ترجمة وتحرير نون بوست
لبضعة أسابيع في الخريف الماضي، اختفى جامع قرطبة – موقع التراث الإسلامي الأكثر أهمية في أوروبا – من الخريطة، أو على الأقل، من خرائط جوجل، فلو قام سائح بالبحث عن الطريق المؤدي إلى جامع قرطبة في منتصف نوفمبر الماضي، فلم يكن ليجد نتيجة إلا تحت اسم كاتدرائية قرطبة، في إشارة إلى دار العبادة الكاثوليكية التي تقبع داخل جدران الجامع القديم.
اختفاء الجامع الأكثر شهرة في إسبانيا – وأحد أكبر مناطق الجذب السياحي في البلاد – من خرائط جوجل، ولّد موجة من الغضب العام، حيث غمر الإسبان محرري خرائط جوجل برسائل البريد الإلكتروني الساخطة، وأطلقت مجموعة من النشطاء في قرطبة التماسًا على الإنترنت يطالب خرائط جوجل بإعادة كلمة “جامع” لاسم الصرح التاريخي، واتهمت العريضة أسقف قرطبة بالاستيلاء الرمزي على الصرح، كما حذرت أن تغيير اسم الـمَعلم التاريخي بجرة قلم، يمحو جزءًا أساسيًا من تاريخ البلاد، واستطاعت هذه العريضة جمع أكثر من 55.000 توقيعًا في أقل من ثلاثة أيام، وبالمحصلة وفي 25 نوفمبر، أعادت جوجل التسمية إلى الاسم الرسمي الذي اُستخدم منذ أوائل الثمانينيات “جامع وكاتدرائية قرطبة”.
ولكن هذا الحدث الذي تم توصيفه بالحادث، لايزال يكتنفه الغموض، فالكنيسة الكاثوليكية نفت أي تورط لها بالموضوع، أما إدارة جوجل، وفي تصريح لجريدة البايس الإسبانية، قالت إن المعلومات حول خرائطها “نابعة من مصادر متنوعة للغاية”، ولكن الفترة الوجيزة التي شهدت الاختفاء غير المبرر للجامع من على الخريطة، كانت تلمّح للإسبان بنهج أكثر سوداوية، يتمثل بالجهود المستمرة التي تهدف لمحو آثار التراث الإسلامي للصرح التاريخي الذي كان يومًا القلب الفكري والروحي النابض لشبه الجزيرة الإيبيرية.
في القرن العاشر الميلادي كانت قرطبة المدينة الأكثر إثارة في أوروبا وربما في العالم بأسره، حيث اشتهرت المدينة وتباهت بشوارعها المعبدة والمضاءة، ومياهها الغادقة، وآلاف المحلات التجارية التي تضمها، وثروة المكتبات الخاصة والعامة التي تضمها، بما في ذلك مكتبة الخليفة، التي تحتوي على أكثر من 40.000 كتابًا، وكان جوهرة تاج مدينة قرطبة هو الجامع الضخم الذي تم بناؤه بتكليف من عبد الرحمن الداخل في عام 785م، وتوسع في بنائه فيما بعد خلفائه في الدولة الأموية التي حكمت قرطبة، وفي 929م أعلن الأمويون الخلافة في قرطبة، في محاولة لجعل هذه العاصمة مركزًا للعالم الإسلامي بأجمعه.
جامع قرطبة كان رمزًا للسلطة الأموية وبذات الوقت كان مركزًا للحياة الفكرية والثقافية في المدينة، فتبعًا لضخامته الكافية لإيواء أكثر 40.000 شخص، خدم الجامع على صعيدين: الصعيد الأول ديني، حيث كان الوجهة الرئيسية للصلاة في المدينة، وعلى صعيد آخر كان وجهة ثقافية وعلمية حيث كان جامع قرطبة جامعة تضم النخبة المثقفة في العالم الإسلامي الغربي، وحافظ البناء على ذات الاحترام عندما استسلمت قرطبة لقوى فرديناند الثالث عام 1236، حين حول الحكام المسيحيون الجدد الجامع إلى كاتدرائية، مع الحفاظ على اتجاه محراب الصلاة فيه – نحو مكة المكرمة – والاحتفاظ بطابعه الإسلامي المتمثل بالأقواس المحدبة (على شكل حدوة حصان) والملونة باللونين الأحمر والأبيض.
