1
تجفل أمينة عهدة الأدوية في مكان عملي عندما أخبرها أني قد قطعت المسافة من المركز الطبي للمركز المجاور سيرًا، تأخذها الدهشة بينما تقول لي “دي بعيدة عننا بعزبتين”، أحاول إخبارها أن مسيرة الربع ساعة لا تعد مسافة أصلاً، ثم أعدل عن محاولتي وأكتفي بابتسامة وإيماءة رأس، يقاطعنا صوت عزيزة جلال الصادر من مذياع بائع البطاطا المعتاد، أستمع للأغنية المذاعة، بينما أفكر أن تلك الذكرى السماعية هي كل ما سيتبقى بذهني بعد انقضاء تلك الأيام.
ثلاثة أيام أسبوعيًا، هي فترة مناوبتي كطبيب صيدلي بأحد المراكز الحكومية، هي أيضًا عدد الأيام التي يستغرقها المشهد كي يعلق بخزانة ذاكرتي لبقية الأسبوع: رجل عجوز يرتدي جلبابًا، ويجر حمارًا، يجر بدوره عربة كارو، يستقر أعلاها وابور فحم لشوي البطاطا، بينما يغلف المشهد كله صوت الموسيقى الصادر من مذياعه، مرات كثيرة يخفت التكوين البصري تمامًا، ليبقى صوت مذياعه فقط في المكان، مرات أخرى حاولت قياس حدة صوت المذياع دون جدوى، هو فقط عالِ، عالِ لدرجة أن نسمعه في كل مكان؛ فالقرية تشغل مساحة لا تتعدى الكيلومتر مربع، ومع حدة صوت المذياع، تتحول النغمات الصادرة منه لشريط صوتي متصل يدور في خلفية كل حيوات أهل القرية، ويضم في باطنه كل ما يقع وراء تلك الأبواب.
أم كلثوم، عزيزة جلال، مدح السيرة، لا يوجد مغني مفضل لصاحب المذياع، فقط يتنقل باستمرار بين نغمات مختلفة وأصوات مختلفة، غير أنها جميعًا تتوحد على طابع مميز شديد الألفة، حاولت كثيرًا إدراجه تحت مسمى أو مقام أو حتى قالب موسيقي، فلم أعرف، هو طابع شبيه برائحة التراب واختلاطه بضجيج سوق القرية، في النهاية، حسمت رأيي، وقررت أن جميع أغاني المذياع لها رائحة البطاطا.
2
شطر كبير من ذاكرة الصورة المكونة لطفولتي ينتمي لبيت جدتي، وشطر كبير من ذاكرة الصوت المكونة لبيت جدتي ينتمي لتلاوة المنشاوي، أما عن البيت، فقد كان يتكون من صالة وحجرة صغيرة تكادا تخلوان من كل شيء، إلا راديو قديم يبث إذاعة القرآن الكريم طوال الوقت، في بيت جدتي لم يوجد تلفاز أو هاتف، فهي لم تكن تحب أن يشغلها أي شيء عن “كلام ربنا”، لذا، فبالنسبة لطفلة لم تكن تعرف معنى “كلام ربنا” – ناهيك عن التشويش المصاحب له من موجات الراديو المختلفة – فقد كانت تسليتي الوحيدة تتمثل في الوقوف لساعات في شرفة حجرتها، ومحاولة التماهي مع خيالات الوجوه البادية في شاشة تلفاز الجارة في الجهة المقابلة، صورة بدون أية أصوات، بمرور الوقت، وبتدريبات ذهنية مكتسبة بالممارسة، تعلمت كيفية التشويش على صوت المنشاوي الذي يخترق أذني، وإخفاء كلام ربنا في طبقات عقلي، لأتمكن من تخيل سيناريو مناسب للمشاهد المعروضة أمامي.
فيما بعد ماتت جدتي، بينما كبرت لأصبح أحد هؤلاء الذين يحبون المنشاوي، ويعجزون أمام بلاغة كلام ربنا، بل والأكثر من هذا، أصبحت أسيرة للتشويش المعروف ضمنيًا بـ “زنة الراديو”، وأجتهد في وصف مدى مؤانسته، تسألني أمي فأخبرها أن التشويش ينتج عادة من ضعف تردد موجات الصوت، ومزاحمته من قبل موجات مجاورة بترددات مغايرة، لذا، فكلما زاد التشويش، كلما زادت عدد الموجات الدخيلة، والتي تزاحمها النغمة الأساسية، لتسكن في النهاية في زوايا حجرتك، أقول هذا لأمي، وأسترجع كم المؤانسة التي اعتاد المنشاوي أن يمنحها لي في طفولتي.
مؤخرًا .. تحب أمي أن يتردد صوت المنشاوي بكثرة في المنزل، تقوم بتدوير مشغل الموسيقى الخاص بهاتفها، فينبعث صوته في حركة دائرية إلى أن يسكن تمامًا، في زوايا الحجرة، وداخل الأدراج، وخلف الأبواب وقتها أكرر اللعبة القديمة، فأخفض صوت التلفاز تمامًا محاولة تخمين الحوار المناسب للمشهد، وهذه المرة، أسمح لصوت المنشاوي أن ينساب بين طبقات وعيي.
3
المدينة الكبيرة تبتلع الأصوات وتلفظ الجميع، يقولها لي صديق تعقيبًا على سؤالي له عن شريط الصوت الخاص بالقاهرة، أتفق جزئيًا ولا أجادله، بينما ننصت سويًا لصوت “بيلي هوليداي” المنتشر في المقهى، أفكر أن المدينة تعزز الذاكرة العطرية للأصوات، فمثلاً منطقة وسط البلد كلها لها رائحة موسيقى الچاز، والتي تلتصق بذهني برائحة التبغ، ألحظ الفارق بين موسيقى الجاز والنغمات الشرقية التي أسمعها في مكان عملي، أخبر صديقي فيحدثني عن نغمة الربع تون التي تميز المقامات الشرقية، أستفسر فيشرح: هي نغمة مستحدثة في الموسيقى الشرقية، عبارة عن ربع المسافة المقطوعة بين نغمتين على سلم الموسيقى، أغادره متجهة للمترو، هناك يتبدل شريط الصوت ليتحول لصوت احتكاك عجلات القطار بالسير، طبقات مختلفة من أصوات الركاب والباعة الجائلين، وصفارة تدوي كل أربعة دقائق، هي المسافة المقطوعة من محطة لمحطة تالية، في محطة رمسيس أخلص نفسي بصعوبة من الزحام الخانق، اتجه للمخرج، أتجاهل المخرج القريب المؤدي للسبتية قاصدة مخرج محطة القطار، في الممر المؤدي للمحطة أتعمد إبطاء خطواتي وأتمهل لمراقبة كل الخطوات السريعة من حولي، والتي تخص مسافرين في عجلة للحاق بمواعيد القطارات، أغمض عيني وأنصت لوقع أقدامهم، أشكل منه إيقاعًا سريعًا، وفي وصلة نشاز أبدأ في الغناء بصوت بالكاد أسمعه، أستمر في الغناء إلى أن تنبعث بأنفي رائحة البطاطا، أفكر أن تلك الرائحة هي نغمة الربع تون الخاصة بي، ثم أستكمل طريقي .