هي البلد الوحيد الذي لم تستعمره قوة أوروبية طوال حقبة الاستعمار، وصاحبة التاريخ الطويل، والإرث الديني العريق، بدءًا من اليهودية التي انتشرت في مرتفعات إثيوبيا ولا تزال حية عبر تجمّعات صغيرة، ومن تاريخها المعروف في استقبال المهاجرين المسلمين الأوائل حين خرجوا من مكة، وحتى كنيسة المسيحيين الأرثوذكس العريقة التي ينتمى لها أغلب سكانها اليوم؛ إنها إثيوبيا، التي عانت طويلًا من الفقر والصراعات الداخلية التي نالت من حوالي مليون من سكانها حتى نجحت الجبهة الشعبية الديمقراطية الثورية الإثيوبية (حزب الجبهة اختصارًا) في الوصول للسلطة عام 1991، ليضع بلاده على خارطة النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي.
رُغم نجاحه الاقتصادي، يسير حزب الجبهة على خطوط النموذج الصيني بحذافيره، ولا يزال يحصل على الغالبية العظمى من أصوات الناخبين والمقاعد البرلمانية في انتخابات يصفها المراقبون دومًا بالمعيبة، إلا أن هذا لم يمنعه، كما لم يمنع الصين، من الصعود ببلاده كقوة إقليمية كبرى نجحت في تحقيق الكثير من أهداف الألفية التي حددتها الأمم المتحدة، مثل تقليل وفيات الأطفال والأمية ومكافحة الأمراض المميتة مثل الأيدز والملاريا، وتحقيق نمو بلغ في المتوسط 7٪ على مدار أكثر من عشر سنوات، في حالة أفريقية فريدة لا مثيل لها إلا بين النمور الآسيوية، ليُخرج الملايين من دائرة الفقر ويخلق طبقة وسطى كبيرة نسبيًا.
مستفيدًا من قاعدة اجتماعية صلبة بعد سنوات من مواجهته العسكرية للنظام الإثيوبي القديم في الثمانينيات، ومن قُربِه من الحزب الشيوعي الصيني، والذي استوحي منه فكرة خلق شبكة من رجال الأعمال والشركات الكبرى تنطلق بالاقتصاد بينما يمسك هو بخيوطها، نجح الحزب في توطيد حكمه في السنوات الماضية بجذب خمسة ملايين عضو إثيوبي من بلد يبلغ تعداده 100 مليون، وبشكل لا يبدو معه أنه سيرحل في أي وقت قريب، كما أوجد بسياساته الاقتصادية رضى واسعًا بين معظم الشرائح الاجتماعية في إثيوبيا بما همّش تقريبًا أي صوت معارض.
طموح إقليمي وعالمي
العاصمة الإثيوبية أديس أبابا
مثلت رئاسة وزراء ميليس زِناوي لإثيوبيا، والتي امتدت بين عامي 1991 و2012، فترة ظهور الطموح الإقليمي لإثيوبيا، وهو الذي وضع بلاده على طريق تحقيق دورها التاريخي في ريادة شرق أفريقيا ولعب دور قيادي في القارة الأفريقية وعدم الاكتفاء فقط بالتنمية الاقتصادية والخروج من الفقر والمرض، وهو ما دفعه إلى خلق تحالفات دولية واسعة، وتوطيد علاقاته الشخصية مع شخصيات دولية هامة مثل طوني بلير وبيل كلينتون وبيل جيتس وجوزيف ستيلجيتز، كما درس النموذج الاقتصادي لكوريا الجنوبية، ودخل في نقاشات مطوّلة مع الرئيس الصيني السابق هو جنتاو حول البنية التحتية، بالإضافة إلى تمثيل إفريقيا في قمة العشرين وقمم تغيّر المناخ.
