شهدت محافظة قفصة بالجنوب الغربي التونسي صيحتي الأولى وضحكتي الأولى ودمعتي الأولى، مدينة تتجاوز التجسيم الجغرافي لتتشكل حسب مزاجك: جملة من المعاني أو فوضى من الأحاسيس وأحيانًا ملف للدرس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وأنت تحاول الكتابة عنها تتمكّن منك الحيرة، بأي قلم أكتب ومن أي خلفية أنطلق؛ الغزل فيها مشروع كما الهجاء، الشعر لن يوفيها حقها، هل أجرّب الاسترسال؟ مقالة أم مقامة؟ تراجيديا أم ملحمة أم كوميديا؟ رواية أم قصة أم أكتفي بالصمت في حضرة كل هذا؟
وبعد كل هذا الارتباك أشفقت على نفسي، فإن كانت مدينتك متمرّدة فإن التعريف بها يحتاج بعض الهدوء الممزوج بالكآبة.
الكلمة للجغرافيا
تقع ولاية قفصة بين السباسب العليا والصحراء على الفرع الجنوبي للأطلس الصحراوي بالجنوب الغربي للبلاد التونسية على مساحة 780775 هكتار تعد 337.331 ساكن حسب إحصائية المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2014 في نقطة التقاء طرقات رئيسية تفتحها على مختلف مدن الجمهورية وتربط شمال البلاد بصحرائها، كما تتقاطع فيها الطريق المغاربية (سرت وتبسة) والطريق الأفريقية (تونس – النيجر عبر قفصة – حزوة)، تتوسط الولاية ثلاثة أقاليم اقتصادية وتحيط بها خمس ولايات على شعاع 100 كلم تقريبًا في شكل هلال مفتوح، وقد تأسست هذه المدينة إداريًا بعد الاستقلال سنة 1956 لتضم 11 معتمدية، 8 بلديات و76 عمادة.
وتعتبر منطقة قفصة نقطة تتداخل فيها وحدات جبلية ومنخفضات وأحواض وسهول وهي منطقة انتقال من المجال السباسبي إلى المجال شبه الصحراوي، ويرتكز نشاطها الاقتصادي أساسًا على الفسفاط، فهي مدينة منجمية، بالإضافة إلى الأنشطة الفلاحية المتنوعة.
إرث الحضارة الممتد
تسمية قفصة هي اشتقاق عربي للتسمية اللاتينية CAPSA، ابتكر منها الباحث دي.مورغان كلمة (CAPSIEN) اسمًا للحضارة التي تعود للعصور الحجرية القديمة، وتمثل جهة قفصة أهم مراكزها، ومثال ذلك “الرمادية” (الكدية السوداء بحي الدوالي) التي يحتضنها جبل العسالة بالقرب من واد بيّاش، وهي عبارة عن ربوة من الرماد والحجارة المتفحّمة وقواقع الحلزون والصوان المكشوط، تقوم شهادة على نمط عيش إنسان الحضارة القفصية وعراقة استقراره بهذه الربوع منذ آلاف السنين.
انتشرت الحضارة القفصية انتشارًا واسعًا وأثرت في عدة حضارات أخرى، ويقول المؤرخ ريغاس إن أصل مدينة فرنسا بل أوروبا في طور من أطوار “الباليوتية” وهو الطور “الأورنياكي” نشأ عن قدوم موجات من رجال المدينة القفصية وذلك لأن الآثار الموجودة بقفصة سبقت في التاريخ نفس تلك الآثار الموجودة بأوروبا والتي هي من نوع ما وقع العثور عليه بمدينة “أورياك” بفرنسا ولذلك لقبوا ذلك الطور “بالطور الأورنياكي” عندهم وهو ما يقابل الطور القفصي عندنا، كما يكشف موقع المقطع (شمال مدينة قفصة) عن رهافة حسه الفني وإجادته فنّ النحت.
تأسيس مدينة قفصة، قديم وغير معهود تنسبه الأسطورة التي أوردها اللاتيني سالوست إلى الإله “أليي” أو الفينيقي “هرقل”، والمصادر العربية الوسيطة تنسبه إلى “شنتيان غلام النمرود ملك الكلدانيين الأسطوري”، والواقع أن ظروفًا موضوعية ساعدت في نشأتها خصوصًا مميزات موقعها الجغرافي: فهي توجد عند ملتقى عدد من المسالك الطبيعية المؤدية إلى كل من واحات الشطوط وقابس ومقاطعة البيزاسين ومكثر وتبسة ووجود عدد هام من عيون الماء الطبيعيّة التي مثلت شريانًا حيويًا للاستقرار، وبالتالي تمتاز قفصة بعراقة تاريخها الذي تعاقبت ضمنه عدة حضارات، تعتبر مجال استقرار بشري حيث يعتبر معلم “القطار” أقدم المعالم الدينية المكتشفة يجسد بناء بسيطًا أقامه الإنسان منذ ما يقرب عن 40 ألف سنة ق. م على ضفاف سبخة لغايات عقائدية للمحافظة على منبع الماء ويتمثل البناء في كومة مخروطية الشكل تتركب عناصرها من حجارة وعظام حيوانات وأدوات من الصوان يعود إلى العصر الموستيري وكذلك الآثار المتنوعة خاصة بمنطقة الجفارة قرب مدينة الرديف ويحتوي متحف قفصة على نماذج من أشكال الصوان المتنوعة التي كان يعتمدها إنسان ما قبل التاريخ في أنشطته، كما كانت إحدى أهم مدن ولاية أفريقيا البروقنصلية في العهد الروماني حيث كانت تعرف بتسمية قبصة كما اندمجت بعد الفتح الإسلامي في الحضارة العربية الإسلامية.