في أوجه، كان جامع قرطبة تجسيدًا للإنجازات الثقافية في الأندلس – الاسم العربي لشبه الجزيرة الإيبيرية في العصور الإسلامية -، أما اليوم، فإن هيكله الهجين – كاتدرائية داخل جامع – يجسد حالة مثالية مختلفة، كون المبنى يستحضر الماضي المتجانس المفترض للمنطقة التي عاش فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود معًا في سلام، وهذا التجانس يتمثل بالفكرة الإسبانية التي يشار لها باسم كونفيفنثيا “Convivencia” أو “التعايش”.
ولكن مع ازدياد هشاشة التعايش في إسبانيا العصر الحديث، أصبحت البلاد حاليًا – رغم ماضيها الإسلامي – موطنًا للتعصب والمشاعر المعادية للإسلام في الغرب؛ ففي عام 2013، أظهر استطلاع للرأي أُجري من قِبل مؤسسة برتلسمان أن 65% من الإسبان يرون أن الإسلام غير متوافق مع العالم الغربي، وبهذا حققت إسبانيا نسبة أعلى من فرنسا 55% وبريطانيا 45%.
وفي ذات الوقت، تتطلع إسبانيا لفرض نفسها كدولة رائدة في المحادثة الجارية حول علاقة أوروبا المضطربة على نحو متزايد مع الإسلام – وهي المحادثات التي تُعقد في قرطبة والأندلس -، حيث تحاول إظهار نفسها على أنها رمز دولي للانسجام بين الأديان ووجهة رئيسية للسياحة والأعمال الإسلامية.
ووسط هذه التجاذبات يقف جامع قرطبة، حيث أصبح نقطة محورية في الجدالات الشرسة التي تناقش الكيفية التي يستطيع من خلالها الماضي الإسلامي لإسبانيا صياغة حاضرها ومستقبلها.
التلاعب بالتاريخ والاستياء العام
اختفاء الجامع لفترة قصيرة من خرائط جوجل في نوفمبر الماضي، هو أحد فصول النزاع الآخذ بالتطور حول اسم الصرح التاريخي ومعناه، فمنذ عام 2006، عمدت كاتدرائية قرطبة، وهي فرع من الكنيسة الكاثوليكية التي تدير الموقع، إلى إخراج كلمة “جامع” ببطء من عنوان المعلم التاريخي في المطبوعات الصادرة عنها والمنشورات على الإنترنت حول الموقع، والآن يمكن القول إن الموقع يُطلق عليه رسميًا اسم “كاتدرائية قرطبة”.
قامت الكنيسة أيضًا بتنقيح المنشورات السياحية حول الموقع بغية التأكيد على هويته المسيحية، فالكتيب السياحي الرسمي الذي صدر عام 1981 أشاد بالمعلم التاريخي بقوله “إنه المعلم الرئيسي للإسلام الغربي، وخلاصة النمط الإسباني الإسلامي في أعظم بهائه وصوره”، ولكن في منتصف العقد السابق، قامت الكنيسة بإطلاق كتيب جديد لا يأتي على ذكر التاريخ الإسلامي للموقع، وبدلًا من ذلك ذكرت المقدمة أن المبنى أصبح الكنيسة الأم للأبرشية في عام 1236، ويستمر الكتيب بقوله “منذ ذلك الحين وحتى الآن، احتفلت الكاتدرائية يوميًا في هذا المعبد الجميل والفخم بطقوس العبادة الجليلة، حيث يأتي المجتمع المسيحي للاستماع إلى كلمة الله والمشاركة في الطقوس الدينية”، وتختم المقدمة الجديدة بالتماسها من الزائرين للكاتدرائية احترام الهوية الدينية لهذا المعبد المسيحي، وهبطت فترة حكم المسلمين في الكتيب الجديد إلى الشريط الجانبي الصغير حيث تمت عنونة الفقرة باسم “التدخل الإسلامي”.
