هناك كارثة ديمغرافية محققة تنتظر قرية شلادن – وِرلا، الواقعة بولاية سكسونيا السُفلى الألمانية Lower Saxony على الحدود السابقة بين ألمانيا الغربية والشرقية، كما يقول عُمدة القرية أندرياس ميميرت، إذ تتوقع المؤشرات أن تفقد القرية حوالي ثُلث سكانها بحلول عام 2030، وهو هبوط بدأ يظهر في انكماش الكثير من الأنشطة، مثل خدمات الباص والمدارس والبنوك والمحلات والمكتبات، والتي تغلق الكثير منها أبوابها نظرًا لقلة الطلب، لتدفع بمن تبقى من السكان إلى البدء في مشاريع مناسبة للتعداد الضئيل؛ مثل تقديم خدمات المايكروباص بدلًا من الباصات الكبيرة، واندماج الخدمات الحكومية مع بعض المحال.
تمتلك ألمانيا واحدة من أكثر شعوب العالم انكماشًا واتجاهًا نحو الشيخوخة، ورُغم أن مواربة الباب أمام المهاجرين قد قلل نوعًا ما من سرعة ذلك الهبوط، إلا أن التوقعات تشير إلى عدم قدرتها على التعافي ديمغرافيًا بالمعدلات الحالية، حيث سيفوق التعداد السكاني البريطاني، البالغ حاليًا حوالي 65 مليون، نظيره الألماني، البالغ حاليًا حوالي 80 مليون، بحلول عام 2030، طبقًا لتقديرات الاتحاد الأوروبي، نظرًا لسياسات لندن المنفتحة تجاه استقبال المهاجرين والذين يجلبون معدلات مواليد عالية، وهو ما سيتيح للبريطانيين بالتبعية أن يتفوقوا على ألمانيا اقتصاديًا في العقود المُقبلة.
ألمانيا تفتح باب الهجرة
لهذه الأسباب، بدأت ألمانيا في السنوات الأخيرة في اتخاذ إجراءات عدة لجذب المهاجرين إليها، لتصبح العام الماضي أكثر بلد جاذب للمهاجرين في العالم بعد الولايات المتحدة، إذ انتقل إليها ما لا يقل عن 400.000 مهاجر في زيادة ملحوظة عن معدلات الهجرة في العقود السابقة، وهم مهاجرون يأتون بالأساس من أوروبا الشرقية الفقيرة والمضطربة، ومن دول جنوب أوروبا المأزومة اقتصاديًا، ومن دول الشرق الأوسط.
“الكل ينتقل إلى ألمانيا، لقد قابلت مجموعة مختلفة من الثقافات والإثنيات خلال شهر واحد فقط من بقائي هنا”، هكذا يقول جوفان، موسيقار فرنسي ترك بلاده واتجه إلى برلين، والتي تحل تدريجيًا محل باريس كقلب القارة الأوروبية ثقافيًا، وليس سياسيًا فقط، نتيجة قدوم الكثير من الجنسيات المختلفة إليها بحثًا عن العمل، وكذلك عن الحركة الثقافية الحيوية فيها، حيث يبلغ الآن تعداد الأجانب في ألمانيا 7.6 مليون، وهو أكبر رقم منذ بدء إحصاءات المهاجرين أصلًا عام 1967.
“المهاجرون بالطبع ذوو أعمار أقل من الألمان، ولذلك نرحب بهم هنا، ونحن مهتمون بشكل خاص بالطلبة وخريجي الجامعات، وهو ما يدفع الحكومة لتسهيل الإجراءات لهم، ومحاولة خلق ثقافة ترحيب بالأجانب في البلد هنا”، هكذا تحدث إنغريد توتشي، من المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية، عن سياسات ألمانيا الجديدة، والتي تقدم دروسًا مجانية أو رخيصة في اللغة الألمانية للمهاجرين، بالإضافة إلى دورات تدريبية للراغبين في الحصل على الجنسية.
بطبيعة الحال ترحّب الحكومة الألمانية بكل القادمين إليها من الخارج ترحيبًا حارًا لأنها تدرك أهميتهم في إبقاء نمو تعدادها واقتصادها في المستقبل، بيد أن الألمان، والذين لم تكن بلادهم أبدًا مجتمعًا من المهاجرين ولم تفتح أبوابها في الماضي للكثيرين من الأجانب، لا يبدو أن كلهم يستقبلون الهجرة بالترحاب، إذ توجد قطاعات من المتطرفين ممن يمارسون العنصرية ضدهم، ويرفضون قدومهم إلى ألمانيا.
تاريخ الألمان والهجرة
لطالما أصرّت القيادة الألمانية حتى وقت قريب على أن بلادهم ليست مجتمعًا للمهاجرين مثل الولايات المتحدة، في محاولات لتهدئة النزعات العنصرية والمعادية للأجانب في شرائح معيّنة من المجتمع الألماني، لاسيما وأن السنوات الأولى بُعَيد إعادة توحيد ألمانيا قد ركزت على تنمية ألمانيا الشرقية اقتصادية والاستفادة من العمالة الجديدة فيها لتوسيع سوق ألمانيا الغربية وقوتها الصناعية.
