تعلمك الحرب أشياء كثيرة، أولها أن ترهف السمع وتنتبه لتقدر الجهة التي يأتي منها إطلاق النيران، كأنما صار جسمك أذنًا كبيرة فيها بوصلة تحدد الجهة المعينة بين الجهات الأربع، أو الخمس، لأن السماء غدت جهة يأتيك منها أيضا الهلاك”. رضوى عاشور
13 أبريل 1975
إنها شرارة بدء الحرب الأهلية في لبنان، التي استمرت لمدة 15 عامًا متواصلة، حتى كانت نهايتها في 13 أكتوبر 1991. بالأمس أتت ذكراها حاملة معها ما عاناه الشعب العربي بأكمله واللبناني والفلسطيني خاصة من ذكريات لازالت محفورة في وجوه كلا الشعبين، فكانت الحرب وكان القتل على الهوية.
في يوم 13 أبريل 1975 اندلعت الشرارة الأولى للحرب الأهلية في لبنان، حيث كانت محاولة لاغتيال، بيير الجميل، الماروني رئيس الكتائب اللبنانية، ذي الأغلبية المسيحية، وقت احتفاله في كنيسة “سيدة الخلاص” الخاصة بالروم الكاثوليك في عين الرمانة شرقي بيروت.
فشل المسلحون في النيل من الجميل، ولكن بعدها بدقائق جاءت سيارة أخرى بها أربعة مسلحين يطلقون النار على كل من كان متجمعًا أمام الكنيسة، استطاع رجال بيير الجميل القضاء على اثنين منهم، وإصابة الاثنين الآخرين، وأصبحت “عين الرمانة” بشبابها على أتم استعداد لأي هجوم آخر.
من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عاد الشباب المسلح بعد احتفالهم في مخيم “صبرا” في حافلة على متنها ما لا يقل عن 27 شابًا من الحركة، رافعين أسلحتهم ورايتهم منشدين أغانيهم الحماسية في زهو ليمروا من “عين الرمانة”؛ فتمطرهم أسلحة رجال بيير الجميل ظنًا منهم أنه هجوم جديد عليهم وعلى الكنيسة، وأردتهم قتلى جميعًا ماعادا سائق الحافلة، وأعلنت الكتائب اللبنانية مسؤوليتها عن إطلاق النار على الحافلة، والتي انطلقت منها الحروب والنزاعات في لبنان لما لا يقل عن 15 عامًا.
كان لمنظمة التحرير الفلسطينية رواية أخرى لما حدث في عين الرمانة أو ما سُميت به بعد ذلك بـ “مجزرة عين الرمانة”، حيث أعلنت المنظمة أنه نتاج تخطيط داخلي، إقليمي ودولي.
فسرت المنظمة أن الحادث له علاقة مدروسة بتولي سليمان فرنجية، رئاسة جمهورية لبنان والذي عزم على القضاء تمامًا على منظمة التحرير الفلسطينية والتخلص من اتفاق القاهرة الذي عقده كل من ياسر عرفات مع شارل حلو بإشراف جمال عبدالناصر.
نصّ هذا الاتفاق لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان على رفع يد المكتب الثاني للمخابرات اللبنانية وأدوات السلطة عن العبث بالمخيمات الفلسطينية ورفع القمع عن هذه المخيمات وذلك بتشكيل الكفاح المسلح الفلسطيني الذي يتولى الأمن داخل المخيمات، وضمان حق المقاومة من الجنوب في منطقة العرقوب لتمارس نشاطاتها ضد العدو الصهيوني.
سليمان الفرنجية عمل على التخلص تمامًا من كل ما شملته اتفاقية القاهرة، وأخذ في الهجوم المستمر على المخيمات الفلسطينية.
بالإضافة إلى وجود وزير الخارجية الأمريكي في لبنان وهو يهودي الأصل، الذي عمل جاهدًا مع كلا الجانبين السوفيتي والسوري للتخلص من منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان والتي تشكل خطرًا دائمًا على إسرائيل.
منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان
السبت الأسود 6 ديسمبر 1975
وجدت الميليشيات المسيحية أربعة جثامين لأشخاص يتبعوا حزب الكتائب اللبنانية في بيروت، على إثرها أقامات المليشيات نقاط التفتيش في كل أرجاء بيروت، ولأول مرة كان القتل على الهوية، وقتلت أكثر من 200 لبناني مسلم عرفتهم من بطاقات هويتهم، ليُسمى ذاك اليوم في التاريخ بالسبت الأسود.