في الواقع، يهدف الكتيب الجديد لإقناع الزائر أن المبنى كان معلمًا مسيحيًا قبل الحكم الإسلامي، وأن الخمسة قرون التي حكم بها الإسلام قرطبة، كانت مجرد قوسين صغيرين ليس إلا في التاريخ المسيحي الطويل لهذه المدينة، وعلم الآثار يلعب دورًا هامًا في هذه الرواية، حيث موّلت الكنيسة الحفريات في تلك المنطقة في محاولة لتوثيق وجود كنيسة القوط الغربيين، المتمثلة بكاتدرائية سانت فنسنت، تحت أقدم جزء من الجامع، ويقول الكتيب في أحد أجزائه “حقائق التاريخ تشير أن كاتدرائية سانت فنسنت صُودرت ودُمرت من أجل بناء الجامع فوقها لاحقًا في الفترة الإسلامية”.
اليوم، وعند زيارتك للموقع، فإن أول شيء سيواجهك هو حفرة على الأرض مغطاة بالزجاج، يمكنك من خلالها رؤية الفسيفساء المستخرجة، والتي تعزوها لوحة مجاورة لها لكاتدرائية سانت فنسنت، ولكن مع ذلك فإن التنقيب داخل المعلم الأثري هو – في أحسن الأحوال – تخميني، حيث تقول المؤرخة سوزانا كالفو كابيلا، المتخصصة في تاريخ المبنى، في محاضرة عامة ألقتها بمدينة قرطبة في أكتوبر الماضي، أن الاكتشافات الأثرية لا تقدم أي دليل واضح على وجود الكنيسة في موقع بناء الجامع الذي شيّد بالقرن الثامن للميلاد.
إن اعتداء الكنيسة على اسم المعلم التاريخي والتراث الإسلامي، ولّد غضبًا محليًا في قرطبة، لكن الغضب الشعبي لم يثر الاهتمام الوطني والدولي حتى العام الماضي، وذلك عندما تدخلت مجموعة ضغط مؤلفة من نشطاء يطلقون على أنفسهم اسم “تجمع جامع وكاتدرائية قرطبة”، وأطلقت الجماعة عريضة على الإنترنت في أوائل عام 2014، مطالبين فيها أن تتم استعادة كلمة “جامع” إلى الاسم الرسمي للصرح التاريخي، كما دعت إلى إدارة الموقع من قِبل السلطة العامة، بدلًا من الكنيسة الكاثوليكية، العريضة جمعت حتى الآن حوالي 400.000 موقّعًا، بما فيهم مشاهير من المثقفين مثل المهندس المعماري البريطاني نورمان فوستر والكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، وبالإضافة إلى ذلك، جذبت أنشطة التجمع اهتمام العديد من وسائل الإعلام الدولية، بما في ذلك محطة بي بي سي والجزيرة، وفي ديسمبر عام 2014، أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، التي تضم عضوية 52 دولة، بيانًا أدانت فيه تغيير اسم الموقع، ووصفت هذا التصرف بأنه “محاولة لطمس معالم التاريخ الإسلامي في الأندلس، واستفزاز للمسلمين في جميع أنحاء العالم، وخاصة المسلمين في إسبانيا”.
بالنسبة لأعضاء جماعة الضغط، فإن جامع وكاتدرائية قرطبة هو أكثر من مجرد مكان عادي، فهو “نموذج عالمي للوئام بين الثقافات”، على حد تعبير عريضتهم، ويقول ميغيل سانتياغو المتحدث باسم الجماعة “إن الفكرة الجوهرية للدفاع والحفاظ على نموذج قرطبة هي لاسترجاع المجد التاريخي لما كانت تمثله قرطبة في القرنين التاسع والعاشر، باعتبارها منارة للأديان، وذلك بالنسبة للمسلمين والكاثوليكيين واليهود، وجميع الأديان على حد سواء”.
النظرة التاريخية
المؤرخون اليوم ينقسمون بين مؤيد ومعارض لتسمية الحكم الأموي في قرطبة بعصر التسامح الديني، فالعلماء الذين يسعون لتفريغ سمعة قرطبة بوصفها نموذجًا للانسجام بين الأديان يسترجعون حادثة “شهداء قرطبة”، وهم المسيحيون الذين أُعدموا في المدينة في القرن التاسع لإهانتهم الإسلام علنًا، والعديد من المؤرخين يشيرون أيضًا إلى أن استخدام المفهوم الحديث للتسامح لوصف العلاقات الاجتماعية في القرون الوسطى ينطوي على مغالطة تاريخية كبيرة.