أما الفتح الإسلامي فقد تم نهائيًا سنة 79هـ الموافق لـ 698م على يد القائد العربي حسان ابن النعمان وقد كانت قفصة عاصمة لإقليم شاسع يعتبر ثالث إقليم في أفريقية وبدخول الهلاليين المنقطة وفقدان الحكم المركزي للدولة الزيرية السيطرة على البلاد التي آلت إلى دويلات كانت قفصة عاصمة لإحداها وهي دولة بني الرند التي عمرت قرنا كاملا (445 – 545هـ) وانتهت بقيام الدولة الموحدية بالمغرب. وهزمت قفصة سنة 583 هـ على يد المنصور الموحدي نتيجة عصيانها لدولة الموحدين.
وقد حافظت المدينة على أهميتها خلال العصر الوسيط ضمن شبكة الطرقات الرابطة بين المشرق والمغرب وبلاد السودان عبر عنها الإدريسي بقوله: “مدينة قفصة مركز، والبلاد بها دائرة”، وفي العهد الأغلبي شيّد بمدينة قفصة خلال القرن التاسع ميلادي الجامع الكبير الذي عرف بجامع صاحب الوقف والذي مازال شامخا بصحنه المحاط بأروقة من الجهات الأربعة وقاعة صلاة تقوم على أعمدة وتيجان قديمة، كما ذكرت بعض المصادر أن مدينة قفصة كانت محاطة بأكثر من مائة قصر تعرف بقصور قفصة، وتوفر شتى أنواع الفواكه وخاصة الفستق الذي يصدّر إلى سائر مدن أفريقيا ومصر والأندلس وسلجماسة.
وقد نمت المدينة في العصر الحديث بعد اكتشاف واستغلال الفسفاط في ربوعها بعد 1886 كما تخصصت في في الصناعات التقليدية خاصة صناعة الزربية والأثاث التقليدي وهي تقترب من الشمال في طبيعتها الصناعية وإلى الجنوب بواحاتها.
مدينة ثائرة بالفطرة … على غياب الثروة
خلال الحقبة الاستعمارية التي امتدت من 1881 إلى 1956 خضعت المنطقة إلى الحكم العسكري المباشر وقد جسدت من خلالها نموذجًا للنضال الوطني المتنوع في أشكاله بما فيها المسلحة، حيث اندلعت شرارة المقاومة من جبالها الممتدة كما عاضدت المقاومة الجزائرية.
وفي مرحلة لاحقة، ورغم الثروة المنجمية التي تكتنزها هذه المدينة، عرفت قفصة تهميشًا مُنظمًا من دولة ما بعد الاستقلال وبحسب الرّوايات التي يتناقلها السكان هنا، فإن “الأصول القفصية” لبعض اليوسفيين (وهم مجموعة ممن قاوموا الاستعمار واختلفوا مع بورقيبة في مسائل جوهرية من بينها مساندة حركة التحرر الوطني الجزائري وقام بورقيبة بإعدام بعضهم وسجن البقية) كانت وراء غضبة الرّئيس الأوّل لتونس كما غضب على مدن أخرى وكان جزاؤها الاستثناء من منوال التنمية لدولة ما بعد الاستعمار.
تراكم هذا الحيف الجهوي الذي كرّسته أعلى سلطة في البلاد أفرز تأخرًا على مستوى البنية التحتية، حيث إنه لم يتم بعث سوى أربع مؤسسات بقفصة بين سنة 1957 وسنة 1987 وهي مؤسسات صغيرة وخاصة تمتلكها عائلات من قفصة وتربط بين المدينة وبين مناجم المظيلة، الرديف، صهيب وأم العرائس، وحتى بعد انقلاب السابع من نوفمبر ظل الحال على ما هو عليه لتصبح من أكثر المدن التي ترتفع فيها نسب البطالة ومن أسوء المدن التي يطيب فيها العيش بغياب الاستثمار في البيئة والصحة والتعليم.
وهو ما أدى لاندلاع أحداث الحوض المنجمي سنة 2008، حيث ثار سكان هذه المنطقة على التهميش وكان لهم السبق في رفع مطالب العدل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة لحكم بن علي الذي تعامل بكل وحشية مع هذه التحركات والتي رُفعت لاحقًا في حراك 17 ديسمبر 2010 الذي أفضى إلى خلع بن علي.
وبعد الثّورة، شهدت المدينة عددًا كبيرًا من الإضرابات، التي يقول البعض بأنها كانت مُسيسة، ما أدى إلى انقطاع إنتاج الفوسفاط لفترات متفاوتة، خاصة وأن أغلب ساكني هذه المنطقة يعتبرون أنهم لم يحظوا سوى بالأمراض من هذه الثروة المنجمية.
هي مدينة الحضارة والتاريخ، وهي مدينة الثروة والفقر والتهميش، هي مدينة المتناقضات التي رغم قساوتها يشتاقها من يزورها بواحاتها وطيبة أهلها، مدينة تنتظر فرجًا قريبًا أو ربما قد تفرض فرجها بأيديها.