انقسمت بيروت ومعها لبنان إلى المنطقة الشرقية وأغلبها من المسيحيين، والمنطقة الغربية المختلطة صاحبة الأغلبية المسلمة.
كانت المنطقة الشرقية محاطة بالمخيمات الفلسطينية، والمليشيات المسيحية تتسلل إليها لتقضي على من فيها من لاجئين وتابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية، ففي 18 يناير 1976 قضت المليشيات المسيحية على 1500 فلسطيني من المخيمات.
لم تهدأ منظمة التحرير حتى ردت للمليشيات الصاع صاعين فاقتحمت بلدة “الدامور” المسيحية وقتلت من قتلت من مئات سكان البلدة المسيحيين، لتنقسم بيروت أكثر وأكثر منها شرقية وغربية إلى بيروت المسلمة والمسيحية، وكان الخط الفاصل بينهما يُسمى بالخط الأخضر.
للجانب السوري دور كبير في الحرب في لبنان حيث:
دعم الجانب السوري المليشيات المسيحية بالأسلحة والدبابات والمستشاريين العسكريين في مايو 1976، دخلت القوات السورية، لبنان، واستطاعت السيطرة على كل من طرابلس وسهل البقاع وفرضت فيهما حظر التجوال إلا أنه لم يساهم أبدًا في وقف الاشتباكات.
استطاعات المليشيات المسيحية أن تقتحم مخيم “تل الزعتر” والذي كان تحت الحصار لمدة أشهر بدعم سوري، وقتلت الآلاف من اللاجئين الفلسطنيين.
وعلى إثره اجتمعت الدول العربية في أكتوبر 1976 وكونت ما أسمته قوات الردع العربية لاسترجاع الأمن في لبنان ووافقت سوريا على قرار جامعة الدول الغربية بالاحتفاظ بـ 40 ألف جندي ضمن قوات الردع العربية.
لم تعد لبنان كما كانت، فالجنوب وغرب بيروت الآن تحت سيطرة منظمة التحرير الفلسطينية والميليشيات المسلمة، والمنطقة الشرقية والقسم المسيحي من جبل لبنان تحت سيطرة الميليشيات المسيحية.
الغزو الإسرائيلي للبنان 14 مارس 1978
بداية الغزو الإسرائيلي للبنان كان بهدف خلق منطقة عازلة بعرض 10 كيلومتر بطول الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
ولكن في مايو 1987 انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان فجأة تاركة المنطقة الآمنة على الحدود تحت حمايتها.
“انفجار الصراع العربي الإسرائيلي في لبنان عام 1975، واللبناني اللبناني في لبنان عام 1975، والعربي اللبناني عام 1975، وكل الصراعات الأخرى في لبنان عام 1975، لم يكن سببه إلا ما أصبح فيما بعد واتضح فيما بعد أنه آخر حرب عربية إسرائيلية شاملة، وهي كانت حرب أكتوبر، هذا كله ليس مصادفة”. باحث وخبير إستراتيجي
الحرب السورية اللبنانية يوليو – أكتوبر 1978
حرب المئة يوم، هذا ما أسماه التاريخ لحصار السوريين لبيروت الشرقية “معقل القوات اللبنانية” وقصفها الشديد لها، لم ينته ذاك الحصار الخانق على بيروت إلا من خلال وساطة عربية لإيقاف إطلاق النار.
لم تتمركز القوات الإسرائيلية في الجنوب فحسب، ولم تكن تأمن حدودها فقط، إذ لم ينته صراعها مع منظمة التحرير بعد، فقد زحفت الطائرات الإسرائيلية حتى بيروت في السابع عشر من يونيو 1981 لتقصف مبنًا تابعًا للمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وتقتل 300 ضحية وتصيب 800 آخريين.
وزير الدفاع الإسرائيلي أرئيل شارون، في أغسطس 1981، هو الآخر لم ينه صراعه مع منظمة التحرير الفلسطينية، أراد أن يؤمّن حدود إسرائيل الشمالية وإلى الأبد، وقال إنه قد يتطلب القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية ضرب بيروت الغربية حيث مراكز قيادة المنظمة.
وعقد اتفاق سري مع بشير الجميل، المرشح لانتخابات الرئاسة، أن يساعده في الوصول لكرسي الرئاسة مقابل مساعدة شارون في القضاء على منظمة التحرير تمامًا.