ولكن بالتأكيد هناك مواقف وحالات مقنعة حول التسامح الديني في الفترة الإسلامية في إسبانيا، والأشخاص الذين يسعون للاحتفال بالأندلس باعتبارها جامعة لثقافة متعددة الأديان يسلطون الضوء على أشخاص مثل حسداي بن شبروط، وهو قرطبي يهودي شغل منصب المستشار الشخصي والطبيب والدبلوماسي للخليفة عبد الرحمن الثالث – عبد الرحمن الناصر لدين الله حكم من 912 إلى 961 -، وأيضًا الكاتب والشاعر اليهودي دوناش بن لبرط، الذي أدخل أوزان الشعر العربي إلى العبرية للمرة الأولى، ويعتبر مؤسس العصر الذهبي للشعر العبري.
وفي خضم النظرات المتباينة السابقة، فإن الحقيقة المؤكدة هي أننا نبني وجهة نظرنا حول العلاقات بين الأديان في قرطبة الإسلامية بالاعتماد على أرشيف مجزأ، يزودنا بلمحات عابرة فقط عن الحياة اليومية في المدينة، وإن الطريقة التي ننسج بها هذه اللمحات معًا ضمن قصص متماسكة عن الماضي، تعتمد بشكل كبير على الأرشيف التاريخي، وأيضًا على الآمال والرغبات والمثل العليا للماضي والتي نسلط عليها الضوء في الحاضر؛ فسواء كانت حالتي حسداي ودوناش عبارة عن حالتين تثبتان الثقافة القرطبية المتسامحة في القرون الوسطى أم لا، فإن حياتهما تستمر في إلهامنا على وجه التحديد لأنها توفر توازنًا لعالمنا، وذلك في خضم الصراعات التي لا تعد ولا تحصى ما بين المسلمين واليهود والمسيحيين في يومنا هذا.
التسامح القرطبي نموذج من العصر الحديث
يمكننا القول إن التأكيدات حول التسامح في قرطبة الإسلامية تدلل على تأزم الوضع الحالي ما بين الديانات، أكثر من دلالتها على التسامح في القرون الوسطى، حيث أصبحت فكرة تسامح قرطبة متعددة الثقافات أكثر قوة في مرحلة ما بعد تفجيرات سبتمبر في أمريكا، وخدمت هذه الفكرة في كثير من الأحيان كعامل مصحح لعقلية صراع الحضارات التي تضمنت عصر الحرب على الإرهاب والتي بدأت في عهد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش؛ فمثلًا استخدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما نموذج قرطبة بالتسامح في خطابه الشهير في القاهرة عام 2009، وعلى ذات وتر التسامح لعب الزعيم الإسلامي الذي كان خلف الفكرة المثيرة للجدل ببناء مسجد في مكان انهيار برجي التجارة في نيويورك، الإمام فيصل عبد الرؤوف، حيث اقترح تسمية المركز الثقافي الإسلامي التابع لهذا المسجد باسم “بيت قرطبة”، لأن قرطبة – على حد تعبيره – تستحضر المكان والزمان الذي عاش فيه اليهود والمسيحيين والمسلمين فيما كان يعرف آنذاك بالمجتمع الأكثر تنورًا وتعددية وتسامحًا على وجه الأرض.
أصبحت فكرة التسامح في مدينة قرطبة حجر الأساس لإستراتيجية التسويق للعاصمة السابقة للخلافة الإسلامية، وتهديد الهوية الإسلامية لجامع وكاتدرائية قرطبة، يقوّض الجهود التي بذلها كبار رجال الأعمال وكبار المثقفين في قرطبة والهادفة إلى تصوير المدينة كوجهة رئيسية لسياحة المسلمين، ولتصبح أكبر منتج أوروبي في مجال الطعام والخدمات الحلال (الخالية من المحرمات الإسلامية)؛ فوفقًا لتقرير نُشر في ديسمبر، أنفق العالم الإسلامي على السفر في عام 2013 حوالي 140 مليار دولار، وهو ما يشكل 11.5% من مجمل الإنفاق العالمي على السفر، كما أنفق 1.3 تريليون دولار على الطعام، وهو مايشكل 17.7% من مجمل الإنفاق العالمي على الطعام، ومع تزايد المنافسة الدولية للحصول على حصة من سوق الحياة الإسلامية العالمي، تتجه مدينتا قرطبة وغرناطة – المدينتان الأكثر دلالة على حضارة الأندلس الإسلامية – لقيادة إسبانيا نحو هذه السوق الجديدة، حيث تشاركت حكومة مدينة قرطبة مع العديد من المنظمات الإسلامية الإسبانية بغية إنشاء “مجموعات حلال” في قرطبة، والتي ستستضيف حوالي 1300 شركة متخصصة في إنتاج الطعام والخدمات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية في المدينة التي يصل معدل البطالة فيها إلى حوالي 34%.
