعات يمينية صلاح سلطان بتعاطفه مع الإرهابيين، وقبل ثلاث سنوات في ولاية أوهايو، تم تشويه سيارة محمد سلطان ومنزل العائلة في أعمال معادية للمسلمين، وفي وقت لاحق، تم إضطرام النار في المنزل فيما وصفه المحققون بأنها جريمة نابعة من شعور الكراهية تجاه المسلمين، ولكن بالنسبة لهناء، فقد رفضت تعميم هذه الحادثة، كونها تعتقد أن معظم الأميركيين متسامحين، والهجمات هي عمل فئة منحرفة فقط حيث تقول “أعتقد أن هذه الأحداث كانت بمثابة تصعيد ينذر بالخطر، ولكن مستوى الجهل الذي يجب أن يتمتع به الشخص لارتكاب هكذا جريمة يجعلك تشفق عليه بدلاً من الغضب مما حصل”.
والد ووالدة سلطان انتقلا إلى مصر في عام 2012 للمشاركة في الحكومة المنتخبة حديثاً والتي تتولاها جماعة الإخوان المسلمين، ولكن عندما تم تشخيص والدتها بسرطان الثدي بعد عدة أشهر، تركت هناء وظيفتها، وسافرت مع شقيقها محمد إلى القاهرة لمساعدة الأم، وعادت هناء إلى ولاية فرجينيا بعد فترة قصيرة، أما محمد الذي أغراه التحول السياسي في مصر، فقد وجد وظيفة هناك وبقي للعمل مع والديه.
ولكن في يوم 14 أغسطس 2013، انتقلت حظوظ العائلة إلى منحى جديد نحو الأسوأ، وذلك حين اندفع عمر سلطان إلى غرفة نوم شقيقته الكبرى في فولز تشيرش فيرجينيا على عجل، وقال لها ولزوجها أن الشرطة المصرية شنت غارة عنيفة على مخيم الاحتجاج في القاهرة، وحينها كانت الاعتصامات والاحتجاجات تعم البلاد بعد أن قام الجيش المصري بخلع الرئيس محمد مرسي، من منصبه قبل عدة أسابيع، وهناء وعمر كانا يدركان أن والدهما وشقيقهما محمد كانا في المخيم.
تسابق الشقيقان نحو الطابق السفلي وتسمرا أمام أجهزة الكمبيوتر المحمول في غرفة المعيشة المظلمة، وبدأت هناء بالمرور على الصور ومقاطع الفيديو المنشورة على وسائل الإعلام الاجتماعية حول الحملة العنيفة، حيث قالت “أستطيع التعرف على والدي وشقيقي من ملابسهما، هكذا كنت أفكر وأنا أشاهد الصورة الدامية الناجمة عن الحملة الشرسة واحدة تلو الأخرى”.
في نهاية المطاف تأكدت هناء أن والدها وشقيقها كانا على قيد الحياة، ولكن في أعقاب الفوضى التي أتبعت الغارة، تبعثر أفراد الأسرة وتفرقوا بشكل كبير، فوالدة هناء وشقيقتها الصغرى، عادتا إلى الولايات المتحدة لتعيشان مع هناء وزوجها، أما الوالد فقد حاول الاختباء لفترة، بيد أنه تم القبض -مع قادة الإخوان الآخرين- في وقت لاحق من ذات الشهر، وشقيقها محمد الذي تعرض لطلق ناري وسط الفوضى، تم اعتقاله عندما داهمت الشرطة منزل العائلة في القاهرة.
محمد سلطان، الذي كان يعمل كصحفي مدني ومتحدث غير رسمي باسم مخيم الاحتجاج، يواجه اليوم العديد من التهم المتعلقة بالإرهاب والتآمر، وهي التهم التي تصفها العائلة بأنها زائفة، وفي يناير كانون الثاني عام 2014، باشر محمد إضراباً عن الطعام احتجاجاً على احتجازه، ولكن في الأسابيع الأخيرة، حثت هناء شقيقها – من خلال الرسائل التي تصله عن طريق المحامين – بالتخلي عن إضرابه، حيث فقد الوعي عدة مرات، وأصبح ضعيفاً لدرجة أنه يتم تم نقله إلى قاعة المحكمة على نقالة أثناء جلسات الاستماع.
منذ فترة قريبة، اعترفت هناء أنها تشعر بالتعب والإجهاد، حيث تقول “هناك الكثير من القرارات التي يجب اتخاذها في الأسبوع المقبل، لأنه من المقرر صدور الحكم على محمد يوم السبت، ولا بد لي من أن أقرر فيما إذا كان علينا استئناف القرار أو الاتجاه نحو الضغط لإصدار عفو رئاسي”.
خلال لحظات راود ذهن هناء مشروع مدونة منظمة العفو الدولية، ورمقت الكمبيوتر المحمول المفتوح أمامها على الأريكة، وتذكرت مشروع الاستشارات الذي يجب عليها أيضاً أن تعمل به، “لم أستطع التركيز، وقمت بالبحث في غوغل عن أعراض فقدان التركيز التي أعاني منها، وتوضح لي وجود حالة تسمى شلل التحليل، وهي تصيبك عندما تشعر أنك غير مزود بكافة الحقائق التي تحتاج لها لاتخاذ قرار، لكنك مع ذلك مجبر على اتخاذه”، قالت هناء وهي تضحك بخجل.
خارج نافذة منزلها، كانت الأمطار الربيعية الخفيفة تهطل بهدوء، وطفلها البالغ من العمر 3 سنوات كان يعلب بالسكوتر خارجاً، نظرت إليّ هناء وقالت بابتسامة عريضة “بالنسبة له، إنها لا تمطر” وتنهدت بعدها مطولاً.
المصدر: واشنطن بوست