وبالفعل في العام التالي، ضرب شارون معاقل المنظمة في بيروت الغربية وأردت 100 قتيل، وجاءه الرد من المنظمة بصواريخ حلقت في سماء إسرائيل منطلقة من جنوب لبنان.
6 يونيو 1982
اجتاحت القوات الإسرائيلية بدعم من المليشيات المارونية لبنان من الجنوب فاستولت على صيدا وصور حتى بيروت الشرقية. وقعت بيروت تحت الحصار من قِبل القوات الإسرائيلية لمدة سبعة أسابيع، قطعت فيها الكهرباء وكل إمدادات الماء والطعام للمدينة، كما لم تسلم سماء المدينة وأرضها من القصف العشوائي الذي أودى بحياة آلاف المدنيين.
12 أغسطس من نفس العام، اتفقت الأطراف على هدنة تقتضي خروج منظمة التحرير الفلسطينية تمامًا من لبنان وانسحاب القوات الإسرائيلية، بشرط توفر قوات أجنبية أمريكية وفرنسية وإيطالية للإشراف على خروج مقاتلي المنظمة وتأمين خروج آمن للمدنين كذلك.
مجزرة صابرا وشاتيلا 16 سبتمبر 1982
سجل التاريخ أعنف المجازر التي ارتكبتها الكتائب اللبنانية المارونية في تاريخها، وأعنف الجرائم التي خطط لها ونفذها جيش الاحتلال ضد الإنسانية في إبادة جماعية لمخيم لاجئين بأكمله. خرقت إسرائيل اتفاقية الهدنة ونقلت 200 مقاتل من ميليشيا القوات اللبنانية إلى المخيمات بحجة التخلص من 2000 مقاتل لمنظمة التحرير مختبئين داخل المخيمات.
اقتحمت المليشيات المخيم في الساعة السادسة مساءً، حاصرت القوات الإسرائيلية المخيم، وألقت بالقنابل المضيئة للسماء لتسهل على المليشيات مهمتهم داخل المخيم، قتلت المليشيات ما يقرب من 3500 فلسطيني لم تفرق بين الأطفال والنساء، كل سواء تحت نصل الأسلحة البيضاء، وغاصت الأقدام في الدماء.
“القضية مش مشكلتنا مع فلسطين، لا يوجد أحزاب لبنانية، هناك طوائف لبنانية، ولم تقدر طائفة واحدة على السيطرة وتوحيد هذه الطوائف”. رئيس المخابرات اللبنانية
17 مايو 1983 تم توقيع ما سمي باتفاقية السلام بين إسرائيل ولبنان، وأقرت بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية، لكن لم تنته المعارك والمجازر العنيفة بين الأطراف المتناحرة كذلك التفجيرات ضد كل ما كان ينتمي للكيان الأمريكي في لبنان، في تلك الأعوام ظهر حزب الله كقوة شيعية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، أما عن المخيمات فاستمر تدميرها تدميرًا شبه دائم وكلي بدعم من الجانب السوري.
رئيسان، حكومتان وبلد واحد
سلّم أمين الجميل، الرئاسة لعماد الجيش اللبناني ميشيل عون الذي رفضته الكتل الوطنية وأصرت على تولي رئيس الوزراء الحكم حتى يتم انتخاب رئيس؛ وبذلك أصبح للبنان حكومتان واحدة عسكرية مسيحية في بيروت الشرقية، والثانية مسلمة في بيروت الغربية.
1989 إنهاء الحرب الأهلية صار وشيكًا باتفاق “الطائف” بالسعودية وانتخاب رينيه معوض رئيسًا، لكنه قُتل بعد انتخابه بـ 16 يومًا، فتم في السنة التي تلتها إقصاء ميشيل عون عن الرئاسة وتم نفيه في باريس وإعدام المئات من أنصاره.
1991 تم تعيين الحكومة بقيادة الهراوي وإصدار البرلمان اللبناني في مارس من نفس العام، وتم إصدار عفو عن كل جرائم الحرب التي حدثت في 1975.
انتهت الحرب، ورحل معها ما يقرب من مائتي ألف قتيل، من كل الأطراف ومن كل الديانات، بمختلق الاعتقادات السياسية والانتماءات الحزبية، الموت واحد والكل سواء.
أزهرتْ جراحُ شعبي أزهرتْ..
دمعةُ الأمّهات..