عندما أعلن معهد حلال – الذي يقوم بوسم الأغذية والمنتجات الحلال في إسبانيا – عن مشروع “حلال قرطبة” على موقعه على الإنترنت في أواخر عام 2014، ذكر المعهد أن التاريخ المتعدد الثقافات لمدينة قرطبة جعلها المكان المنطقي لإطلاق المبادرة، حيث جاء في البيان “داخل الضمير الجماعي للمسلمين، قرطبة هي نقطة مرجعية تاريخية للحضارة الإسلامية في الغرب، وبالتالي ما نبحث عنه عندما نزور هذه المدينة، هو العثور على مكان يحمل قيم الوئام والاحترام المتبادل والحرية الدينية والتنوع”.
استطاع مشروع “حلال قرطبة” رفد وكالات السفر الإسبانية التي تركز حصرًا على السياحة الإسلامية في إسبانيا، وذلك مثل وكالة النور والضحى للخدمات السياحية الحلال، حيث يأتي معظم عملاء الوكالة – المتخذة مدريد كمقر لها – من جنوب شرق أسيا أو دول الخليج، وتقول فلورا سايز، مديرة الوكالة – مسيحية المولد والتي اعتنقت الإسلام فيما بعد – “قرطبة هي أسطورة وترمز إلى بهاء الماضي المفقود”، وأضافت “لقد رأينا عدد كبير من عملائنا يبكون من فرط العاطفة عند زيارتهم لجامع قرطبة”.
طرق الأندلس، هي وكالة سياحية أخرى، تستهدف مجموعات الشباب المسلم في الدول الغربية، حيث يقول مدير الوكالة طارق محمود، المولود في باكستان والذي ترعرع في برمنغهام – إنجلترا، “سافرت إلى إسبانيا في سن المراهقة في رحلة مع أصدقائي، وفي ذاك الوقت، كنت أواجه أزمة هوية، لأنني كنت أشعر أنني غير متقبل في المجتمع البريطاني، ولكن زيارة المواقع التراثية الإسلامية في إسبانيا، زودني بحلقة الوصل المفقودة بين هويتي الأسيوية المسلمة وهويتي الغربية”، وأضاف “أعتقد أن السفر إلى إسبانيا يمكن أن يساعد المسلمين الأوروبيين الشباب على إدارك أنه لا يوجد تناقض ما بين هويتهم المسلمة وهويتهم الأوروبية”.
محاربة الوجود الإسلامي في إسبانيا
العلماء والصحفيون على حد سواء يتجهون لصياغة الوجود الإسلامي في أوروبا باعتباره ظاهرة ما بعد الحرب، حيث شهدت عواصم مثل باريس ولندن تحولات ديموغرافية في أعداد السكان المسلمين، وإسبانيا أيضًا شهدت مثل هذه التحولات؛ فوفقًا لآخر تعداد للسكان المسلمين في إسبانيا، يوجد حاليًا حوالي 1.858.409 مسلمين يعيشون في إسبانيا، وحوالي 800.000 من هذا التعداد هم من المواطنين المغاربة، ومعظمهم قادم من المناطق الشمالية من المغرب، والتي كانت جزءًا من الوصاية الإسبانية على المغرب بين عامي 1912 و1956.
إن ما يميز المسلمين في إسبانيا ليس التركيبة السكانية إنما الاندماج الاجتماعي، فالمسلمون في فرنسا مثلًا يعتبرون بمثابة تحدٍ جديد لقيم الجمهورية القديمة – وعلى وجه الخصوص فكرة العلمانية -، أما مسلمو إسبانيا، فيمكنهم الاعتماد على التاريخ الإسلامي للبلاد من أجل توصيف أنفسهم كجزء أساسي من الهوية الإسبانية، بدلًا من اعتبارهم كإضافة دخيلة على النسيج الاجتماعي.
