ترجمة وتحرير نون بوست
بعد أربعين عامًا على اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، مازالت عائلات آلاف الأشخاص الذين اختفوا خلالها، تعاني من آثار الصراع والقتال اللبناني الدامي، بغية معرفة مصير أحبائهم.
“نريد فقط أن نعرف ماذا حدث لهم، نريد قبرًا لهم حيث يمكننا ترك الزهور”، قالت وداد حلواني رئيس لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين لوكالة فرانس برس.
الحرب الأهلية اللبنانية استمرت لمدة 15 عامًا دموية من 1975 وحتى 1990، وابتدرها في المقام الأول الصراع الذي نشب ما بين الجماعات المسيحية والفصائل الفلسطينية المدعومة من الأحزاب اليسارية والإسلامية، وانتهت باقتتال داخلي شامل اشتمل على تدخل إقليمي ودولي كبير، وأسفرت الحرب بالمحصلة عن مقتل أكثر من 150.000 شخص، وفقدان أكثر من 17.000 شخص وفقًا للأرقام الرسمية.
“هؤلاء الذين دفنوا أطفالهم كانوا قادرين على الحزن والبكاء عليهم، ولكن نحن لم نتمكن من إجراء الحداد”، قالت مريم السعيدي، التي اختفى نجلها ماهر الذي يبلغ 15 عامًا في عام 1982 أثناء قتاله قرب بيروت، وأضافت “إنها قضية لا يجب أن تموت”، قالتها بإصرار من شقتها التي تقع على الخط القديم الفاصل بين بيروت الشرقية المسيحية وبيروت الغربية المسلمة.
واقتداء بمنظمة أمهات بلازا دي مايو في الأرجنتين، انضمت السعيدي منذ عام 2005 إلى مخيم الاحتجاج الدائم المتمركز خارج مقر الأمم المتحدة في وسط بيروت، لكن رغم الاحتجاج الدائم والمستمر، ورغم الحملات المختلفة التي نشأت مطالبة بالكشف عن مصير المفقودين، رفضت أطراف الحرب الأهلية تبادل المعلومات حول المفقودين، “إنهم يرفضون إعادة فتح الملفات، قائلين إن هذا سيهدد السلم الأهلي، كما لو كانت البلاد تعيش في سلام”، قالت حلواني.
لبنان شهد العديد من موجات العنف منذ انتهاء الحرب، وتعرض لانتقادات جمة من المنظمات غير الحكومية الدولية متأتية عن الشعور بفقدان الذاكرة الجماعية الذي تعاني منه الأطراف اللبنانية فيما يتعلق بالصراع اللبناني الدامي.
نريد الحقيقة فقط
تقول كارمن حسون أبو جودة مديرة المركز الدولي للعدالة الانتقالية في بيروت “حتى نتعلم دروس الحرب، لا بد من التصدي للماضي”، وتضيف “لقد تم إغلاق الجرح بينما كان ملوثًا، مما أدى إلى إنتانه”، وتابعت بقولها “إن التحقيقات في مصير المختفين في بلدان أخرى لم تعمل على تذكية الصراع السابق”.
في عام 1991، أصدر لبنان قانون عفو عام واسع النطاق استفاد منه أمراء الحرب وزعماء المليشيات في البلاد، وأفسح المجال أمام كثير منهم ليصبحوا قادة سياسيين، وتقول حلواني التي اُختطف زوجها أمام عينيها في عام 1982 “يستغرب الأشخاص في الخارج ويصابون بالدهشة عندما أقول لهم إننا لا نريد العدالة ولا نسعى لإلغاء قانون العفو العام، لا يمكننا وضع جميع القادة السياسيين في السجن، نحن نريد فقط أن نعرف الحقيقة ونتصالح مع الماضي”.
على الصعيد الرسمي، اعترفت حكومة لبنان في عام 2000 إثر ضغط الأقارب، بوجود مقابر جماعية في العاصمة، ولكن هذا الاعتراف لم يقترن مع أي جهد لتحديد هويات المدفونين، وفي العام الماضي، حكمت أعلى هيئة قضائية في البلاد أن عائلات المخطوفين لها الحق في معرفة مصير أقربائها، ولكن مع ذلك، لم يتم تحقيق أي تقدم يذكر في هذا المجال.
أما على صعيد المنظمات غير الحكومية، فقد عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ عام 2012 على جمع قاعدة بيانات تتضمن معلومات حول الأشخاص المفقودين جرّاء الحرب الأهلية اللبنانية، وقال فابريزيو كاربوني، رئيس اللجنة الدولية في لبنان “الجهود جارية للحصول على موافقة السلطات لجمع عينات من لعاب آباء وأمهات المفقودين الذين لايزالون على قيد الحياة، بغية إجراء تحليل للحمض النووي في المستقبل”.
كما صاغ المركز الدولي للعدالة الانتقالية مشروع قانون يقضي بإنشاء لجنة للتحقيق في قضية المفقودين، برئاسة الشرطة وبمساعدة علماء الآثار والأنثروبولوجيا المتخصصين، بيد أن هذا القانون مايزال بحاجة للموافقة عليه من البرلمان.
ألم لا نهاية له
في خضم نضالهم المحموم للحصول على المعلومات، يكافح العديد من أقارب المختفين على الجانب المعيشي متابعة حياتهم بشكل طبيعي، ويحاولون كبح الشعور الذي يساورهم بأن الوقت قد توقف عندما اختفى أحباؤهم من حياتهم، “ها هي أم عصام، لم تغادر منزلها منذ عدة سنوات لأنها مقتنعة بأن ابنها سوف يدق على الباب في أي لحظة”، قالت حلواني.
أمهات أخريات جلسن بجوار النافذة، على أمل إبصار أطفالهن وهم عائدون، وعائلات أخرى تركت غرف أطفالها المفقودين كما هي وبدون مساس منذ اختفائهم، ولكن الكثير منهم شهد كذب الوعود وتلاشي آمال لم الشمل، حيث تقول السعيدي “عندما كانوا يقولون لي إن ماهر سيتم تحريره، كنت أبدأ بالرقص، ولكن في اليوم التالي لا تأتينا أي أخبار، وعندها كنت أبكي وأصرخ باسمه طوال الليل”، وعلى الرغم من آلامها ومعاناتها، لا تحمل السعيدي أي رغبة في الانتقام، وتقول شارحة “أنا أؤيد قضية كل أمهات المفقودين، حتى أمهات عناصر القوات اللبنانية الذين قاتلوا ضد ماهر”.
تشير الوقائع أن من بين المفقودين العشرات من الأشخاص الذين تم نقلهم إلى سورية خلال الحرب وفي أوائل التسعينيات، ورغم أن دمشق نفت مرارًا وتكرارًا احتجاز سجناء سياسيين لبنانيين، بيد أن إطلاقات السراح التي أجراها النظام السوري من سجونه ما بين عامي 1976 و2000، أفرجت عن العديد من المعتقلين اللبنانيين.
ماري منصوراتي (83 عامًا) متأكدة أن ابنها داني لايزال على قيد الحياة، وذلك بعد أكثر من عقدين من الزمن على اقتياده لدمشق في عام 1992، وبيديها المرتجفتين، وسيجارتها التي لا تتوقف عن مجها واحدة تلو الأخرى في شقتها ببيروت، قالت لنا “أنا لم أعد أقابل الناس بعد الآن، لقد ارتديت الأسود كل هذه السنوات، أريد فقط أن يعود ليقول لي ماما”.
المصدر: وكالة الأنباء الفرنسية