الخرطوم ولا شيء غير الخرطوم، الهجرة إليها، وإن كانت هناك دراسة موثقة، ستجد أنها المدينة الأولى في الوطن العربي من حيث استقطابها لأهلها من المدن والقرى الأخرى، فحين نتحدث عن امتدادها في الجهات الثلاث (الخرطوم – أم درمان – الخرطوم بحري)، ستنجد أن الامتداد يصل إلى حد لا يوصف، وستلقى أن الثورات مضت بعيدًا من الحارة الأولى وحتى جاوزت التسعين إن لم تخني الذاكرة، وجنوبًا كان أبعد حاراتها الكلاكلة، فقد وصلت الآن إلى جبل أولياء (44 كيلومترًا جنوب الخرطوم) وما بعدها، أما الخرطوم بحري فقد وصلت الكدرووتشارف حدود ولاية نهر النيل عند جبل قري و(الشلال السادس على النيل) شلال السبلوقة، إنه التكدس الأكبر، باختصار السودان كله في الخرطوم.
أين المدن الأخرى، يا سبحان الله، من نطلق عليه ونناديه الكافر مد خطوط السكة الحديد – وإن كانت لصالحه – إلا أنه بنى معها مدنًا بعيدة، الأبيض يصل إليها الخط الحديدي قبل مئة عام من الآن وتزدهر، كذا مدينة كسلا وبورتسودان والقضارف، وبنى فيها المباني الإدارية ويستقر الناس في تلك المدن ولا يبارحها أهلها.
إن الأسئلة حول الهجرة من الريف والمدن الطرفية إلى العاصمة لتأخذ دراسات عدة، لكن من اختار لنفسه اسم الإنقاذ لم يعمل أصلاً على تطوير تلك المدن، وتدريجيًا عامًا بعد عام وحتى وصلنا ربع قرن من الزمان وجدنا أنفسنا قد هجرنا مدننا الجميلة وتكدسنا في الخرطوم، كمثل أهلنا في دارفور والذين تهدمت قراهم وأريافهم، من لم يستطع منهم الهجرة إلى الخرطوم، هاجر إلى نيالا والفاشر.
هل نحن الآن وبعد ربع قرن من الزمان نعرف شيئًا اسمه الريف؟ هل نشعر الآن بجماليات هذه الكلمة؟ وهل لها في قاموسنا أي إحساس أو فهم؟ الكلام الجميل لدينا موقعه في برامج التلفاز والإذاعة، ولكن على أرض الواقع انظر إلى الهجرة القوية نحو الخرطوم والخرطوم فقط، فهناك قرى بأكملها هاجرت إليها.
لكن وسط كل هذا السواد، والحق يذكر، يجب أن نثني على محمد طاهر ايلا والذي جعل من بورسودان موقعًا متميزًا، وسمعت أن الرجل قال “لولا نقص الماء بين يدي لجعلت من بورسودان دبي السودان”، ومن مفارقات القدر وعندما نصحه البريطانيون أن أفضل نظام خدمة تركوه في السودان اختار الشيخ زايد المهندس كمال حمزة وقال له: أبغى أبو ظبي تصير مثل الخرطوم!! بورسودان الآن ملفتة بتنسيقها وترتيبها.
لقد عشت ردحًا من الوقت في مدن شمال كردفان، الرهد، أبو دكنة، وحاضرة الولاية الأبيض وفي النيل الأبيض بمدينة كوستي، كانت مدن مكتفية والحياة فيها مقدور عليها، ولكن تدريجيًا مع منتصف تسعينات القرن العشرين بدأت الأوضاع تتدهور؛ فهاجر من هاجر إلى الخرطوم وهاجر الآخر إلى الخارج في كل الأصقاع، أعطني مشروعًا تنمويًا واحدًا عمل على استقطاب الناس ورضوا بالهجرة؟ لا شيء، الرد صفر.
وتسمع إلى عثمان طه النائب السابق للرئيس وقد زار الجنينة ووضع شعارًا خلفه “سنعيدها سيرتها الأولى”، ومع تقديري لكل مدننا، أقول من يحلم بذلك؟ أعد لنا الجنينة وإن استطعت أن تعيد الروح لود مدني فهنيئًا لنا!
ود مدني حينما أعبر شوارها وأرى منظرها اليوم أشعر بالأسى ويطفر الدمع من عيني، مدني الغنية بذاك الكم الهائل من المثقفين والعلماء والمبدعين، ترى وكأنها مدينة أطلال، كم أعود إلى أيامها البيضاء الجميلة وذلك القطار السعيد وقد عبر بنا عبرها.
مدني ود السني وقد تغنى بها الفنان المبدع محمد الأمين، وبالقرب منها حنتوب وقد تغنى بها الخير عثمان، هل يستطيع الآن أحد أبناء المدن البعيدة أو القريبة أن يغني لها ويتغزل بجمالها، لا لن تجد من يفعل ذلك.
وحتى الخرطوم صارت سماحة جمل الطين، بعض الشوارع الرئيسية، ولكن تُفاجأ بالحارات والقاذورات فيها، مطوقة بالفقر ومدن الصفيح.
يا أهل الإنقاذ هل منكم من يستطيع أن يقدم لنا ثورة العودة إلى مدننا الجميلة القديمة؟ وهل منكم من يعيدها سيرتها الأولى فعلاً لا قولاً، أشك في ذلك مع ارتفاع سعر التكلفة وارتفاع عدد من يريدون أن يحققوا الثراء لأنفسهم على حساب أهلهم.
وإن كنا قد سبقنا من حولنا في تخطيط المدن وترتيبها، فإني أحيل أهل حكومتنا الرشيدة إلى منظمي أيكولوجية المدن في السعودية ليأخذوا من أهل البلديات هذا الترتيب لكل المدن، والعمل على جعل كل مدينة مكتفية وكافية لأهلها، فلن تجد أحدًا في شرورة – وهي أبعد مدينة في الجنوب السعودي – أو ينبع في أقصى الغرب، يحتاج أن يذهب إلى العاصمة ليكمل أعماله ومهامه، فكل شيء يريده يجده في مدينته.
ولكن عندنا وحتى نلتقي في درديب مدينة مستقبلية، أو الفشاشويا منطقة مناسبة للعيش، بلغوا تحياتي إلى المشروع الحضاري وطريق الإنقاذ الغربي وإلى كل مشروع تنموي لم يكتمل، وأتمنى ممن تغضبهم صراحتي تجاه المسيئين لنا أن يعملوا فكرهم ويجتمعوا للنهوض بهذا البلد المغمى عليه قبل فوات الأوان.