ولكن التصعيد الأخير للإسلاموفوبيا في إسبانيا، تحدى جهود الإسبان المسلمين الرامية للاندماج ضمن النسيج الاجتماعي للدولة، حيث انتهج اليمين الإسباني سياسة الترويع والتهويل من عودة الاحتلال الإسلامي إلى إسبانيا؛ ففي المؤتمر الصحفي الذي عُقد في قرطبة في نوفمبر الماضي، اتهم سانتياغو أبسكال، زعيم حزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف، جماعة الضغط – التي طالبت باستعادة كلمة “جامع” إلى الاسم الرسمي لجامع وكاتدرائية قرطبة – بأنها “تمد الجماعات الجهادية بشريان حياة”، كما حذر من أن “قرطبة وغرناطة والأندلس هي ضمن تطلعات وأيدولوجيات الجماعات الإسلامية الراديكالية”.
وفي الفترة التي تسبق الانتخابات الأندلسية في 22 مارس، قام حزب فوكس بترويج مقطع فيديو لاذع، نشره على موقع يوتيوب، حول جامع وكاتدرائية قرطبة، ويتضمن المقطع نشرة أخبار وهمية تتحدث عن المستقبل في مارس من عام 2018، تعلن مقدمة الأخبار فيها أن حكومة الأندلس صادرت الكنيسة التي بداخل الجامع، وأصدرت قرارًا “بحصر الجامع من الآن فصاعدًا، لصلاة المسلمين فقط”، وينتقل المشهد بعدها إلى مراسلة وهمية في قرطبة، ويتم تصويرها وهي ترتدي الحجاب، وتقدم تقريرها الذي يشير أن أكثر من 20 دولة إسلامية أرسلت مندوبين لتهنئة الحكومة الأندلسية على قرارها، وأكبر وفد حضر من إيران، وتختم التقرير بقولها إن أكثر من مليوني مسلم يخططون للانتقال إلى قرطبة لإعادة التواصل مع ماضيهم وثقافتهم، وهنا يتوقف المقطع لتظهر شاشة سوداء، تقول “هل تريد أن يكون المستقبل كهذا؟ لايزال بوسعنا تغييره، فوكس”.
الفيديو حقق أكثر من 300.000 مشاهدة في أقل من أسبوع، وأصبح حديث المدينة في قرطبة، ولكن الاستجابة الواسعة لفيديو حزب فوكس لم تتم ترجمتها إلى أصوات، لأن الحزب لم تتجاوز عدد أصواته في انتخابات مارس 0.33% من الأصوات في المدينة، وعلى الرغم من ذلك، لا مندوحة من القول إن هذا الفيديو الاستفزازي يذكرنا بالخلفية المعادية للإسلام التي يكشفها نقاش جامع وكاتدرائية قرطبة.
لقائي مع ميغيل سانتياغو، المتحدث باسم جماعة جامع وكاتدرائية قرطبة، كان في يوم 8 يناير، أي بعد يوم واحد من هجمات تشارلي إيبدو، لذا كانت الأحداث الباريسية تهيمن على حديثنا تقريبًا، وفي معرض اللقاء أشار سانتياغو أن صرح جامع وكاتدرائية قرطبة بعمارته وأصوله الهجينة، يعمل كترياق للفكر المتطرف الذي كان خلف الهجمات التي اجتاحت باريس، فهذا الصرح – كما قال – “هو مرآة عالمية لنقول للعالم إن الحياة المتعددة الثقافات ممكنة، وإن التعايش ما بين الأديان ممكن، لأن البشر مختلفين”، كما وصف أنطونيو مانويل رودريغيز وهو مسؤول آخر في الجماعة، ثقافة قرطبة في التسامح بقوله “إنها أداة اجتماعية مفيدة للغاية، لمجابهة علاقة أوروبا المتوترة على نحو متزايد مع الإسلام”.