بطبيعة الحال، ظل الأتراك هم مجموعة المهاجرين الوحيدة في ألمانيا نتيجة جلب ألمانيا الغربية لهم بعد الحرب العالمية الثانية، وهم مجموعة معزولة بطبعها نتيجة الثقافة التركية المغلقة، وهو ما خلق في الواقع مشاكل كثيرة للحكومة الألمانية التي أرادت أن تدمجهم في الثقافة الألمانية قدر الإمكان، كما قال هِلموت كول، المستشار الألماني السابق، وهي محاولات لا يبدو أنها نجحت بالكامل حتى الآن، كما تشي تجمعاتهم السكنية المغلقة وأقمارهم الصناعية الخاصة التي يقومون عبرها بمتابعة القنوات التركية بالأساس بمعزل عن التأثيرات الثقافية الألمانية.
بطبيعة الحال، خلقت تلك الحالة التركية صورة سيئة نوعًا ما عن المهاجرين في ألمانيا، لاسيما مع الاختلافات الدينية وليس الثقافية واللغوية فقط، وهو ما يدفع بعض الحركات المتطرفة حاليًا إلى الظهور مرة أخرى لمواجهة موجات الهجرة التي بدأت الحكومة في رعايتها في السنوات الأخيرة بعد أن توسّع الاقتصاد الألماني ولم يعد يكتفي بما حصل عليه من منابع ألمانيا الشرقية ومواردها البشرية.
هل يقبل الألمان الهجرة؟
على العكس من هِلموت كول، لا يبدو أن القيادة الحالية مهتمة باندماج الأقليات بقدر اهتمامها بخلق تفتّح بين الألمان لفكرة وجود الكثير من المهاجرين، وهو ما أتى صراحة في كلمات الرئيس الحالي يواخيم جاوك، “انظروا إلى بلدنا لتروا كيف تبدو غريبة تلك الدعوات إلى ضرورة بقائها متجانسة ومُغلقة وذات لون واحدة، بالطبع ليس سهلًا للبعض أن يعوا ماذا يعني أن تكون ألمانيًا، ولكن الحقيقة هي تعريف الهوية يتغيّر باستمرار”.
من جانبها، تؤكد حكومة أنغلا ميركل المسيحية المحافظة على ضرورة الالتزام بسياسات حرية الحركة التي تأسس عليها الاتحاد الأوروبي، لاسيما وأن أغلب المهاجرين حتى الآن هم من أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد في أواخر العقد المنصرم، وهي في المقابل تؤكد بين الحين والآخر على ضرورة أن يلتزموا بالحديث بالألمانية وبأسس المجتمع الألماني الليبرالية.
لا تجد تلك الكلمات صدى بالطبع لدى كل الألمان، إذ يبدو أن هناك من لا يرغب في استضافة بلاده لهذه الأعداد من المهاجرين، وهو ما يدفع البعض تجاه حزب “البديل لألمانيا” (Alternative für Deutschland) اليميني، والذي يريد غلق باب الهجرة وفرض قيود على العمالة الأجنبية وإخراج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذلك لحركة بيغيدا (PEGIDA)، وهي اختصار تجمّع “الأوروبيون الوطنيون ضد أسلمة الغرب”، والتي أصبحت حديثًا يوميًا في بعض المدن بمسيراتها الضخمة ضد الإسلام.
“نريد البطاطس لا الكباب”، هكذا تقول إحدى اللافتات التي حملتها واحدة من أنصار بيغيدا، في إشارة إلى رفض الروافد الثقافة الأجنبية، لاسيما التركية بالطبع المنتشرة هنا، والتي تمثل ثلاثة ملايين مهاجر في ألمانيا، وهي دعاوى ردت عليها ميركل في رأس السنة بخطاب موجه ضد اضطهاد المسلمين، بل وشاركت بنفسها في مسيرة مضادة لبيغيدا قائلة إن قلوبهم تحمل الكراهية، في خطوة غير مسبوقة من قيادي رسمي ألماني نحو المهاجرين.
مع تزايد الهجمات ضد اللاجئين أيضًا في الفترة الأخيرة، والذين تستقبلهم ألمانيا بقوانين منفتحة نسبيًا، ومع تزايد غضب الشرائح المتطرفة من المهاجرين، يزداد على الناحية الأخيرة ميل الحكومة والمؤسسات إلى فكرة قبول المهاجرين، وهو موقف يحرصون على نشره بين الألمان بتذكيرهم بمغبة العنصرية، والذين يعرفونها جيدًا من تاريخهم النازي شديد الحساسية هنا.
***
كنيسة كولونيا تطفئ أنوارها تضامنًا مع المسلمين
بينما شهدت مدينة كولونيا تظاهرات ضد المسلمين العام الماضي شارك فيها حوالي خمسة آلاف، قامت كاتدرائية كولونيا، واحدة من أشهر معالم ألمانيا، بإغلاق أضوائها تضامنًا مع المسلمين والمهاجرين، في إشارة واضحة إلى تنامي قوة التيار المرحب بالهجرة حتى بين الكنائس والشرائح المحافظة المسيحية التي تمثلها الحكومة.
ما إذا كانت ألمانيا ستصبح في النهاية مجتمعًا مهاجرًا كالولايات المتحدة هو أمر ستكشف عنه العقود المقبلة، ولكنها بلا شك ستصبح على أقل تقدير معقلًا من معاقل المهاجرين، مثل بريطانيا، إذا ما أرادت أن تحتفظ بمكانتها الاقتصادية والثقافية في أوروبا والعالم.