ظهر وجود إثيوبيا بشكل واضح على الأرض في السنوات الأخيرة، أولًا عبر مشاركتها بالآلاف من جنودها في قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في منطقة أبيى المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان، وثانيًا عبر جهود الوساطة الدبلوماسية التي قامت بها بين أطراف النزاع الأهلي في جنوب السودان منذ استقلالها، وثالثًا عبر “مكافحة الإرهاب” بالمشاركة عسكريًا ضد حركة الشباب الصومالية، وهي سياسة تستمر بعد خروج زناوي من رئاسة الوزراء ودخوله خلفه هيلا مريام ديسالين، وزير الخارجية السابق.
تتمحور رؤية إثيوبيا حول تحقيق التكامل الإقليمي بينها وبين الدول المجاورة، مثل جنوب السودان وكينيا وأوغندا وتنزانيا، عبر تزويد تلك البلدان بالطاقة والمياه ومساعدتها على بناء بنيتها التحتية، ثم تصدير الكهرباء التي ستحصل عليها من السدود على النهر الأزرق وغيره من أنهار إثيوبيا، – وأبرزها بالطبع سد النهضة – لكل من بالمنطقة لتحقيق الريادة الاستراتيجية فيها، على غرار ما تفعله الصين المهتمة بالاستثمار في البنية التحتية أكثر من سواها في محطيها الاستراتيجي بآسيا.
سد النهضة
إذا ما نجحت إثيوبيا في ذلك، فإنها خلال السنوات المقبلة ستنقل مركز الثقل الإقليمي في وادي النيل من القاهرة إلى أديس أبابا، وفي شرق أفريقيا من نيروبي إليها، وسد النهضة تحديدًا، مشروع البنية التحتية الأكبر في أفريقيا، يقع في القلب من تلك الاستراتيجية، إذ يقلب تمامًا المعادلة القديمة التي هيمنت بمقتضاها مصر على وادي النيل، وهو ما يبدو أنه سيصبح أمرًا واقعًا مع الوقت، وهو ما دفع على الأرجح مصر والسودان إلى التوقيع على اتفاق النيل في مارس الماضي، وهو توقيع يعني ضمنًا الاعتراف بالوضع الجديد المرتكز لأديس أبابا في تسيير دفة النيل، ورغبة القاهرة في توطيد العلاقات الآن مع إثيوبيا بدلًا من تأجيل تلك الخطوة لوقت متأخر قد تصبح معه إثيوبيا ربما أكثر قوة.
بطبيعة الحال، لا يعني نجاح إثيوبيا حتى الآن أن طريقها معبد بالورود، إذ لا يزال البنك الدولي قلقًا من الفقر في المناطق الريفية بها، كما تعبر المنظمات المختلفة بشكل مستمر عن تخوّفها من ازدياد قبضة الدولة مع نجاحها الاقتصادي، بالإضافة إلى قابلية وصول التوتر الإقليمي إليها نتيجة متاخمتها للصومال المضطرب، وجنوب السودان الوليد المليء بالصراعات بين فصائله ومع جاره الشمالي.
***
ينتشر التفاؤل بين الكثير من الإثيوبيين هذه الأيام نتيجة صعود بلادهم الملحوظ إقليميًا ودوليًا، ونموها الاقتصادي الذي جعلها واحدة من أربع بلدان أفريقية فقط من المتوقع أن تكون من ضمن 16 اقتصادًا ستأخذ مكان الصين في الاقتصاد العالمي بامتلاكها لاقتصاد نمو سريع بعد أن تتجه الصين للمرحلة “اليابانية” بطيئة النمو وعالية المستوى المعيشي، وبالنظر لكون البلدان الثلاثة الأخرى هي كينيا وتنزانيا وأوغندا، والتي لا يمكنها أن تضاهي إثيوبيا من ناحية قوتها العسكرية وتعدادها السكاني وحجم اقتصادها، فإن أديس أبابا من المنتظر أن تصبح قلب تلك المنطقة، ورائدة “النمور الأفريقية” إن جاز القول خلال العقود المقبلة، وهو ما يجعلها بلدًا هامًا، ليس فقط في أفريقيا، ولكن للعالم العربي أيضًا، فإلى جانب علاقاتها التاريخية مع مصر، تملك إثيوبيا موقعًا سيسمح لها بلعب دور في التوازن بالبحر الأحمر وخليج عدن.