أعضاء مجموعة الضغط ليسوا وحدهم من يرون أن الجدل حول جامع وكاتدرائية قرطبة هو جزء من نقاش أوسع حول التعايش المتعدد الديانات، والثقافات في أوروبا المعاصرة، فمثلاً قام خوان لويس سيبريان، رئيس صحيفة البايس الإسبانية، بكتابة افتتاحية حيّا فيها ضحايا هجمات تشارلي إيبدو، وانتقد أيضًا أسقف قرطبة لإزالة كلمة “جامع” من اسم جامع وكاتدرائية قرطبة، وفي ذات المقالة، اتهم سيبريان الأسقف بمهاجمة مسلمي إسبانيا وإثارة مواقف الكراهية والتطرف، وبعد بضعة أسابيع كتب الصحفي غويليرمو ألتريس في مقالة بذات الصحيفة، أن قرطبة تُضيّع الفرصة لتصبح قطبًا للحوار ما بين الأديان، في وقت أصبح معه هذا الحوار ضروريًا أكثر من أي وقت مضى”.
مهما كانت شدة أو ضعف تداعيات الأحداث الدولية نتيجة لظاهرة الإسلاموفوبيا، فإن المسلمين في إسبانيا قد شعروا بهذه التداعيات بشكل واقعي، فجميع المسلمين الذين قابلتهم بغرض إعداد هذه المقالة، رووا قصصًا حديثة حول المضايقات التي تعرضوا لها هم أو أصدقائهم عند زيارتهم لجامع وكاتدرائية قرطبة، وعندما سألت كامل مخيلف، رئيس رابطة المسلمين في قرطبة، عن هذه القصص، أجاب “هذه ليست قصصًا، إنها وقائع، فقبل 10 أيام، جاء شخصان عربيان – زوج وزوجته – إلى إسبانيا، واصطحبتهما لزيارة الجامع، ورغم أن الحراس هناك يعرفونني جيدًا، ولكن باللحظة التي دخلنا بها الجامع، بدأ الحراس يتحدثون مع بعضهم على أجهزة الاتصال اللاسلكية بغية رصدنا ومراقبة تحركاتنا، لأن لديهم خوف من أن كل مسلم سيدخل إلى هناك سيحاول الصلاة”.
في عام 2006 قام الرئيس السابق للمجلس الإسلامي في قرطبة منصور اسكوديرو، بتحرك دولي هام عندما التمس من البابا بنديكت تحويل كاتدرائية قرطبة إلى مساحة عالمية مفتوحة لصلاة جميع المسلمين والمسيحيين، وعندما تم رفض هذا الالتماس، بدأ اسكوديرو بتأدية صلاة الجمعة خارج جامع وكاتدرائية قرطبة احتجاجًا على قرار الكنيسة، وبعد وفاته في عام 2010، تراجع المجلس الإسلامي عن دعوته لاستخدام الموقع كمساحة عالمية.
ولكن بالنسبة لمخيلف، المسألة لا تتعلق بالسماح للمسلمين بالصلاة في جامع وكاتدرائية قرطبة، بل المسألة المزعجة في الحقيقة تكمن في أن بعض الإسبان غير المسلمين لا يريدون أن يعترفوا أن تاريخ قرطبة الإسلامي هو جزء من تاريخهم، ويقول شارحًا “هناك محاولة لتزييف التاريخ، ولجعل الإسبان يعتقدون أن الحضارة الإسلامية التي سادت قرطبة في القرون الوسطى، هي حضارة غريبة عنهم، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن هذه الحضارة نبعت من هنا وهي قرطبية، والفلاسفة والأطباء الذين اشتهروا في تلك الفترة ليسوا من شبه الجزيرة العربية أو من الجزائر أو المغرب، بل هم قرطبيون”.
ما بين الماضي والحاضر
في يونيو عام 1766، مرّ السفير المغربي في إسبانيا أحمد بن المهدي الغزال، بقرطبة وهو في طريقه إلى مدريد للتفاوض على معاهدة السلام بين إسبانيا والمغرب، وهذه الرحلة بالنسبة له كانت تشبه العودة إلى الوطن بشكل أو بآخر؛ ففي عام 1492، تم طرد أجداد الغزال من شبه الجزيرة الإيبيرية، وبعبوره لمضيق جبل طارق، كان غزال يعبر أيضًا على عتبة التاريخ، ليشكل صلة وصل ما بين الحاضر والماضي، وليعيد الصلات مع أحد أعظم فترات التعايش والرقي الثقافي في التاريخ الإسلامي.
كانت قرطبة وجامعها الشهير محور جولة الغزال التاريخية، حيث زار غزال قرطبة بعد أكثر من 500 سنة على الاحتلال المسيحي، ولكن عندما دخل إلى الـمَعلم الأكثر شهرة في المدينة، قال إنه لا يرى الكاتدرائية، وبدلاً من ذلك، رأى تاريخ قرطبة حين كانت مهدًا لأكثر من 70 مكتبة، ومنارة لأشهر فلاسفة وأطباء وشعراء العالم.
وجاء في كتابات الغزال “لقد تذكرنا ما حدث هنا في زمن الإسلام، جميع العلوم التي كانت تُدرّس هنا، وجميع الآيات القرآنية التي كانت تُتلى هناك، وجميع الصلوات التي أُجريت هنا، وعدد المرات التي دُعي فيها لله تعالى هناك، وبدأنا نتصور أن جدران الجامع وأعمدته ترحب بنا، وتواسينا من حزننا العميق، حتى بدأنا نشعر بها، واحتضنا الأعمدة، واحدًا تلو الآخر، وقبّلنا جدران وأسطح الجامع”.
اليوم، يتبع 1.5 مليون زائر سنويًا خطى الغزال إلى جامع وكاتدرائية قرطبة، على أمل إلقاء نظرة على الحقبة التي كان فيها الجزء الأكثر تقدمًا من الناحية الثقافية من أوروبا يدين بالإسلام، وأحد هؤلاء الأشخاص هو سعد بورقادي، المهندس المغربي من الرباط، والذي كان يزور قرطبة كل عام على مدى السنوات الثلاث الماضية، بموجب عضويته في الجمعية الثقافية المغربية التي تنظم رحلة سنوية إلى المواقع التراثية الإسلامية في إسبانيا في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة.
ولكن في فبراير من هذا العام قال لي بورقادي إن جماعته لا تخطط لزيارة قرطبة هذه السنة، لأنهم يخافون من زيارة الجامع، وأشار إلى ذلك بقوله “لقد حصل تغيير جذري في معاملة المسلمين هناك، فعندما تدخل الجامع، ويلاحظ الحراس أنك مسلم، يسارعون فورًا لتنبيهك أن الصلاة ممنوعة”، وعندما زار بورقادي وجماعته الجامع في صيف عام 2014، كانوا يتوقعون أن يحذرهم الحراس من الصلاة، ولكن ما لم يتوقعوه هو أن الحراس سيراقبونهم ويتبعونهم خلال مسيرتهم من قسم إلى آخر، للتأكد من أنهم لم يقوموا بمجرد محاولة للصلاة، ويعلق بورقادي على الموضوع بقوله “إن مضايقات الحراس للزوار المسلمين شديدة، لدرجة تعتقد معها أنهم يسعون لكي تتأكد أنهم يضايقونك”، وذكر بورقادي أن مجموعته كانت تزور الموقع بذات الوقت الذي كانت فيه مجموعة من السياح اليابانيين تقوم بجولة فيه، وكان من الملاحظ أن المجموعة الأخيرة تمكنت من التجول والتقاط الصور دون أي مراقبة من الحراس، ولكن من جهته نفى المتحدث باسم الكاتدرائية أن تكون الأخيرة قد أعطت أي تعليمات خاصة لحراس الأمن حول كيفية التعامل مع الزوار المسلمين.
أخيرًا، تبقى قرطبة وجامعها رمزًا هامًا لبورقادي وزملائه المغاربة، وللملايين الذين ينحدرون من أصول أندلسية، وفي الواقع، كرس الدستور المغربي الصادر عام 2011 الأندلس باعتبارها عنصرًا رئيسيًا من “الهوية الوطنية المغربية”، والتي يعرفها الدستور بأنها “تمسك الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار”، أي بالمختصر التعايش، وأن روح الحوار المتعدد الثقافات هي التي اجتذبت بورقادي المهندس، ليصبح مؤرخًا هاويًا ومتحمسًا للبحث في التاريخ الإسلامي في إسبانيا، حيث يقول “أعتقد أن دراسة الأندلس هي وسيلة لخلق أرضية مشتركة مع إسبانيا، إنها وسيلة لجمع إسبانيا والمغرب معًا”، ولكن على الرغم مما تقدم، فإن بورقادي لا يشعر أنه مرحب به في بلد أجداده إسبانيا، وفي الوقت الحاضر، لا يخطط للعودة إليها بتاتًا.
المصدر: فورين بوليسي